تعير الأجهزة الأمنية الأوروبية أهمية قصوى لتداعيات "التجنيد السيبراني" وما أنتجته الجماعات المتطرفة من أساليب وآليات متنامية لاستمالة واصطياد بعض الأشخاص عبر مواقع التواصل وشبكة الإنترنت. بيد أن هذا الاهتمام لم يترجم إلى إستراتيجية متكاملة وذات أبعاد قارية إلا بعد اشتداد ضربات التنظيمات الإرهابية الأكثر نشاطاً كالقاعدة و"داعش"، في فرنسا وبلجيكا على وجه الخصوص. وقد تفاقمت وتيرة الاعتداءات في أعقاب هجمات باريس في نوفمبر من العام 2015، حيث قتل 130 شخصاً، ثم أحداث مطار بروكسل وقطار الأنفاق فيها، مع حصيلة ارتفعت إلى 32 قتيلاً، وأدركت الاستخبارات الأوربية على إثر سلسلة دموية اجتاحت أيضاً المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا ودولاً أخرى ضرورة تعزيز التنسيق فيما بينها على المستويات كافة.
 
لم يكن استثناءً -إلى وقت غير بعيد- أن تترك الاستخبارات الأوروبية ومعها الأجهزة الأمنية الباب موارباً فيما يتعلق بتبادل المعلومات بصورة شفافة وسلسة مع الجهات الأمنية، وذلك على الرغم من أن أوروبا باتت تواجه حملة مستمرة من المحاولات الإرهابية منذ الحادي عشر من مارس في مدريد عام 2004 م وانفجارات لندن في العام 2005م، فظلت الأجهزة الاستخباراتية الأوروبية تتحفظ بشأن التعاون الكامل فيما بينها؛ خوفاً من التسريبات وعدم مهنية الوكالات الأخرى، أو سعياً إلى الانفراد بالنتائج الإيجابية إن وجدت. وكنا قد عهدنا في اليوم التالي لكل اعتداء ينفذه الإرهابيون النداءات المتكررة الموجهة إلى المجتمع الدولي من أجل "تضافر الجهود للقضاء على الإرهاب وخطره" الذي بات يهدد السلام في أوروبا، وفي جميع أنحاء العالم، غير أن النوايا الحسنة لم تقد بالدوام إلى خطوات ملموسة تلتزم بموجبها كل الأجهزة الأمنية المعنية بالتخلي عن تحفظاتها، والعمل على اقتسام المعطيات ورسم الإستراتيجيات المشتركة. ولكن لابد من الاعتراف بأن بداية القرن الحادي والعشرين شهدت قفزة نوعية على هذا الصعيد إذ اتفقت الدول الأوروبية على الشراكة الفعلية في إدارة ملف التعاون الأمني عبر الحدود. ولا شك أن هذا التغيير يرجع بالأساس إلى حقيقة ملموسة هي أن الخلايا والأفراد الذين يقترفون هذه الأعمال الإجرامية يستفيدون من عدم وجود خطة أمنية أوروبية موحدة.
 
كما شهدت الأمور تقدماً كبيراً بعد أن أدركت الحكومات الأوروبية أن محاربة الإرهاب محلياً مرتبطة بمناطق الصراعات في بلدان غير أوربية. وأدركت العواصم الأوروبية الرئيسة أن الإستراتيجية المتبعة والقائمة على أن خير طريقة "للتملص" من المتعاطفين المحليين مع الجماعات الإرهابية الأكثر تشدداً هو عدم الاعتراض على توجههم إلى "أرض القتال" خارج أوروبا، لم تكن ناجحة. إذ كانت الدول الأوروبية تؤمن بأنها ستنجو من بأس هؤلاء أو تظن أن قواتها الجوية بإمكانها شن غارات جوية على معسكرات الفصائل المتطرفة تقضي من خلالها على المقاتلين الأجانب. غير أنه ظن سيئ أكثر من كونه اعتقاداً راجحاً لأن هؤلاء سرعان ما تواروا عن أنظار المخابرات العسكرية الأوروبية، ثم سعوا من ملاجئهم إلى تحسين تقنيات التعبئة والاستنفار والاتصال بـ "إخوتهم وأخواتهم" في المجتمعات الأوروبية. وكانت المفارقة أن تمكنوا من تطوير تقنيات التجنيد عبر وسائل التواصل وهم على بعد آلاف الكيلومترات. ومن الواضح للعيان أن هناك علاقة مباشرة بين الواقع الإرهابي في سوريا والعراق ونشاط المتعصبين في البلدان الأوروبية، فبلجيكا وفرنسا، وهما الدولتان الأوروبيتان الأكثر تصديراً للمتشددين إلى سورية والعراق، تتصدران قائمة الدول التي شهدت نسبة أعلى من الاعتداءات خلال السنوات الخمس الماضية.
 
يهمنا هنا أن نشدد على أن ما تحقق من نجاح وتقدم في ميدان محاربة الإرهاب على أرض أوروبا مدين بشكل صريح لتحسين آليات التعاون بين الأجهزة الأمنية الأوروبية والتمسك بمفهوم واقعي حيال انتشار الجماعات المتطرفة المسلحة في كل من آسيا وإفريقيا. من ثم فإن هذين العاملين لا بد أن يشكلا الركيزة الأولى لمواجهة التحدي الثالث المتمثل في انتشار الأفكار والطروحات المتشددة عبر وسائل التواصل والإنترنت. إن الجميع مدعو إلى تحسين آليات تبادل المعلومات والخبرات وتشكيل أقسام سيبرانية مختصة بتحليل الخطابات والرسائل بما فيها الإشارات المشفرة المبثوثة عبر الفضاء الشبكي، وقد تكون المهمة أسهل اليوم مما كان الأمر عليه في البداية، فالمؤمل أن تكون أيام الارتياب وعدم الثقة بين الأجهزة الأمنية الأوروبية قد ولت دون رجعة، لأن هذا التعاون المتجدد ضروري لمواجهة معضلة التجنيد هذه. كما يتطلب الأمر توثيق الروابط بين الدول الأوروبية والعربية مثلاً، وقد يشكل المثال المغربي - الإسباني دليلاً إيجابياً على ذلك التعاون إذ أدت الاتصالات بين الأجهزة الأمنية لدى الدولتين إلى عمليات تم من خلالها تفكيك خلايا يشتبه في أنها كانت تعدّ نفسها لتنفيذ أعمال إجرامية.
 
أسهم التقدم على صعيد الأداء الاستخباراتي المشترك خلال العامين الماضيين في تراجع ملموس للعمليات الإرهابية. ولذا لا يمكن إغفال خطورة الاستقطاب والتجنيد عبر الشبكة، فهناك فائدة من وراء تجفيف منابع التمويل وإزالة معسكرات التدريب في الخارج والقضاء على "القوة الناعمة" المتجسدة في الفيديوهات والمنشورات الإلكترونية وما شاكلها.
 
ولكي نعي خطورة التعبئة والتجنيد عبر الشبكة ينبغي أن ننظر جيداً في الملفات الشخصية لأولئك الذين وقعوا في براثن تلك الجماعات. فقد نشأ بعضهم في بيئة اجتماعية مهتزة، في مدن وأحياء ذات تشكيلة سكانية مختلطة لا توفر مفهوماً صحيحاً للانتماء إلى المجتمع أو إلى الوطن، وهذا ما نجده في عائلات ترعرع أربابها خارج أوروبا ثم هاجروا إليها لأسباب اقتصادية فقطنت أحياء وضواحي تعاني من مشكلات أمنية وبنيوية واجتماعية عويصة. وليس سراً على أحد أن نشطاء المجموعات المتشددة عكفوا على الاتصال بأفراد الشباب الأكثر يأساً وإحباطاً، في محاولة لاستغلال حقدهم على مجتمعات لا تمنحهم فرصاً حقيقية للعيش برفاهية، وكان أولئك النشطاء يحتكون بالشباب المهمش في الأزقة والشوارع المظلمة أو حتى في السجون، وقد جرى الانتباه إلى هذه الظاهرة الخطيرة وأعيد النظر فيها. ولكن ثمة مجموعة أخرى من الأفراد لا يسهل أن نعدهم مهمشين بالمعنى الدقيق للكلمة لأنهم لا ينتسبون إلى بيئات عائلية مفككة أو ذات ميول دينية أو عرقية أو إيديولوجية متعنتة، وإنما هم أفراد يعانون من اضطرابات نفسية أو لا يرتبطون بشكل طبيعي مع محيطهم الاجتماعي، ويقضون ساعات طويلة أمام شاشة الحاسوب أو المحمول، لدرجة أنهم يغدون فرائس سهلة لأشخاص مجهولين يبحرون بكل أريحية في الشبكة. ومن الملفت للنظر انجذاب فتيات ونساء أوروبيات لا أصول أجنبية لهم إلى نداءات متطرفة. ولما كانت هذه الصفحات والمواقع الإلكترونية من الصعب للغاية التحكم فيها فإن الحكومات طورت أنظمة دقيقة للتنقيب عن مصادر تبث الدعاية المنحرفة. وألحّت على الشركات التي تدير المنصات الإلكترونية من أجل ضبط تحركات الأصوات المثيرة للاشتباه واقتفاء آثار الرسائل العدائية الاستنفارية. ويحدو بنا هذا القول إلى ضرورة توحيد المعايير الخاصة بمواجهة أي فرقة تدعو إلى العنف والكراهية بصرف النظر عن منطلقاتها الدينية والإيديولوجية والعرقية، لأن هذه المجموعات، وإن كانت تناصب العداء بعضها لبعض، متفقة على استخدام الشبكة لتحقيق أهداف مشتبه فيها. إن محاربة التجنيد السيبراني ذات أبعاد متنوعة، بدءاً من دور التقنية والهواتف المحمولة التي تدعم التشفير مما يسهل على دعاة التعصب تجنب كشفهم، مروراً برصد وتحليل تحركات الإرهابيين مع تبني استراتيجية توعوية من مخاطر الإرهاب الإلكتروني بالتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني، وإقرار تشريعات تحظر الأنشطة الإلكترونية المعادية لمبادئ التعايش والتسامح، وانتهاء بممارسة الضغوط على الشركات المديرة للتشكيلات والتطبيقات المختلفة من أجل تحديد ضوابط صارمة تؤمن حسن استعمالها، والكشف عمّن يخالف قوانين النشر. إنه طريق طويل ولكنه مستقيم.