يرى عددٌ من الباحثين أن الإرهابيين يعانون مشكلاتٍ نفسيةً عميقة، وأنهم عُدوانيون وجامحون ومختلُّون، وأيضًا سيكوبائيون (السيكوبائي شخص متبلِّد المشاعر ذو تصرُّفات عَدائية تجاه المجتمع، ومنغلق التفكير، وشديد التصلُّب). إنهم يقتلون بدم بارد، ويعادون الحضارة والتقدُّم. وغالبًا ما يكون اهتمامُ الباحثين متعلِّقًا بسِمات الشخصيات واضطرابها، لكن المنحى الأكثر قبولًا هو ذلك الذي يرى أن الإرهابيين أفرادٌ يعانون مزيجًا من الأمراض النفسية والأمراض الاجتماعية، وهناك وجهاتُ نظر أخرى على ما سيأتي.
 
وفقًا لتعريفات منظمة الصحة العالمية؛ فإن هناك اضطراباتٍ عقليةً ذاتَ مظاهرَ وأعراض مختلفة، وهذه الاضطراباتُ تتسم عمومًا بمزيج مركَّب من الأفكار والإدراكات والانفعالات والسلوكيات، وبعَلاقات مع الآخرين غير سوية. وتشتمل الاضطراباتُ العقلية على ما يأتي: الاكتئاب الحادِّ، والاضطراب القُطبي الثنائي، والفِصام وغيره من أنواع الذُّهان، وأيضًا ذُهان الشيخوخة، واضطرابات النمو ومنها التوحُّد. 
 
أما الإرهابُ فهو نوع من الحرب النفسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، سواء تجلَّى في التفجيرات، أو العمليات الانتحارية، أو الإرهاب البيولوجي، أو الإرهاب المالي، فإنه نوعٌ من العنف السياسي في صراع غير متجانس؛ لإحداث الخوف والذعر، وإلحاق الضرر العنيف بالضحايا من البشر والممتلكات.
 
العَلاقة بين المرض العقلي والإرهاب
يمكننا تلخيصُ الاتجاهات البحثية الأساسية التي درست العَلاقةَ بين الاضطراب العقلي والإرهاب في أربعة اتجاهات أساسية، على النحو الآتي:
 
أولًا: اتجاه يؤكِّد العَلاقةَ القوية بين المرض العقلي والإرهاب:
وصف بعضُ الباحثين مثل بيرس سلوكَ الإرهابيين بأنه سلوكٌ تظهر فيه كثيرٌ من خصائص المرض النفسيِّ وأعراضه، مثل: البارانويا، والسيكوباتية العُدوانية، والتطرف، والهذاءات، والانفصال عن الواقع، والتفكير السِّحري، والشعور بالهامشية والنقص والعُزلة والاغتراب، والجنون المؤقَّت، والسادومازوخية، وغيرها من الاضطرابات.

ويقع ضمن هذا الاتجاه نوعٌ آخرُ من الاتجاهات الفرعية يُعنى بنمط محدَّد من الشخصيات الإرهابية. فقد تبيَّن أن وجود نمط محدَّد من الشخصيات يرفعُ من احتمال ظهور الاضطرابات العقلية لدى أصحابها، وأن هذا الاضطراب يتجلَّى في سلوكيات كثيرة أبرزُها الإرهاب.

ولاحظت بحوثُ الإرهاب نوعًا محدَّدًا من الإرهاب، ونوعًا محدَّدًا من الجماعات الإرهابية، ونوعًا محدَّدًا من الهجَمات الإرهابية، وقد وُصف هذا النوعُ من الإرهاب والهجَمات أيضًا بأنه «غريب الأطوار». هكذا اقترحت جيسي نوريس في دراستها الأخيرة المنشورة في عدد شهر يونيو 2020م من مجلة «مبادرة بحوث الإرهابJournal of Terrorism Research Initiative » ضرورةَ الاهتمام ببعض الخصائص التي تميِّز المندرجين تحت هذا النوع من الإرهاب، ومنها: الميولُ العدمية والفوضوية، والاضطراب العقلي، والميل إلى العنف الشديد، وغيرُ ذلك من السِّمات. 

وقد عادت نوريس في هذه الدراسة إلى وصف جيفري سيمون لظاهرة الذئاب المنفردة الغريبة، ووصفهم بأنهم «إرهابيون لديهم شخصياتٌ قاسية حادَّة، ومشكلات نفسية معقَّدة»، وأنهم «يميلون إلى أن يكونوا أصحابَ قضية واحدة، وأصحاب ذكاء حادٍّ، لكنهم لا يشعرون أبدًا بالندم».

وقد اقترحت نوريس جعلَ فئة «الإرهاب غريب الأطوار» فئةً خاصَّة من فئات الإرهابيين، يتسم أفرادُها بسِمات مشتركة لدى الإرهابيين المنفردين أو الجمعيين أيضًا على حدٍّ سواء؛ وذلك لأن الفروق بينهما في الدرجة لا في النوع، لكن ما يجمعُهم هو هذه السِّمات المشتركة:

1. التفكير السِّحري: يعتقد الإرهابيون الذين يعانون حالاتٍ شبهَ فصامية، أي لم يصلوا بعدُ إلى مرحلة الفِصام الكامل، أنهم يتواصلون مع أرواح الموتى، وأنهم يُدركون الأحداثَ قبل وقوعها، فضلًا عن معتقداتهم غير الواقعية بخصوص النجاح.
2. التفكير بالتمنِّي: مبالغة في التفكير والاعتقاد باحتمالات نجاح الإرهابي وجماعته، وهي مبالغة تكون مصحوبةً بتمنِّيات قوية بحدوث تغيُّر اجتماعي نتيجةً للسلوك الإرهابي.
3. التفكير الإستراتيجي الهذائي: يشتمل على تأثيرات واضحة ناتجة عن الاضطراب العقلي، تتمثَّل في هيمنة أفكار متسلِّطة دائمة، أو هذاءات تجاه مستقبل العالم بعد الإرهاب وتوقُّفه على بعض العمليات الإرهابية.
 
وتنتهي نوريس إلى القول: «إنه على الرغم من أن المرضَ العقلي قد يكون السببَ الرئيس لهذا السلوك الغريب، ولا سيَّما في حالات الإرهاب الجمعي، إلا أن هناك مصادرَ أخرى لهذا السلوك، منها المعتقداتُ الدينية المحرَّفة الجامدة، وتعاطي المخدِّرات، والمناخ المفعم بالخوف والاضطراب والارتياب الذي يعيش فيه الإرهابيون».

إن ما يجمع بين هذه السِّمات الثلاث هو الانفصالُ عن الواقع، والاستغراقُ في التفكير الذاتي الاجتراري، ومجافاةُ الحقائق، وكلُّها خصائصُ فِصامية بامتياز. 

ويقودنا هذا النوعُ من الاتجاهات البحثية إلى نوع آخرَ يُعنى بدراسة الطبيعة الخاصَّة بالسلوك المتطرف الإرهابي، هل هو نمطٌ فردي، أو نمط جماعي؟ وقد قام هذا النوعُ الأخير بالاهتمام بما يُسمَّى بالذئاب المنفردة والجمعية، ويقول أصحابُ هذا النمط من الدراسات: إن الذئب المنفرد المتطرف العنيف شخصٌ قد يعاني الاضطرابَ النفسي أكثر من جماعة الذئاب المتجمِّعة العنيفة الأكثر تنظيمًا. والذئب المنفردُ هو ذلك الإرهابي الذي يرتكب جرائمَ جماعية (يقتل أربعة أشخاص أو أكثر في 24 ساعة أو أقل)، مع وجود معتقَد ما لديه أو غيابه، فهو يقوم بعمله بنفسه لكنه قد توجِّهه أيضًا وتتحكَّم فيه، على نحو مباشر أو غير مباشر، منظماتٌ إرهابية كبيرة. وتبيِّن بعضُ الدراسات أنه كلَّما زاد انعزالُ الفرد عن التوجيه أو الدعم المباشر زاد احتمالُ أن يكون في حالة معاناة اضطرابات نفسية عقلية.

وبيَّن تقريرٌ مهم نشره «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب» بعنوان «الجاني المنفرد» أن رُبع الجناة المنفردين قد شُخِّصوا على أنهم كانوا يعانون نوعًا أو أكثر من الاضطرابات النفسية في مرحلة ما قبل تنفيذ الاعتداء. وكانت اضطراباتُ المزاج مثل الاكتئاب والاضطراب ثنائي القُطب أكثرَ شيوعًا وَفقَ التشخيص، ثم اضطرابات ذُهانية كانفِصام الشخصية. ومن الاضطرابات التي شُخِّصت لديهم أيضًا اضطراباتُ التكيُّف والانتباه.

وقام كلٌّ من إميلي كورنر وبول جيل باختبار ما إذا كانت هناك فروقٌ دالَّة في المرض العقلي لدى عيِّنتين من الإرهابيين، وقد تكوَّنت العيِّنةُ الأولى من إرهابيين قاموا بأعمالهم الإرهابية منفردين، والأخرى من إرهابيين قاموا بأعمالهم الإرهابية مجتمعين. اشتملت المجموعة الأولى على 119 من الإرهابيين المنفردين، والأخرى على 119 من الإرهابيين الجمعيين، وتبيَّن بعد تحليل البيانات أن الإرهابيين المنفردين كانت لديهم اضطراباتٌ نفسية بمعدَّل يزيد بمقدار 13.49 مرة على معدَّل الاضطرابات النفسية لدى مجموعة الإرهابيين الجمعيين.

 لكن المهمَّ هنا هو ما تبيَّن من أن الإرهابيين المنفردين كانت لكلِّ واحد منهم زوجةٌ أو شريكٌ ما أو أكثر، وقد كانوا مندرجين في حركات إرهابية أوسعَ وبمعدَّل يفوق الإرهابيين الجمعيين بمقدار 18.06 مرة، ما يعني أن تلك الثنائيةَ التي تقول بفئتين من الإرهابيين إحداهما منفردة والأخرى جمعية قد لا تكون ثنائيةً دقيقة، فكلُّ إرهابي منفرد قد تكون له جماعةٌ ما خفية أو غير مباشرة، وكلُّ إرهابي جمعي يمكنه أن يسلكَ سلوكًا إرهابيًّا منفردًا أيضًا. ولذلك فإن محاولة فهم ما يسمَّى بديناميات الجماعة، أي تلك الميكانيزمات الجمعية التي تجعل الفردَ أكثر ميلًا للتفاعل أو الانعزال، وللتعاون أو المنافسة، في سياقات جماعية، هي من الأمور المهمَّة الآن في فهم الدوافع الإرهابية، فرديةً كانت أم جمعية.

ثانيًا: اتجاه يؤكِّد تلك العَلاقةَ، مع وضع عواملَ أخرى غير المرض العقلي في الحسبان: 
يقول أصحاب هذا الاتجاه: إن الميلَ إلى العنف، واستعمال خطابات تحضُّ على العنف، لا بدَّ أن توضعَ في الحسبان، في ضوء ذلك السلوك المسمَّى بالتطرف العنيف. ويعرَّف التطرف العنيف بأنه «عنفٌ يرتكبه فرد أو جماعة دعمًا لتوجُّه فكري أو ديني أو سياسي محدَّد»، ويُستخدَم هذا المصطلح بالتبادل مع مصطلح «الإرهاب». ويقول أصحابُ هذا التوجه: إن المرض العقلي لا يُحدِّد وحدَه مَن سيتورَّط في التطرف العنيف، لكنه يجعل الأفراد أكثرَ عُرضةً أو استهدافًا للخطر الخاصِّ بالتورُّط في مثل هذه الأعمال، إضافة إلى عواملَ أخرى مثل ضعف الروابط أو العَلاقات الاجتماعية، والخبرات الصادمة أو المؤذية في مرحلة الطفولة، والإهمال، والغضب، والرغبة في الانتقام، وسوء النظام التعليمي، وتعاطي المخدِّرات. وكذلك تلك الخطاباتُ المتطرفة أو العنيفة التي يتبنَّاها الإرهابيون، بخصوص أسباب تفوُّقهم أو تميُّزهم عن غيرهم من البشر.
 
ويضاف إلى ذلك ما يدورُ داخلَ الجماعات الإرهابية من صراعات وضغوط، وما تؤدِّي إليه المشاركةُ في أعمال عنيفة من الشعور بالذنب والخجل والصدمة لدى بعضهم، فإن ذلك كلَّه قد يجعل الفردَ يقع في براثن المرض، أو الذُّهان الفعلي. وقد أيَّد هذا الرأيَ باحثون مثل ويذرستون وموران.
 
ثالثًا: اتجاه يؤكِّد وجودَ عَلاقة لاحقة وليست سابقة بين الاضطراب العقلي والإرهاب:
تقول بعضُ الدراسات: إن هناك عواملَ اجتماعية متفشِّية في المنظمات الإرهابية تؤثِّر سلبًا في السلامة أو اللياقة النفسية للأفراد والأعضاء فيها، فالتنافسُ الداخلي في المنظمة الإرهابية قد ينتجُ عنه صراع يؤدِّي إلى حالات من الحقد والبغضاء والجفاء الشخصي في المستويات الدنيا، وانشطارات وتفكُّكات جماعية في المستوى الأعلى. وهذه الضغوطُ والصراعات، إضافة إلى عمليات العقاب لمن لا ينصاعون لمعايير الجماعة، وفِقدان الثقة في الجماعة وتأثيرها، وغياب الرؤية، فضلًا عن الاضطرابات ومشاعر التهديد والخوف الزائدة، قد تنتهي جميعًا إلى صراعات بين الأفراد، وإلى البارانويا والعُدوان والهذاءات.
 
وبذلك تكون الاضطراباتُ العقلية لاحقةً بالجماعات الإرهابية وليست سابقةً عليها. وهذا الاتجاه شبيهٌ بدرجة ما بالنوع الثاني من الدراسات الذي سبق أن أشرنا إليه، الخاص بالعوامل المساعدة على حدوث الاضطراب العقلي، لكن الفرق بينهما في أن هذا الاتجاهَ لا يقول بوجودٍ سابق للمرض كما كان الأمرُ في الاتجاهين الأول والثاني؛ بل بوجودٍ لاحق، لكن هذا لا ينفي فكرةَ أن هؤلاء الأفرادَ قد كان لديهم استعدادٌ سابق للاضطراب والمرض أيضًا، كما سبق أن ذكرنا.
 
رابعًا: اتجاه ينفي العَلاقةَ بين الاضطراب العقلي والإرهاب:
يقول أصحابُ هذا الرأي: إن المرضَ العقلي الحادَّ ليس له أثرٌ في الإرهاب، فالارتباطُ بينهما ضعيف، وإلى مثل هذا الرأي يذهب باحثون أمثال هارلو وزملائه، كذلك وجد سيجمان عام 2004م أن تسعةً من عشَرة أشخاص تناولهم بالدراسة مصنَّفون على أنهم إرهابيون، لم يكونوا يعانون أيَّ عرَض فِصامي. وتذهب بعضُ الدراسات التي أُجريت على كثير من المتطرفين العنيفين، أو من يُطلَق عليهم لقبُ الجهاديين (المقاتلين) الذين ارتكبوا أعمالًا إرهابية عنيفة إنهم لم يكونوا مرضى نفسيين، بل كان معظمُهم أكثرَ صحة واتزانًا مقارنة بغيرهم من المجرمين العنيفين.
 
ختامًا
يعاني هذا النوعُ من الدراسات غالبًا مشكلاتٍ منهجيةً خطِرة، تتمثل في محدودية اختيار العيِّنات المناسبة، وغياب الأدوات والتحليلات الإحصائية الدقيقة.
وخلاصة القول: إن الإرهابَ سلوكٌ مركَّبٌ له جوانبُه المختلفة؛ البيولوجية والمعرفية والثقافية والانفعالية والبيئية والتربوية والفردية والجماعية، ويحتاج مجالُ دراسات الإرهاب إلى العمل وَفقَ خطط فريق العمل البحثي الذي يشترك فيه متخصِّصون في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها، حتى نتمكنَ من الوصول إلى صورة متكاملة ومناسبة نستفيد منها في مواجهة هذه الظاهرة المرَضيَّة المدمِّرة للحضارة والتقدُّم والإنسانية.​