تأتي الثقافة بمعناها الكلِّي وبجناحيها النُّخبوي والشَّعبوي في مقدِّمة الوسائل التي بوسعها أن تصُدَّ الإرهاب وتردَّه بنجاعة وقوَّة، لا تتأتَّى للأساليب الخشنة أو الصُّلبة التي تنصرف سريعًا إلى مقاومة الإرهابيِّين وكفِّ أذاهم، لكنها لا تقوِّض الأفكار التي تعشِّش في رؤوسهم، وهي من أقوى الأسباب التي تدفعُهم إلى ارتكاب العنف تجاه الدولة والمجتمع.

فالثقافة تتعدَّى مجرَّد حشو الذهن بالمعلومات، أو ترديد أفكار الآخرين بلا تدبُّر ولا وعي، إلى أن تكون بناءَ قدرة على نقد السائد والمتداوَل، وامتلاك رؤية للذات والمجتمع والعالم. فتكون دومًا إمَّا نقطةً مركزية يُنطلَق منها في الفهم والتفسير، وإبداء الرأي واتخاذ الموقف والقرار، وإمَّا إطارًا يُحال عليه، فلا يتخبَّط المرء بين التصوُّرات والرؤى، ولا يكون عُرضةً لغزو أفكار متشدِّدة ومتطرِّفة، تصادف ذهنًا فارغًا فتتمكَّن.

علاج الفكر
الإرهاب بوصفه فعلًا يبدأ بأفكار أو تصوُّرات نظرية، تبدو متماسكةً وسائغة في ذهن لا يمتلك قدرةً على الفحص والدرس والنقد والتفكيك، ولا نفسًا وسعها التأمُّل والنظر إلى كلِّ أمر بإمعان وتدبُّر، ولا تجرِبةً علَّمت صاحبها كيف يتوقَّف عند كلِّ ما يسمع ويرى، ويضعه محلَّ شكٍّ إلى أن يتيقَّن منه، ومحلَّ مراجعة وأخذ وردٍّ حتى يثبُت. 

عالم الأفكار سواء كانت متهافتةً أو راسخة، ليس وحدَه الذي يجعل فردًا ما يَنزِعُ إلى التطرُّف، فقد يكون هذا مردودًا إلى اعتلال نفسي، أو حاجة مادِّية تدفع صاحبها إلى الانتماء إلى ما يحقِّق له حمايةً، أو سندًا اجتماعيًّا يفتقده، أو لذَّةً يشتهيها، أو مالًا ينقُصه، أو منزلةً اجتماعية يحتاج إليها، وإلى مَن يجد في كنفهم رعايةً يفتقر إليها بين الناس. لكن حتى هذه الأسبابُ لا يمكنها أن توطِّدَ بقاء صاحبها في صفوف المتطرِّفين إلا بعد أن يملؤوا رأسه بأفكارهم، فأيًّا كانت أسبابُ الانخراط في صفوف التنظيمات والجماعات المتطرِّفة والإرهابية فإن الجانب القِيَميَّ والفكري لا يمكن نُكرانه؛ بل قد يكون له الأثرُ الأكبر في صناعة التطرُّف، والدليلُ على ذلك أن الإرهابيِّين الذين ينسِبون أنفسهم زورًا إلى الإسلام، ينتمون إلى طبقات اجتماعية متفاوتة، ومرجعيَّات تعليمية مختلفة، وبلدان شتَّى، وتجارِبَ حياتية متعدِّدة، لكنَّهم جميعًا يَغرِفون من مَعين فكر واحد.

من أجل ذلك يكون للثقافة دومًا وظيفةٌ مهمَّة وعميقة في مواجهة التطرُّف، وليس فقط المتطرِّفين، وفي مكافحة الإرهاب وليس الإرهابيِّين فحسب، وهذه مسألة مهمَّة جدًّا في تصوُّرات وإجراءات تنصرف سريعًا إلى مواجهة تصرُّفات الإرهابيِّين العنيفة المنظَّمة أو العشوائية أحيانًا، في مسار أمني أو عسكري قد يكون مُلحًّا أحيانًا لصدِّ هجَمات إرهابية أو وأدها في مهدها، بجمع المعلومات عمَّن يعتزمون ارتكابها، ومداهمتهم قبل أن يَشرعوا في تنفيذ جريمتهم. لكن هذا ليس حلًّا قاطعًا نهائيًّا أبدًا؛ إذ تبقى هناك دومًا المنابتُ التي يخرج متطرِّفون جدُد من رحمها، والمحاضن التي ترعاهم، وليست ظروفًا سياسية واقتصادية واجتماعية فحسب؛ بل ثقافية أيضًا.

الثقافة ومفهومها
الثقافة مفهومٌ مركَّب يجمع الآدابَ والفنون ومختلِفَ المعارف الإنسانية؛ بل الطبيعيَّات أيضًا وَفقَ بعض المذاهب، وكذلك ما تُنتجه القريحة الشعبية من أمثال وحِكَم وملاحمَ وأساطير وصور ذهنية وطقوس حياتية. وإذا كانت كلُّ هذه معروضةً على قارعة الطريق أمام الخاصَّة والعامَّة، فإن المثقَّف ليس ذلك الذي يقطِفُ من كلِّ بستان للمعرفة زهرة، ولا الذي يأخذ من كلِّ حديث طرفًا؛ بل هو مَن تفاعل في رأسه ونفسه كلُّ ما تلقَّاه، فصارت لديه رؤيةٌ وموقف وملَكات في نقد الذات والآخر، فكرةً كانت أو شخصًا، وإبداءِ الملحوظات والاعتراضات، فلا يسهُل اصطيادُه من أصحاب العقائد المتطرِّفة والأفكار المتشدِّدة أيًّا كان نوعها.

وَفقًا لمعاجم اللغة العربية فإن الثقافة من الفعل (ثقف) يُقال: ثَقُفَ الرجلُ ثقافةً، أي: صار حاذِقًا خفيفًا فَطِنًا. ثم جاء المعنى المتداوَل اليوم ليضيفَ على المعنى اللغوي، بأن المثقَّف هو مَن يمتلك عقلًا نقديًّا واعيًا، وذوقًا رفيعًا، يجعله محصَّنًا من القابلية لغزو أيِّ أفكار شاذَّة يزعم أصحابها أنهم يمتلكون الحقيقةَ المطلقة. فالمثقَّف الحقيقيُّ يفكِّر بطريقة علمية، والعلم ينزِع إلى النسبية والشكِّ والمساءلة والتجدُّد، وكلُّها قيم لا يتمتَّع بها المتشدِّدون والمتنطِّعون والمتطرِّفون.

والثقافة الشعبية (الفُلكلور) بعُمقها الفنِّي شعرًا ونثرًا وموسيقا، تمثِّل حائطَ صدٍّ كبيرًا للتطرُّف، ولهذا يعمل المتطرِّفون دومًا على تطويقها وتقويضها، ويرمونها بأنها “جاهلية جديدة”، ويُرسِخون هذا المفهومَ في آذان الناس بالإلحاح عليه؛ كي يقتنعوا به. وفي بعض المناطق التي تمكَّنت تنظيماتٌ متطرِّفة من السيطرة عليها حالوا بين الناس وأداء أعرافهم وعاداتهم في الأفراح والأتراح.

بالقدر نفسه يرفض المتطرِّفون الفنونَ والآدابَ التي تنتجها النخبةُ الثقافية، إلا إذا كانت توافق تصوُّرهم، فالسينما والمسرح والإنتاج الشعري والقصَصي والروائي، والموسيقا والغناء، مرفوضةٌ لديهم، بزعم أنها أشياءُ غارقة في الأكاذيب، وترمي إلى الإلهاء عن ذكر الله، أو هي من قبيل الفسق والفجور. وحاولت الجماعاتُ المتطرِّفة صنع فنِّها الذي جاء جافًّا بلا ذوق، وسطحيًّا بلا عُمق، ووعظيًّا دون مراعاة أي شروط أو مُقتضَيات للفن، ومعلَّبًا خاليًا لا إبداع فيه.

وفضلًا عن النقد والمساءلة فإن الثقافة الحقيقية تصنع (التعدُّدية) فهي في تكوينها منجذبةٌ إلى كلِّ ما يفيد، وبهذا فهي لا تنهَل من مَعين واحد، بل ترشُف من عطاءات معرفية وإنسانية شتَّى، وتدعو إلى هذا التنوُّع. وهذه التعدُّدية لا تتوافق بالطبع مع أصحاب الخطاب الأحادي الذي لا يؤمن إلا بمسار واحد ولون واحد، ويراه الطريق المستقيم، أو الصواب المطلق، وما عداه فإمَّا مستلَب وإمَّا مرذول أو مكروه أو كافر.

وهناك عنصرٌ ثالث تتَّسم به الثقافة هو الحركةُ الدائبة الدائمة التي يدفعها ما تتَّسم به من قدرة على إثارة جدل داخلي، ثم المشاكسة والتجدُّد، وهذا أيضًا يجعل المتطرِّفين في خِصام معها، فهم يميلون إلى الأفكار الراكدة التي تشكِّل نسقًا مغلقًا، يعتمدون عليه دون وضعه موضعَ النظر والاختبار والتدقيق؛ وإلا انفصمَت عُراهم، واهتزَّ تماسكهم، ففقدوا أهمَّ ما يسعَون إليه، وهو بناء تنظيم حديدي يقوم على مبدأ (السمع والطاعة)، ويعتقد أفرادُه أن قادته مُلهَمون، وأنهم يقرِّرون دومًا ما هو في صالح الدِّين ومصلحة الجماعة.

مَنَعة الثقافة
كثير من الجماعات المتطرِّفة والإرهابية تَنفِر ممَّن يطرحون أفكارًا مغايرة جديدة، وتُؤمن في الخفاء بمبدأ “التنظيم وليس التنظير”، ومن ثَم طالما لفظَت مفكِّرين، أو لم تسمح لهم بالانضمام إليها، وخاصمت كلَّ مَن في نفسه حظٌّ من أدبٍ أو فن، ولم تنتج في تاريخها أديبًا كبيرًا، ولا فنَّانًا موهوبًا، حتى إن سعَت إلى أن يكون لها سياقها الأدبي والفنِّي الخاص، فإن غلبةَ الوعظ عليه، وخضوعه للفكر المتطرف، أفقداه شروط الفن والأدب المتعارَفة، وأوَّلها الحرِّية.

لكن في المقابل نجد عَداء المتطرِّفين للثقافة ظاهرًا عِيانًا بيانًا، سواء في خطابهم المِنبَري أو منشوراتهم الموجَّهة إلى المجتمع، أو الكتب والكتيِّبات التي يؤلِّفها مَن يوجِّهونهم؛ بل إن الأمر تعدَّى هذا بكثير؛ فحين تمكَّن بعضُ أتباع هذه الجماعات من الوصول إلى البرلمانات العربية انصرفت أغلبُ أدوات الرِّقابة التي قدَّموها من أسئلة وطلبات إحاطة واستجوابات إلى المسائل الخاصَّة بالآداب والفنون، وعالم الأفكار عمومًا، وكلِّ ما يُطرح في مختلِف وسائل الإعلام.

وكلُّ هذه التصرُّفات القلقة من المتطرِّفين حيالَ الثقافة ما كان لها أن تكون لولا شعورُهم بخطرها على مشروعهم ومسارهم، بخصائصها الثلاث المذكورة في هذا المقام، ومن هنا جاء سعيُهم إلى طرح شيء في وجهها يسمُّونه “ثقافة” أيضًا، أو “بديل ثقافي إسلامي”، وهو وإن كان في شكله يحاول تقليدَ أنواع الثقافة المطروحة أو مجاراتها، فإن مضمونه يتنافى مع الشروط العامَّة للثقافة، اللهمَّ إلا من زاوية واحدة هي تلك التي ترى أن لكلِّ فردٍ أو مجموعةٍ ثقافتَها التي تُعبِّر عن شخصيَّتها.

وبناءً على ما سبق يصبح من الضروري أن نطرح السؤال الآتي: كيف تُفعَّل الثقافةُ في مجتمعاتنا لتصبحَ حائط صدٍّ منيعًا أمام التطرُّف، أو عنصرًا لتذويبه، أو إضعافه على الأقل؟

إن الأفكارَ تحتاج حتى ترسُخَ وتُطبَّق على الأرض ويعتنقها الناس إلى مؤسَّسات أو هيئات أو تنظيمات تحملها، وتحوِّلها إلى إجراءات قابلة للتطبيق في الواقع المـَعيش، وإلا ظلَّت محلِّقةً في أفق بعيد، لا يَلمُسه الناس ولا يؤثِّر فيهم كثيرًا. ولذا أقترح الآتي: 
1. بناءُ مجمَّعات صغيرة للثقافة، أو تعزيزُ نشاط الموجود منها، وتكون هذه المجمَّعات وَسْط الأماكن السكنية؛ حتى يجدَ الشباب سهولةً ويسرًا في الوصول إليها، والتعامل معها، واعتياد الذهاب إليها، على أن تقومَ المدارسُ والجامعات بلفت انتباه التلاميذ والطلاب إليها، ووضع برنامج للتعاون معها. 
2. يتطلَّب ما سبق أن تكون القراءة أو المطالعة جزءًا أساسيًّا من المناهج الدراسية بَدءًا بالصفِّ الأوَّل الابتدائي وانتهاءً بنهاية المرحلة الثانوية، على أن يُعَدَّ المعلمون لأداء هذه المهمَّة، وتزوَّد المدارسُ بمكتبات ثرية بألوان من المعارف والآداب المتخيَّرة بعناية.
3. يمكن تطبيق تجرِبة “مسرح الجرن” في مصر، وكنت من المشاركين فيها، حين جُرِّبت لمواجهة الفكر المتطرِّف، وهي مشروع يهدِف إلى تنشيط الفنون والآداب والتراث الشعبي (الفُلكلور) في المدارس الابتدائية والإعدادية، ويكون بالتعاون بين وزارتي الثقافة والتعليم. وحين طُبِّق المشروع في مدارس قرًى معروفة بتوافر الجماعات الإسلامية المتطرِّفة فيها، لاقت نجاحًا باهرًا، على الرغم من وجود مقاومة في البداية من الطلاب، بدعوى أن كلَّ الفنون حرام. لكن مع الوقت بات هؤلاء يرسمون ويعزِفون الموسيقا، ويكتبون شعرًا وقصصًا ومقالات، ويمثِّلون مسرحيات، ويبدعون فنًّا شعبيًّا هو ابن بيئتهم، ويعملون كلَّ هذا بإقبال شديد.
4. يجب الاهتمامُ بالمنتج الثقافي للأطفال، فبعضُ أعضاء الجماعات الدينية المتطرِّفة اعتمدوا على هذا الأسلوب في جذب الأطفال إليهم، وتمهيدهم للدخول في الجماعة، أو قَبول أفكارها والتعاطف معها، ولهم دُور نشرٍ معروفةٌ تساعد في أداء هذه المهمَّة. ومواجهتُهم يجب أن تكون في هذا الإطار، وعند هذه السنِّ المبكرة، ولا تكفي في هذا المضمار المجلاتُ الثقافية؛ بل يجب تشجيعُ الأدباء الذين يكتبون للأطفال، وإقامة دُور النشر التي تنشر أعمالهم بأسعار مناسبة.
5. يجب تشجيع مُنتجي الفنون والآداب في المجتمع، وتقديمهم على أنهم أشخاصٌ جديرون بالاحتفاء، وأن ما يكتبونه عمودٌ أساسي ليس في مواجهة التطرُّف والغلوِّ والتشدُّد الديني؛ بل في تعزيز (القوَّة الناعمة) للدولة عمومًا، ويتطلَّب هذا بالأساس اعتمادَ ميزانيَّات كافية لصناعة ثقافة حقيقية.
6. من الضروري تنظيمُ مسابقات ومنافسات في التأليف والكتابة الإبداعية لطلاب المدارس وللشباب، في قضايا محدَّدة تعزِّز “التنوير”، وتُعلي من شأن الاعتدال الديني.
في كلِّ الأحوال يجب عدمُ التعامل مع الثقافة على أنها قلائدُ للزينة؛ بل هي وسيلةٌ لبناء الإنسان، وتكوين معارفه وقيمه واتجاهاته، ومن ثَم النهضة بالمجتمع برُمَّته. ويجب عدمُ التعامل مع التطرُّف والإرهاب بوصفهما مسألةً أمنية محضة؛ بل هما قائمان على قِيَم وأفكار مغلوطة ومتنافرة مع تلك التي يتبنَّاها التيَّار الاجتماعيُّ الرئيس، وبذا يكون التصدِّي لها فكريًّا على المدَيَين القريب والبعيد، وأمنيًّا وعسكريًّا حيال تحوُّلها من مجرَّد أفكار سوداء إلى تدابيرَ وأعمال عنيفة، تريد أن تفرضَ تصوُّرها على الناس عَنوة.