سنركز هنا على توصيف الوضع الأمني "لداعش" بعد دخوله لمرحلة الانحسار وتأثيرها على مسارات المنضمّين إليه، الذين يشكلون محور الارتكاز الأساسي في مزاولة نشاطه الإرهابي. والملاحظ أن تنظيم "داعش" أعلن منذ البداية أن هدفه استعادة "دولة الخلافة"، اعتمادًا على فتاوى ضالة ومنحرفة لتبرير جرائمه، وقد رفع هذا التنظيم شعار "الخلافة" مستغلًا عدم دراية الأغلبية بهذا المصطلح الذى تجاوزه الزمن والعصر، ولا نجد في أصول الإسلام ونصوص إجماع علمائه المجتهدين، ما يدعو للتمسك بلفظ "الخلافة"، التي ارتكبت التنظيمات الإرهابية باسمها مختلف الجرائم وأعمال العنف الهمجية، وكان الهدف من ذلك؛ تشويه صورة الإسلام والعرب والمسلمين، وتفتيت كيانات الدول العربية المستهدفة، وتوسيع دوائر الإسلاموفوبيا. ويلاحظ أن وسائل الإعلام الغربية توقفت عن استخدام تعبير "داعش" واستعاضت عنه بعبارة "تنظيم الدولة الإسلامية".

وقد ركز تنظيم "داعش" على توسيع قاعدة الأفراد المحليين المنضمين إليه سواء عن طريق اقتناعهم بأفكاره، أو تحت الضغوط والترهيب. فالمحليون المنضمون إلى التنظيم هم الذين يشكلون الحاضنة الداخلية الأساس له، ومصدر التأييد الذي يعزز وجوده ويعطيه شرعية مضمرة. كما اهتم التنظيم بجذب مجموعات من الأجانب من مختلف الجنسيات، وخصوصًا ممن لهم خبرات قتالية وميدانية وإعلامية سابقة، وبينهم الكثير من المطلوبين قضائيًا داخل دولهم، والاستعانة بهم في إحكام السيطرة على المناطق الشاسعة التي وجد فيها التنظيم، وقد تفاوتت الأرقام في تقديرهم بين مصدر وآخر.


متاهة الأرقام:

"رفع داعش شعار "الخلافة" وارتكب باسمها مختلف الجرائم وأعمال العنف الهمجية، وشوّه صورة الإسلام والعرب والمسلمين، وسعى لتفتيت كيانات الدول العربية"تشير الأرقام التي نشرتها المصادر الغربية إلى أن الأجانب المنضمين لداعش وحدهم يزيدون على 40 ألفًا، وإذا افترضنا أن عدد الكوادر المحلية من المنضمين إليها يقدر بنفس العدد أو أكثر، فمعنى ذلك أن "داعش" كان يضم قرابة ثمانين ألفًا بين أجنبي ومحلي. وهنا يتساءل البعض: أين ذهب هؤلاء بعد الانحسار الجغرافي لوجود "داعش"؟ فقد كشف الواقع أن عدد مقاتلي "داعش" في الموصل لم يتجاوز ألفي مقاتل، وفى تلعفر ألفًا، ولم يتعد عددهم في الرقة "أربعة آلاف، فضلًا عن ثلاثة آلاف في دير الزور، وبضع مئات متناثرين في مناطق أخرى". وبصرف النظر عن صحة أرقام المصادر الغربية وموضوعيّتها، فأين ذهب الآلاف من المنضمين "لداعش"، وهو ما أثار عدة تساؤلات مبررة، حول سحبهم بشكل آمن خارج مناطقهم.

مسارات الإرهابيين العائدين:

تفاوتت الآراء حول أساليب التعامل مع هؤلاء، فهناك من يطالب بمقاربة وسطية تجمع بين العصا والجزرة، بمعنى آخر، فرض عقوبات عليهم دون تطرف، والتفهم دون تخاذل، والبعض الآخر يرى أن هذا الأسلوب لا يصلح مع مجرمين ارتكبوا جرائم حرب، وعليهم أن يدفعوا ثمن جرائمهم، بل ذهب وزير بريطاني إلى حد المطالبة بإعدامهم.


وفى الواقع هناك ثلاثة اتجاهات عملية تبلورت في هذا الصدد، هي:

المسار الأول: ويشمل قلة من الإرهابيين واصلت الانخراط في المواجهات المسلحة حتى النهاية، ومجموعات أخرى هربت من المدن، وانتقلت إلى مناطق أكثر أمنًا، يتمتعون فيها بفرص أكبر للاختباء والتسرب.
 

المسار الثاني: وفقاً لبيانات "المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي"، فإن هناك دولًا مرشحة لتسرب هذه العناصر إليها، وفي مقدمتها تونس والأردن ومصر والسعودية وتركيا، وفي ليبيا، بصفة خاصة، وغيرها.
"ضم داعش قرابة ثمانين ألفًا بين مقاتل أجنبي ومحلي. فأين ذهب هؤلاء بعد الانحسار الجغرافي للتنظيم، وهو يثير عدة تساؤلات مبررة، حول سحبهم بشكل آمن خارج مناطقهم"وقد قامت أغلب هذه الدول بالاستعداد لهذا الاحتمال بتشديد الإجراءات الأمنية على حدودها؛ ولذا فإن التسرب عبر هذا المسار سيكون محدودًا في المدى القصير والمتوسط، لكنه سيتزايد على المدى البعيد نسبيًا. ويبدو أن ليبيا مرشحة لاستقطاب العدد الأكبر من العناصر التي كانت في سوريا والعراق. فليبيا أصبحت دولة مصدرة للإرهاب ومستوردة له، وتعود بدايات نشأة تنظيم "داعش" في درنة (أكتوبر 2014)، إذ تم إعـــلان تنظيـــم "مجلس شورى إسلامي" ينحدر معظم مقاتليه من مسلحين قاتلوا نظام بشار الأسد في سوريا فيما كان يعرف بـ "كتيبة البتار" عام 2012، والذي عبر عن ولائه لتنظيم "داعش"، ونجح هذا التنظيم الفرعي في بسط سيطرته خارج درنة ليشمل 120 ميلًا على سواحل مدينه سرت. وتقدر مصادر استخبارية أمريكية العدد ما بين 5000 إلى 6000 إرهابي، بينما تقدرهم مصادر الأمم المتحدة ما بين 2000 إلى 3000 عنصر. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف توجه الفارّون من العراق وسوريا بأسلحتهم وعتادهم وسياراتهم، وتنقلت هذه القوافل، تحت ستار عمليات تمويه ضخمة تكلف أموالًا طائلة، وكيف وصلت هذه القوافل إلى مقصدها إلا بتوافر حماية قوى وأطراف إقليمية ودولية. وقد أعلنت حكومة الوفاق الليبية تشكيل كيان عسكري لمحاربة التنظيم في سرت تحت مسمى (قوات البنيان المرصوص) ونجحت هذه القوة بإلحاق هزيمة للتنظيم في سرت خلال مطلع العام 2017، وقد قام التنظيم بقتل عدد من المواطنين المصريين عام 2015، وسارع السلاح الجوي المصري بالرد بعملية نوعية قصف خلالها تجمعًا لأفراد التنظيم في درنة. "تواجه برامج إعادة تأهيل الإرهابيين العائدين من مناطق الصراع إلى أوروبا صعوبات عدة أبرزها كثرة عددهم، ورفض المجتمعات لهم، وانتمائهم لتنظيمات إرهابية متناقضة"


المسار الثالث: هو عودة أعضاء تنظيم "داعش" الأجانب إلى بلدانهم. وهنا نشأ نوع من تعارض المصالح، فهذه الدول لا ترغب في عودتهم – على الرغم من أنها سمحت بخروجهم وبمعرفتها المسبقة لتوجهاتهم –؛ خشية تحولهم إلى قنابل بشرية موقوتة، واحتمال أن تقوم شريحة منهم بعمليات إرهابية "الذئاب المنفردة". ولذا تريد هذه الدول إبقاء الإرهابيين الذين يحملون جنسيتها في الدول المستهدفة ومحاكمتهم فيها. وبعض الدول الأوروبية وضعت برامج لإعادة تأهيل العائدين من مناطق الصراع كآلية للتعامل مع التهديدات المحتملة، وتشير بعض التقارير إلى الصعوبات التي قد تواجه برامج التأهيل منها: كثرة المقاتلين الذين انضموا للتنظيمات الإرهابية، بالإضافة لعائلاتهم، وصعوبة وضع برامج موحدة لهم لانتمائهم لتنظيمات إرهابية تتناقض توجهاتها العقدية، فضلًا عن أن إعادة إدماج العائدين، تواجه بعدم ارتياح وتقبل المجتمعات لهم.

هل هزيمة داعش مؤشر على زوالها قريبًا؟

"بعد انحسار داعش جغرافيًا وبشريًا أصبح التنظيم هرمًا بلا قاعدة، وفقد الكثير من قدراته وتقلصت منظومته الإعلامية، لكن لم يتم القضاء عليه بشكل حاسم"بعض المتخصصين يرى صعوبة ذلك مرحليًا، وأنه لن يختفي تمامًا من الوجود، فالمعركة ضده لم تنتهِ بعد، مشيرين إلى تجربة "القاعدة" وإن كان يمكن القول إن التنظيم بعد انحساره جغرافيًا وبشريًا وتحول الخليفة "أبوبكر البغدادي"، إلى طريد وهارب، ولم يعد لديه أراض يسيطر عليها، وأصبح هذا التنظيم هرمًا بلا قاعدة، (على حد قول جميس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي)، وأنه فقد الكثير من قدراته وقبول فتاويه وتقلص منظومته الإعلامية، إلا أنه من الصحيح أيضًا القول إنه في ظل المرحلة الضبابية الراهنة، التي لم تصل فيها التفاعلات إلى مداها النهائي، يصعب القضاء عليه بشكل حاسم؛ لعدد من الاعتبارات في مقدمتها:-

استمرار بعض الأطراف في تمويل التنظيمات الإرهابية وتسليحها.
الانتشار الجغرافي الواسع للتنظيمات الإرهابية، ولاسيما توسع داعش في المنطقة الآسيوية، ووجود مناطق عربية مازالت هشة، وتشكل مناطق جذب لهذه الجماعات مثل (ليبيا)، ولايزال التنظيم قادرًا على ربط فروعه وشبكاته، ولديه القدرة على القيادة وتسهيل إتمام هجمات، أو أن يكون ملهمًا لها، (من تصريحات دان كوتس المنسق الوطني لأجهزة الاستخبارات في مايو 2017، أمام لجنة الشيوخ الأمريكي).
حجم الدمار الشامل الذي أحدثه تنظيم داعش بمختلف المناطق التي وجد فيها، وإعادة الإعمار، ستحتاج وقتًا ليس بالقصير، وإمكانيات مالية ضخمة. فقد قدر حيدر العبادي رئيس وزراء العراق خسائر حرب "داعش" بمئة مليار دولار، إضافة لخسائر سوريا المضاعفة. هذا فضلًا عن تفكك النسيج الاجتماعي في هذه المناطق، وحجم الإفقار الجماعي الذي ضرب سكانها، فقد هدمت ملايين المنازل، ولم تعد صالحة للسكن، وأصبح غالبية سكانها يقيمون في مخيمات اللجوء. كل هذه المشاهد المأساوية وغيرها تشكل مجالًا خصبًا للتنظيمات الإرهابية ولاحتضانها، ولعودتها من جديد في أشكال متعددة.
بروز نشاط المليشيات الطائفية والعرقية في منطقة الشام واليمن، والتي تم تشكيلها خلال جهود مكافحة "داعش" وغيرها، "كالحشد الشعبي" في العراق الذي تدعمه إيران، وسعيها لتشكيل ما يسمى بـ"جيش التحرير الشعبي" على نسقه في سوريا ومليشيات عرقية "كقوات سوريا الديمقراطية" الكردية وغيرها، فضلًا عن عمليات التغيير القسري للمكونات البشرية في بعض المناطق السورية، كالصفقة التي أطلق عليها "المدن الأربع" كفريا والفوعة (الشيعيتين)، والزبداني ومضايا (السنّيّتين)، فضلاً عن قيام هذه المليشيات بإعاقة عودة النازحين إلى ديارهم، وهناك محاولات ومطالب لإشراك بعض هذه المليشيات كالحشد الشعبي العراقي، في الترتيبات السياسية المتعلقة بمؤسسات الحكم ( كالمجالس النيابية وغيرها)، على نسق نموذج حزب الله اللبناني، وتضغط إيران من أجل تحقيق ذلك، مما قد يؤدي إلى تحول المناطق ا لعربية نحو صراعات طائفية وعرقية تهدد بإشعال حروب دينية وطائفية مستقبلًا.
خلاصة القول: إن القضاء على "داعش" مازال نصرًا لم يكتمل بعد.