​تشهد منطقةُ الساحل الإفريقي والصحراء تطوُّرًا ملحوظًا في الصراع بين تنظيمي «القاعدة» وداعش» الإرهابيَّين؛ بهدف السيطرة وإحكام النفوذ بالمنطقة. فالطرفان يحاولان إثباتَ الذات والسيطرة في مِنطقَة الساحل؛ مستغلِّين الموقعَ الجغرافي المناسب لتنفيذ العمليات الإرهابية، فضلًا عن عواملَ أخرى، منها: اتساعُ المساحة الجغرافية، وتفاقم الانتماء القبَلي، والصراع على الموارد غير المتجدِّدة، وجفاف التُّربة. وتشمل مِنطَقةُ الساحل والصحراء كلًّا من: موريتانيا، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد.

خلاف وصراع
من الواضح أن تنوعَ الإرهابيين واختلاف توجُّهاتهم في العقود الأخيرة فجّرا صراعاتٍ كثيرة، وقد وجَدت الحركة الإرهابية في مِنطَقة الساحل منذ سنة 2007م، مَن هم على استعداد لتبنِّي توجهاتها، ومساعدتها على بسط النفوذ والسيطرة في غربيِّ إفريقيا. وفي أعقاب الانهيار العسكري لتنظيم داعش في الشرق الأوسط سنة 2017م، تغيَّرت الخريطة الجيو سياسية للتهديد الأمني في هذه المنطقة.

ومن الناحية العملية يبرُز التهديد الإرهابي الرئيس في ثوبه الجديد؛ متمثلًا بفرع الساحل التابع لتنظيم القاعدة، المعروف باسم جماعة نُصرة الإسلام والمسلمين (GSIM)، وبفرع تنظيم داعش في الصحراء الكبرى (EIGS). ومنذ بداية 2020م اندلعت المعاركُ العنيفة بين الفصيلين الإرهابيين؛ مما أثار الكثيرَ من النقاش والتحليلات على المستوى السياسي والعسكري.

تغيير النهج الإستراتيجي
تزداد الأزمة في مِنطَقة الساحل تعقيدًا بسبب أمور عدة، منها: محاولة السيطرة على الموارد الطبيعية، وكثرة نِقاط التهريب، والنضال من أجل التحرُّر. مما أدى إلى فوضى اجتماعية وسياسية، أفضت إلى دعم الجماعات الإرهابية التي تعمل على فرض خُطتها السياسية والعسكرية المتمثِّلة في مفهوم «الأراضي المحرَّرة» أساسًا لتوسيع الإرهاب الذي نظَّر له زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كتابه (فرسان تحت لواء الرسول). وبات الارتباطُ بين مفهوم الإقليمية وطريقة العمل هو الأساس لبقاء المنظمات الإرهابية المختلفة، ولا سيَّما تنظيمَي «داعش» و«القاعدة». 

يشترك كلٌّ من التنظيمَين المذكورَين في الأهداف نفسها تقريبًا، وهي قائمة على ادعاء تحكيم شرع الله في الأرض؛ فأما تنظيمُ «داعش» فأنشأه ادعاء الشُّورى على قطعة أرض هناك، ثم اتجه للسيطرة الجغرافية على الإقليم كلِّه. وأما تنظيمُ «القاعدة» فأُسِّس هناك وَفقَ ادعاء مفهوم الفكر والهُويَّة الإسلامية، دون اهتمام ببسط النفوذ جغرافيًّا، وكان قد ولد تنظيم القاعدة من رحم المواجهة الثنائية القُطبية، وظلَّ ثابتًا على تنظيمه الهرمي، الذي تنشأ وفقه الأوامرُ والتوجيهات الإستراتيجية؛ إلا أن أمراء التنظيم في مِنطقة الساحل اعتمدوا نهجًا إستراتيجيًّا عسكريًّا مغايرًا قائمًا على الأحوال والوقائع المحلِّية، والدعوة للجهاد المصيري على أسُس تاريخية وجغرافية، واستحضار الشخصيات البطولية المحلِّية، التي ترمز للجهاد الفولاني الهجومي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الذي يمثله سليمان بال، والحاج عمر بن سعيد تالّ الملقب بالحاج «عمر الفوتي» في مِنطَقة الساحل، وعثمان دان فودْيو، مؤسس ولاية سقطو «سوكوتو» بنيجيريا، والمرجع الإقليمي في غربي إفريقيا.

ومنذ تعزيز التعاون الدَّولي لمكافحة الإرهاب، تكيفت التنظيمات الإرهابية مع طريقة العمل الدَّولية الجديدة، وذلك بتطبيق النظرية القائمة على اللامركزية في العمل الإرهابي، أي تخلِّي المنظمات عن الهرمية الإقليمية لصالح نمط جديد من الإرهاب، يقوم على شبكات دون قيادة تقريبًا، مع تخفيف جمود العقيدة القتالية، لئلا تَعُوقَ تحقيق المشروع الإرهابي. ومن ذلك الكِيانات الجديدة المتحركة «ذاتية القيادة» التي تنشط دون هوادة تحت لواء «داعش» في الصحراء الكبرى (ISGS).

النفعية ونظريات الحرب
إن النفعية الظاهرة لدى بعض قادة الإرهاب في مِنطَقة الساحل أدَّت إلى تهجين العمل الإجرامي والعمل الإرهابي، واتُّخِذَ التهريبُ والأنشطة الأخرى الخارجة عن القانون أساليبَ للتعتيم، وحِيَلًا للدفاع في صمت عن مشروع الغزو. فأميرُ داعش في الصحراء الكبرى (ISGS) لحبيب ولد عبدي ولد سعيد ولد البشير، الملقَّب بأبي وليد الصحراوي، صاحبُ أفكار متطرفة، وهو مقتنع بعدالة الصراع الديني، ويجمع بين النفعية وادِّعاء السلفية المـُحافظة. وتعتمد إستراتيجيته الرئيسة المحلِّية النزعة على نظرية المعركة التي اشتَهر بها بترايوس (Petraeus)، وروبرت تابر (Robert Taber)، والتي تدعو إلى شدِّ روابط التواصل الاجتماعي مع السكَّان، وتعبئة الشخصيات المحلِّية القادرة على ضمان الموارد المالية والبشَرية، ولا سيَّما مع عودة العنف إلى الانفجار مع غياب المبادرات من الدول الفاعلة، بسبب الخلاف على الأسلوب والنهج. 

ومن الواضح أن قوة داعش في الصحراء الكبرى (ISGS) تكمن في قدرتها على تكييف نظريات حرب العصابات الرئيسة (الماوية واللينينية) مع نضالها الإرهابي. وقد عملت على جرِّ المجتمع بأكمله ولا سيَّما الشبابِ إلى العنف، وكانت البداية بتدمير الهياكل المجتمعية الحكومية المحلِّية التي كانت أسسَ الصمود، ثم الهجوم المباشر على قوى الدفاع والأمن (مخيَّم إيناتيس Inates) في النيجر، و(إنديليمان Indelimane) في مالي. وفي سنة 2019م زادت الجماعاتُ الإرهابية هجَماتها المباشرة على المنشآت الدفاعية الثُّكْنات، والألوية، ومراكز الشرطة، ونِقاط المراقبة؛ مما دفع المؤسسات العسكرية في الميدان إلى اتِّباع نهج العنف العام أو الفوضى، الذي تدعو إليه الإستراتيجيات الإرهابية. وقد تبنَّت هذه المؤسسات الرؤيةَ الإستراتيجية الخالصة لـ «برنارد برودي» التي تدعو نظريًّا وعمليًّا إلى العمل بمعزل تام عن الأخلاق، مما قادهم إلى ارتكاب كل أنواع الفظائع القتل الجماعي، والاختطاف، والانتهاكات خارج نطاق القضاء. وأدَّى هذا إلى فِقدان الثقة بين قوات الدفاع والأمن من جهة، والسكَّان من جهة أخرى، وتسهيل تجنيد الجماعات الإرهابية واندماجها في المجتمعات. 

وكذلك أدَّى شعور السكان الذين يتعرَّضون لانتهاكات الجيش والحركات الإرهابية بفَقد الأمن إلى إنشاء مجموعات للدفاع عن النفس، وفي هذه المجتمعات التي تسيطر عليها الجماعات المسلَّحة التي تعاني بسبب النزاعات على اختلاف أنواعها، تضع التنظيمات الإرهابية الدَّولية أسسًا لمشروع هيمنتها.

حرب التمويه
نشأت التنظيمات الإرهابية القتالية الحديثة التي يجسِّدها تنظيم القاعدة في أعقاب الحرب الباردة، واتخذت لنفسها موقعًا وَسْطَ تناقضات إعادة هيكلة المجتمعات الوطنية والدَّولية في مرحلة ما بعد القُطبَين، أي ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فمن العالم الغربي إلى إفريقيا مرورًا بالشرق العربي، أرسخت المنظمة نفسها مكوِّنًا جيوسياسيًّا، غيَّر في البنية التقليدية للمذاهب السياسية الدبلوماسية، وفي العَلاقات بين القوى التقليدية. وفي ظلِّ هذه الظروف ظهرت بِنيةٌ إرهابية فوقية سنة 2006م باسم (تنظيم داعش) في العراق وسوريا.

كشفت الاشتباكات بين تنظيمَي داعش والقاعدة في أوائل سنة 2020م في مِنطَقة الساحل، وَفقًا لبعض التحليلات، عن العدوى القابلة للانتشار؛ إذ من المرجَّح أن تُنهِكَ قوى الحركات الإرهابية قاطبة. ومن الواضح أن مثل هذه التحليلات تُسيء فهم جوهر الإرهاب وهدفه، ولا سيَّما في مِنطَقة الساحل، فإن «داعش» في الصحراء الكبرى (ISGS) ليست سوى ممرٍّ للقاعدة، يمدُّ بين هذين الكِيانين جسورَ التضامن الذي يدعم مشروع التبعية.

ويُسهم العنف الإرهابي في جاذبية الدعوة والقتال المسلَّح وشرعيته، ففي مِنطَقة الساحل ليس المهم البحث عن نسَب الإرهابيين في الحروب الداخلية بين الأشقَّاء، ولكن المهم الرؤية العقدية الفكرية الفوقية للخلافة الجديدة، التي وضعت معالمها خُفيةً مجموعةٌ من الطائفيين المتسلِّطين في مرحلة التسعينيات، وتمثِّل هذه الأرض الخِصبة خزَّانًا لضحايا الإرهاب. وقد أظهر الاستطلاع الذي أجريناه في مِنطَقة الساحل سنة 2019م تفوقَ العقيدة الفكرية كونها المدخلَ الذهني للإرهابيين الجدُد.

وسواء تعلَّق الأمر بتنظيم القاعدة أو بتنظيم داعش (ISGS)، فإن القتال الوحيد الذي يهمُّهم في الأصل هو ذلك الذي يؤدِّي إلى ظهور نظام سياسي ديني قائم على قوة فتك النهج النظري والعقائدي؛ لذلك تمثِّل هذه المعركة حيلةً لطمس مسار المشروع الإرهابي.

ويمكننا القول بناءً على استطلاعاتنا المختلفة: إن العقيدة الفكرية تُعَدُّ عاملًا حاسمًا في هيكلة الجماعات الإرهابية وأنشطتها، وقد تغاضَى الناس في مِنطَقة الساحل عن النقاش الدائر في موضوع الحركية التاريخية للتخلِّي عن الصراعات الطائفية المحلِّية، بعد ظهور فكر دخيل اخترق المكوِّنَ المجتمعي بسبب حالة الطوارئ الأمنية. وتتجنَّب معظمُ الحكومات في المِنطقة أو تتجاهل أن الوضع الحالي نتيجة قناعة وليس نتيجةَ التفوق الإجرامي الذي يجسِّده الاتجارُ غير المشروع بجميع أنواعه. هذا هو السببُ في أن المواجهة المباشرة بين تنظيم داعش (ISGS) وفرع تنظيم القاعدة (GSIM) تبدو كأنها نوعٌ من التمويه.  

ويتجلَّى التهديدُ في كل دول المِنطَقة في التحوُّل من مجال التضامن والتسامح إلى الانكفاء والتقوقع الطائفي، فالخطر داهم؛ إذ تهيمن في عدد كبير من دول الساحل الرغبةُ في استبدال الدولة الدينية بالدولة العَلمانية تحت مفهوم الأمَّة الواحدة التي بموجبها يلتحق كثيرٌ من مواطني دول ساحل المحيط الأطلسي (كالسنغال، وغانا، وبِنين) بصفوف تنظيم داعش في الصحراء الكبرى (ISGS) وفرع تنظيم القاعدة (GSIM). ومن هنا يجب على المؤسسات المحلِّية والدَّولية أن تعترفَ بأن التهديد الإرهابي ليس مسألةَ جماعات أو تنظيمات؛ بل هو مسألة دورات فكرية متعاقبة تتبنَّي مشروعَ الهيمنة العالمية.