تكاد تتشابه النّهايات المرحليّة للجماعات والتنظيمات العنيفة ذات المُنطلقات الأيدولوجية المتطرّفة، فهي وإن اختلفت في التفاصيل والمُسببات والمنطقة الجغرافيّة وظروف النهايات المرحليّة، لكنها في الغالب تتفق في الشكل الفكري والهيكلي والمنهجي لمرحلة التفكك أو الانحسار، ثم في هيئة ما بعد الهزيمة، ويتلوها محاولة الصمود أو محاولات إعادة الالتئام.

وقد حَرِصتُ في مقدمة المقال أن أصف النهايات بـ "المرحليّة" لأننا وفقاً للمُعطيات الواقعيّة والتاريخية لا يمكن أن نصِفَ ما حصل ويحصل للتنظيمات الإرهابيّة الكُبرى بأنه "نهاية"، ولكن يمكن وصفه بنهاية مرحلة، وسيتبين ذلك من خلال استعراض عناصر المقال.

التنظيمات محلّ الدراسة:

عُنيَ المقال بتخصيص النّظر ودراسة أهم التنظيمات الإرهابيّة المعاصرة، والتي شكّلت الحضور الإرهابي الفكري والميداني، ونستطيع أن نطلق عليها "التنظيمات الكبرى"، وهي:

جماعة الجهاد المصريّة: بدأت طلائع التكوين في 1964م، وهي وإن كانت محليّة لكنها من جهة التنظير والتأصيل الفكري تْعتبر مرجعيّة للتيار الجهادي العنيف في العصر الحديث.
تنظيم القاعدة: تأسس في 1988م، لكن لم يُستخدَم هذا الاسم بشكل مُتداول "تنظيم قاعدة الجهاد" لدى التنظيم إلا في 1998م، فبعد مرحلة التجمُّع الأولى تحت "مكتب الخدمات" و "بيوت المجاهدين"، جرى اتفاق في 1988م على إطلاق اسم "القاعدة" على هذا التجمُّع وكانت حينها أهداف التنظيم العالميّة لم تنضج، وأغلب مخططاته الامتداديّة سريّة.
تنظيم "داعش": ترجع الأصول الهيكليّة الأولى للتنظيم إلى "جماعة التوحيد والجهاد" التي أسسها الزرقاوي 2003م، وفي 2004م بايع الزرقاوي تنظيم القاعدة وغيّر اسم الجماعة إلى "تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، وفي 2006 انضمّ التنظيم إلى تكتّلات أخرى تحت اسم "دولة العراق الإسلاميّة"، وفي 2013م أُعلِن تكوين "الدولة الإسلاميّة في العراق والشام" وهي "داعش" بشكلها الأخير، إلى أن غيّر التنظيم الاسم إلى "الدولة الإسلاميّة" في 2014م وأعلن مشروع الخلافة.
التسلسل التاريخي مهمّ في تصوّر مراحل تطوّر هيكليّة التنظيمات الكُبرى إلى أن تصل مرحلة النُّضج والفُتوّة، وهي تتشابه كثيراً في مراحل تكوينها.

فهذه التنظيمات هي التي شكّلت ملامح الحركة الجهاديّة المنحرفة، وجميعها ناتجة عن تطوّرات سابقة لمجموعات ومبادرات وخلايا، نضجت فكرياً وميدانياً ثم خرجت بالشكل التنظيمي، وهي وإن كانت متقاربة أيديولوجياً ومتشابهة في آلياتها التنظيمية، لكن بينها اختلافات في بعض الأصول والتفريعات، كما يُمكن تصنيفها ضمن إطار واحد، خاصة وأنّها مُتسلسلة المحتوى المعرفي، ومترابطة الأهداف الكُليّة، لدرجة أننا نستطيع وصفها بنسخ مُحدّثة من التيار العنيف والفِكر الإرهابي الذي اعتمد على شعارات "الجهاد" بشكل مغلوط.

فهذه التنظيمات الثلاثة تصلح كعيّنة للدراسة نظراً لوِحدة المُنطلقات، وتقارب الأدوات والآليات ومنهجيّة العمل الحركي داخل التنظيم.

الدّاعي لصياغة المقال:

"يساعد التصوّر الاستشرافي لواقع التنظيمات الإرهابية في بناء مُعالَجات تحُدّ من تشكّلها، وإعادة انتشارها، وينقلنا إلى "استباقيّة" توجيه مسارات التطرّف والإرهاب"نحنُ نعيش فعليّاً نهاية مرحلة من مراحل التنظيم الأشهر والأشرس " داعش"، فهو فعليّاً خسر كل عواصمه ومناطقه المركزيّة وما يقارب ٩٦ ٪ من أراضيه في سوريا والعراق، إن هذا السقوط للتنظيم يتطلّب قراءة واستشرافاً للمرحلة القادمة، وفقاً لمعطيات ميدانيّة وفكريّة وهيكليّة، ووفقاً لمُقارنات بالجماعات والتنظيمات المُشابِهة، فالتصوّر الاستشرافي لواقع التنظيمات يُساعِد في بناء مواجهات ومُعالَجات تحُدّ من تشكّل التنظيم وإعادة انتشاره من جديد، كما أن الفهم العميق لحَرَاك التنظيمات ينقلنا إلى "استباقيّة" توجيه مسارات التطرّف والإرهاب.

النِّهايات المرحليّة:

بعد مرحلة "النُّضج" الميداني والفكري للتنظيمات تدخل في طور ومرحلة التفكك والضّعف والانحسار، وذلك لعدة أسباب أهمها:

1. الترهّل والتوسّع: فجميع التنظيمات المعنيّة لديها هدف توسُّعي "ميداني وفكري"، فهي تحمل الرغبة والدوافع والنّهَم إلى مزيد من الانتشار، خاصّة في مرحلة النّضج واكتمال القوّة ونشوة النصر –المزعوم-، هذا التوسّع الجغرافي والميداني والفكري هو أحد أسباب ضعفها وسقوطها في طور الضّعف؛ لأنه يدفع إلى نمو المشكلات الداخليّة، والتفكك والانقسامات، والخلافات المنهجيّة والهيكليّة.

فتنظيم القاعدة أصبحت لديه شَرَاهة في فتح أفرع منتشرة في العالم، واستقطاب المزيد من القيادات الميدانيّة والفكرية والمُجنّدين، مما أثقل على القيادة المركزيّة مسألة المُتابعة والسيطرة، وبعد مقتل أسامة بن لادن 2011 م تكشّفت الثغرات، وانفردت بعض الأفرع والمجموعات بالقرار، وأصبحت القيادة المركزيّة أضعف من أن تُمسِك بزمام الحَرَاك التنظيمي؛ فأصبح من السّهل الانشقاق أو اختراق التنظيم، حتى طَغَت بعض المجموعات الموالية للتنظيم مثل أنصار الشريعة في اليمن على التنظيم ذاته.

وسَبَقهم في ذلك تنظيم الجهاد، وإن كان توسّعه وترهّله فكريّاً وعمليّاتيّاً هو الطاغي، فلم يستطع التنظيم الانتشار الجغرافي، إلا بعد نهايته المرحليّة وكان انتشاراً لأفراده وقياداته.

وهي ذات الصورة مكررة لدى تنظيم داعش، مما سهّل انهياره في مناطقه المحوريّة والمركزيّة، وانكسرت آلته الإعلامية والإلكترونيّة بعد فترات تذبذُب طويلة.

2. تدخُّل الدّوَل المُكثّف: إن قُوّة التنظيمات ونشاطها ووصولها إلى نقاط السيطرة الميدانيّة والاقتصاديّة والفكريّة، وتضرّر الدُّول منها بشكل واضح، تطلّب تدخّلاً أشمل وأدقّ وأكثر تكثيفاً من المراحل السابقة في المعركة ضد التنظيمات، خاصّة في وجود دول ومؤسسات مُستقرّة، فالتنظيمات تنشط في المناطق الأكثر اضطراباً وضعفاً مؤسساتياً، وتضعف في المناطق الأكثر تماسكاً.

فجماعة الجهاد لما هبّت الدولة في محاصرتهم ومحاربتهم بشكل شامل، استطاعت إجبارهم على الدخول في طور النهاية المرحليّة رُغم الخسائر البشريّة من طرف الدّولة لكنها تجاوزت الأزمة في ظل مؤسسات متماسكة.

كذلك تنظيم القاعدة في مناطقه، وإن كان التنظيم أفاد من تجربة "الجهاد" وحاول تفادي الانهيار داخل الدّوَل المستقرة، ولكنه في النهاية لم يثبت، فعلى سبيل المثال "تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين"، وقد كان هذا الفرع بالنسبة للتنظيم والقيادات العُليا "أساساً" في النمو المُستقبلي ومحوراً فكرياً، لكن استطاعت السعوديّة تفتيت هذا التنظيم، بل وإجباره على تغيير هيكليّته بحيث غيّر الاسم إلى "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" في عام 2009م، ونقل مراكزه إلى خارج السعوديّة، ولم يبقَ في السعودية بعد معارك شرسة ومتتابعة مع التنظيم منذ 2003م أي نقطة مركزيّة داخل أراضيها.

وهو ما يحدث الآن لتنظيم داعش في العراق وليبيا وماراوي – الفلبين، فقد خَسر سيطرته وانهار في مراكزه، وأجبِر على تغيير مساره.

"عندما تستيقظ المجتمعات، وتستعيد وعيها، تتكشف لها حقيقة التنظيمات الإرهابية فتفقد التعاطف المجتمعي وتضيقُ عليها جميع الدوائر"3. الوعي المُجتمعي: الحضور والتعاطف المجتمعي هو الحاضنة الأكبر للتنظيمات، فإذا فَقَدَ التنظيم هذه الحاضنة تضيقُ عليه جميع الدوائر، ويبدأ في مرحلة التنقٍّل والهُروب، والاختباء والتخفّي، ويفقد كذلك مِدَاد المُجنّدين والمُتعاطفين والمُوالين، ولا يتمّ ذلك إلا بعد تجرؤ التنظيم على تنفيذ عمليّات وحشيّة تنال المدنيين والعسكريين البسطاء – حرس المباني ونقاط التفتيش-، فالمُجتمعات تستيقظ وتتكشف لها حقائق التنظيمات عندما يُلامسها الخطر، وتشعر بفقدان مُكتسباتها خاصة شبابها المُنخرِط في التنظيمات الذين أصبحوا يُعادون أوطانهم .

وهي ذات النقطة التي تنبّه لها تنظيم القاعدة، وأرسل إلى فروعه بعدم تنفيذ عمليات من شأنها إثارة الغضب المجتمعي، لكن بعد فوات الأوان وانفراط قوّة سيطرة قيادات التنظيم العُليا.

ما بعد النهايات المرحليّة:

لم تختر التنظيمات الدخول في هذا الطور وهذه المرحلة، لكنها تُحاوِل التأقلم والتغيّر وتبديل المنهجيّة، رغبة في البقاء، وهو ما سمّاه أغلب قيادات التنظيمات بـ "الانسحاب التكتيكي"، فيكون هذا الانسحاب والتغيُّر كالتالي:

التناثر العالمي، عبر خلايا صغيرة، وبناء مجموعات جديدة، وروابط اجتماعيّة، وامتدادات مخفيّة.
الدّفع بتقوية بعض الأفرع، خاصّة القاطنة في مناطق قبليّة أو مُضطربة.
الاندماج تحت مظلّة جماعات أُخرى، ولا يُشتَرط التقارب الفكري، المهم في هذه المرحلة هو الانتماء والغِطاء، وتظهر هذه السِّمة أكثر لدى الأفراد، والمجموعات العرقيّة المُتكتلّة.
إعادة التشكّل في تنظيم أو مُكوّن جديد، فجماعة الجهاد ضغطوا في اتجاه بناء مُكوّن جديد، ساهَمَ في ظهور تنظيم القاعدة، والقاعدة عبر فرعها في العراق وسوريا دَفَعت في ذات الاتجاه الذي أخرج لنا "داعش" و "جبهة النصرة"، وهذا التشكّل الجديد ينبري له قيادات لها أجندتها الخاصّة في الغالب.
التحالف مع دُوَل وأنظمة "داعمة للإرهاب"، وذلك لتوفير حِماية للقيادات وأسرهم، وللمحافظة على أصول التنظيم البشريّة، وهو ما حدث لتنظيم القاعدة مع النظام الإيراني، الذي وفّر لقيادات القاعدة الحِماية والاحتواء، بل وإنشاء مُعسكرات خاصّة للتنظيم مع التدريب والرعاية.
"يجب ألا ندع التنظيمات الإرهابية تختار نهاياتها المرحليّة، بل نجبرها على مسارات تحدّ من تشكّلها وانتشارها وإعادة تدوير فكرها ومنهجيّتها"هذه التشكّلات تجعلنا نؤكّد مصطلح "النهاية المرحليّة"؛ لأنها مرحلة انتقاليّة وتغيّر، تأخذ مداها الزمني، لتعود من جديد بشكلّ آخر، وهو ما يدفع إلى "قطع الطريق" على التنظيمات وخاصّة داعش أن تأخذ مداها الزمني في أحد هذه المسارات، فيجب ألا ندع التنظيمات الإرهابية تختار نهاياتها المرحليّة، بل نجبرها على مسارات تحدّ من تشكّلها وانتشارها وإعادة تدوير فكرها ومنهجيّتها.