تواجه تونُس منذ اندلاع ثورتها سنة 2011م تهديداتٍ إرهابيةً متتابعة وغير مسبوقة في طبيعتها نوعًا وكمًّا، وقد تعرَّضت البلاد لهجَمات دموية غير قليلة. وعلى الرغم ممَّا بذلته الدولةُ من جهود حثيثة في مواجهة تلك الهجَمات في السنوات التسع الماضية، وسيطرة الجهات الرسمية على الوضع الأمني في البلاد، وقدرتها على محاصرة الهجَمات الإرهابية وتقليص مساحة انتشارها، إلا أن التهديدات لم تنته، والخلايا النائمةَ والمتأهِّبة ذاتَ الفكر المتطرف ما زالت ميادينَ استقطابٍ نشطةً لثلاثة آلاف شابٍّ تونسي يخوضون معاركَ في مواطن الصراعات المختلفة، واحتمالُ عودة بعضهم إلى البلاد بفكرهم المنحرف ومنهجهم المتطرف كبيرٌ جدًّا. 

التصدِّي للتطرف
اتخذت الحكومة التونسية جملةً من الإجراءات في السنوات الخمس الماضية على المستوى التشريعي وعلى المستوى التنظيمي المؤسسي للتصدِّي لخطر الإرهاب المحدِق بتونُسَ، وتمثَّل ذلك في إصدار قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال سنة 2015م، وإنشاء لجنة وطنية لمكافحة الإرهاب، وضبط هيكلها وتحديد مهامِّها، وإعداد خُطة إستراتيجية لمكافحة التطرف والإرهاب سنة 2016م، وإنشاء القطب الأمني والقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، فتجسَّدت بذلك معالمُ المحاولة التونُسية في مواجهة التطرف واضحةً جلية، وسنستعرض أهمَّها فيما يأتي:

الشأن القانوني 
في عام 2015م صدرَ القانون ذو الرَّقْم 26 المتعلِّقُ بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، وقد نصَّ على إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، لتكونَ أداةً قانونيةً تدعم الجهود الوطنية والدَّولية في التصدِّي للتطرف والإرهاب. وأقرَّ مجلسُ الأمن القومي التونسي في ٧ نوفمبر 2016م الخُطةَ الإستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف والإرهاب، التي وضغت رؤية واضحة ومشتركة لجميع المشاركين في مواجهة التطرف العنيف ومكافحته، بما احتوت عليه من معالجات شاملة تقوم على أربعة أسُس رئيسة هي: الوقاية، والحماية، والتتبُّع، والردُّ.

إنها إستراتيجية مُحكَمة متعدِّدة الجوانب، لا تقتصر في معالجة ظاهرة التطرف والإرهاب على المجال الأمني والعسكري، ولكنها تُولي اهتمامها سائرَ الجوانب الأخرى؛ كالجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، مؤكِّدةً أن المواجهة تكون بالعمل الجاد لبناء ثقافة الحوار والسلام والعدل والإنصاف والتسامح، وقَبول الآخر واحترامه. ونصَّت على ضرورة المنع القانوني للتحريض على ارتكاب أعمال إرهابية تخريبية مهما كانت طبيعتُها أو أسلوبها أو أدوات تنفيذها، وتعزيز مناهج التعليم والحوار لمقاومة الفكر المتطرف، إضافة إلى التصدِّي للتطرف في السُّجون، والعمل على تأهيل المساجين ودمجهم في المجتمع بعد انقضاء عقوباتهم.

سياسة الوقاية 
سعَت اللجنةُ الوطنية لمكافحة الإرهاب إلى تكوين فِرَق عمل من جميع الوِزارات المعنيَّة بالوقاية من التطرف؛ ليتعاونوا على إعداد خُطط عمل مُحكَمة؛ لتطبيق إستراتيجية مكافحة الإرهاب، كلٌّ في مجال خبراته وتخصُّصه. وقد أُعدَّ دليلُ عمل لاعتماد منهج واحد، وكان عملُ اللجنة الوطنية في هذه المرحلة منحصرًا في التنسيق بين الوِزارات والسُّلطات الجِهَوية والمنظمات الدَّولية والدول الداعمة؛ لضمان التناسُق في الأداء، والإحاطة بمجمَل مشروعات الوقاية من التطرف العنيف، ومراقبة تنفيذها، ومراحل سَيرها، ومقدار إنجازها، وقياس تحقيقها للأهداف المنشودة، وذلك باتِّباع برامجَ ثقافية تُعنى باحترام حقوق الإنسان، ومشاركة فاعلة من المجتمع المدني والسُّلطات الجِهَوية والقِطاع الخاص.

وقد أدَّى هذا التنسيقُ والتعاون إلى جذب اهتمام فئات الشباب وحضِّهم على المشاركة، فالتحقت الكثيرُ من الجمعيات في مشروعات الوقاية من التطرف، التي موَّلتها الدولة وبعضُ المنظمات الأممية، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والصندوق العالمي لمساعدة المجتمعات على الصمود.

الرابطة الوطنية
إن تدهور العَلاقة بين الدولة والمجتمع من أهم أسباب تصاعُد ظاهرة التطرف في تونُس ونموِّها، وذلك بسبب السياسات التي أهملت التعليمَ والمجال الديني، واعتنت بالمدن على حساب الأرياف والقرى. فسرى شعورٌ بالنِّقمة والغيظ لدى بعض فئات المجتمع، وضعُف الشعورُ بالانتماء إلى الدولة، ووهنَت الرابطةُ الوطنية. وبات الشبابُ لقمةً سائغة للجماعات الإرهابية التي تترصَّد تلك الهشاشةَ الاجتماعية، والإحباطاتِ النفسيةَ لدى المواطنين، فتوظفها في الاستقطاب والتجنيد، والاستمالة إلى صفوفها، وإقناعهم بمناهجها الفكرية، وعملياتها الإرهابية. 

وقد بادرت اللجنةُ الوطنية لمكافحة الإرهاب إلى تنظيم اجتماعات شهرية في مقرَّات الولايات بحضور جميع أعضائها الممثِّلين للوِزارات والسُّلطات الجِهَوية، ونظَّمت لقاءات مع جمعيات المجتمع المدني بالجهات؛ لشرح أهداف الخطة الإستراتيجية الوطنية ومهام اللجنة ومسؤوليات الأطراف المشاركة في البرامج المحلِّية للوقاية من التطرف العنيف. وقد أثمرت تلك الجهودُ وعيًا مجتمعيًّا بضرورة العمل التطوُّعي والتماسُك الاجتماعي والعناية بالشباب والفئات الضعيفة التي من السهل استقطابُها؛ كتلاميذ المدارس والكلِّيات والجامعات، والشباب العاطلين من العمل، والنساء في البيئات الريفية والقروية، والأطفال فاقدي السَّنَد والعون. وقامت وِزاراتُ التربية والشؤون الاجتماعية ووزارة المرأة والطفولة وكبار السنِّ بتنظيم دورات تكوينية وَفقًا للتخصُّص والفئة المستهدَفة؛ لتكوين شبكة من الناشطين المؤثِّرين الميدانيِّين القادرين على تنفيذ تلك الخطة الإستراتيجية وتحقيق أهدافها.

الصمود الاجتماعي 
بذلت اللجنةُ الوطنية لمكافحة الإرهاب جهودًا كبيرة في تنفيذ سياسة الوقاية من التطرف، بإشراك المجتمع المدني والقِطاع الخاص وفئة الشباب والفئات النسائية، على نحو مؤثِّر وفاعل، باتِّباع برامجَ متعدِّدة. وقد أسهم ذلك في انبثاق المبادرات على مستوى الجمعيات، وتطوير الشراكة بين القِطاعين العام والخاص، واستعادة ثقة الشباب بالدولة والقيادات السياسية، إضافة إلى العناية بالتربية المدنية، والأنشطة التثقيفية؛ لتعزيز الشعور بالانتماء إلى المجتمع والدولة، وتقوية الرابطة الوطنية وتوثيقها، وتأكيد أثر الأسرة في رعاية الأولاد، والسعي إلى نشر الوعي لاكتشاف علامات التطرف لدى الشباب في وقت باكر.

وقد أنشأت جمعياتُ المجتمع المدني في تونسَ شبكة «النشطاء المدنيُّون ضد التطرف العنيف»، ضمَّت قرابة خمسين جمعيةً علمية مهتمَّة بمكافحة ظاهرة التطرف والإرهاب. وهي تهدِفُ إلى إشراك الفئات والجهات المؤثِّرة في المجتمع المدني؛ كوسائل الإعلام، ودُور الشباب، والكشَّافة التونسية، والخبراء في شتَّى المجالات؛ لفهم ظاهرة التطرف العنيف فهمًا صحيحًا دقيقًا، والإحاطة بسياقاتها السياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية، ومن ثَم تحديدُ الأنشطة والفئات المستهدَفة بالوقاية، وإنشاء شبكة فاعلة للصمود المجتمعي.

 ولوِزارة التعليم العالي والبحث العلمي أثرٌ كبير في الكشف عن أسباب التطرف في المجتمع التونسي، بمبادرتها لتنفيذ برنامج بحثي أنجز مجموعةً من البحوث في الجامعات؛ لتعميق فهم الظاهرة، وتقصِّي سبل العلاج. وقد كان عملًا مهمًّا، نفَّذته الوِزارة باهتمام واحتراف، فأسفر عن نتائجَ طيِّبة، ولا يزال البرنامج مستمرًّا، وسيمتدُّ إلى سنوات قادمة إن شاء الله.

الخطاب الديني
إن ضَعف المنظومة التربوية، وانشغال أولياء الأمور في الأُسَر عن تربية الأولاد ورعايتهم، والاضطراب الاجتماعي بسبب ظروف الثورة، عواملُ أسهمت في انتشار خطابٍ متطرف في بعض المدارس القرآنية غير النظامية، وفي بعض الجوامع والمساجد في أنحاء البلاد. وقد عمَد المتطرفون منذ الأيام الأولى للثورة إلى نشر الفكر المتطرف الداعي إلى تكفير المجتمع. 

وأصبح من مهام وزارة الشؤون الدينية في تونس حمايةُ المجتمع من التطرف والمحافظةُ على النهج الديني المتَّسم بالاعتدال والوسطية. فكان لا بدَّ من إعداد الأئمَّة والوعَّاظ ليكونوا قادرين على نشر قِيَم التسامح، والتصدِّي للجمود والانغلاق الفكري، وللتشدُّد والإقصاء، ومحاربة الدعوة إلى العنف، بخطاب ديني بديل متوازن ومعتدل. وتحقيقًا لهذا الغرض أنشأت الحكومة مِنصَّةً للخطاب البديل، من مهامِّها الرئيسة نشرُ خطاب التسامح واحترام الاختلاف على نطاق وطني واسع، باستعمال الوسائط والوسائل المختلفة، وعلى رأسها وسائلُ التواصل الحديثة المتعدِّدة.

العمل الإعلامي
أضحَت مواقعُ التواصل الاجتماعي وشبكاتُ الاتصال الحديثة، مَيدانًا حَيويًّا نشِطًا للتفاعل الثقافي والفكري والديني والاجتماعي والسياسي وغير ذلك من المجالات، وهي بمتناول جميع فئات المجتمع، وتُتيح سرعةَ الوصول إلى المعلومات، وسهولةَ التواصل مع الأفراد والجماعات، وهذا ما أغرى الجماعات المتطرفة باستثمار هذه التقنية في استقطاب أعضاء جدُد في تنظيماتها، فطوَّرت بسرعة مذهلة تحكُّمَها بهذا الميدان، مما اضطرَّ وِزارة تكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرَّقْمي إلى إيجاد السُّبل الكفيلة بمواجهة هذا الخطر على مستوى الدولة والمجتمع، وذلك بأساليب المراقبة والمنع القانوني للمواقع التي تؤيِّد العنف وتدعو إلى ثقافة الموت والقتل، مع إنتاج تطبيقات تربوية توعوية، وبثِّها في وسائل الإعلام المختلفة؛ ليستفيد منها المجتمع عمومًا، والأسرة ورياض الأطفال والمدارس والمعاهد خصوصًا. 

خاتمة القول 
إن ما تحقَّق لتونسَ ميدانيًّا في مكافحة الإرهاب بفضل تطوير أجهزة الاستعلامات، والعمليات الاستباقية للقوَّات العسكرية والأمنية، ويقظة المواطن وصمود المجتمع على امتداد السنوات الماضية، لا يُعفي من تكثيف العمل الفكري لمواجهة التطرف، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتغيير شعور الشباب بالظلم وفِقدان العدالة الاجتماعية، والعمل على تنمية المناطق المهمَلة، وإيجاد فرص للعمل، وإعطاء الأمل للشباب بمستقبل أفضل، إضافةً إلى تعميق فهم ظاهرة التطرف بالمعرفة والبحوث العلمية؛ لإيجاد حلول وطنية مُجدية، تراعي خصوصيَّة المجتمع التونسي، وتوعية أولياء أمور الطلاب بضرورة مراقبة أولادهم مراقبة واعية، وتشجيع التفاعل الأُسَري، وتعميق أثر الأسرة في المجتمع، بإشراك الجمعيَّات النسائية والشبابية في فهم ظاهرة التطرف ومكافحتها.

إن تونس اليوم لا يمكنها إنجاحُ التجرِبة الديمقراطية الناشئة، ما دامت ظروفُ إنتاج التطرف قائمةً بقوة، وهذا ما يفرض على المعنيِّين بمواجهة التطرف عدمَ تغييب الحل السياسي، مع تحقيق العدالة، والحوكمة الرشيدة، ومحاربة الفساد، وإصلاح المنظومة التربوية، وإرساء حقوق الإنسان، وصُنع الأمل لدى الشباب بإشراكه في القرار، والإشادة بإسهاماته في النهوض بالوطن والمجتمع.