الإرهاب من أكثر مظاهر العنف انتشارًا في العالم اليوم، وغالبًا ما يخلِّف آثارًا لا تكاد تُمحى من الكوارث والمآسي. وكانت عملية اغتيال الأرشيدوق فرانسوا فرديناند دي هابسبورغ وليِّ عهد النمسا، في سراييفو عام 1914م سببًا مباشرًا لاندلاع الحرب العالمية الأولى (1914م- 1918م) التي بلغ عدد قتلاها وجرحاها من عسكريين ومدنيين نحو 63 مليون نسمة (16 مليون حالة وفاة، و20 مليون إصابة). وأدَّت هجَمات 11 سبتمبر 2001م على بُرجَي مركز التجارة العالمي في نيويورك وأحد مباني وِزارة الدفاع الأمريكية إلى مقتل قرابة ثلاثة آلاف شخص من جنسيات مختلفة. أعقبت تلك الهجَماتِ حروبٌ أطاحت بنظامَي الحكم في أفغانستان والعراق، وأعمالُ عنف وقتل وتدمير استهدفت المؤسسات والبشر في عدَّة دول من جميع القارَّات. 

وعرَفت هــذه الظــاهرة انتشـارًا وتطـورًا مسـتمرَّين في الأهداف والتنظيم والوسائل. وهذه المقالةُ تجيب عن عدد من الأسئلة مثل: كيف تطوَّرت هذه الظاهرة؟ وبأي اتجاهات؟ وكيف تفاعلت القوانين والتشريعات الدَّولية والوطنية مع هذه الظاهرة المركَّبة، وما حدودُ ذلك؟

تطوُّر الظاهرة الإرهابية
اتخذ الإرهاب الدَّولي بعد نهاية الحرب الباردة طرقًا متنوعة، مثل: خطف الطائرات، والاستيلاء على السفن (اختطاف الباخرة أكيلي لاروAchilleLouro  وقتل أحد ركَّابها)، وتدمير المنشآت المدنية، واغتيال شخصيات سياسية ودبلوماسية وفنانين ورجال أعمال، ومهاجمة السِّفارات والمؤسسات العمومية، ووضع المتفجِّرات في الساحات والأماكن العامَّة، وصولًا إلى القتل الجماعي. وتحوَّل الإرهاب منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م إلى ظاهرة دَولية، وبات أهمَّ المصادر غير التقليدية لتهديد السِّلم والأمن الدَّوليين، ولا سيَّما بعد ارتفاع عدد المنظمات الإرهابية من 30 منظمة عام 1971م إلى 170 منظمة، وتنوُّع المواصفات الاجتماعية والتعليمية والجغرافية للمنتمين. واتسعت مِساحةُ الارهاب جغرافيًّا، ما أدَّى إلى ارتفاع عدد العمليات الإرهابية وعدد ضحاياها الذي فاقَ عدد ضحايا الحروب التقليدية! فضلًا عن ملايين اللاجئين والمهجَّرين، وعمليات نهب الإرث الثقافي للدول، مثلما حدث في أفغانستان والعراق وسورية، وتدمير البنية التحتية والأساسية للدول.

تميَّز إرهابُ العِقد الأول من الألفية الثالثة بتطوُّر طرقه التنظيمية ووسائله التنفيذية، وارتفاع عدد المنتمين إلى المنظمات الإرهابية من الذكور والإناث، واختلاف أعمارهم وجنسياتهم، واستخدام الوسائل التقنية الحديثة. لذلك أصبحت عملية مراقبة التنظيمات الإرهابية، والتصدِّي لانتشارها، وكشف خلاياها، ثمَّ مواجهتها والقضاء عليها بالطرق التقليدية والأسلحة النظامية، عمليةً صعبة ومكلفة ومحفوفة بالمخاطر. لذلك فرضت التحوُّلات التي عرَفتها الظاهرة الإرهابية على الدول ومؤسَّساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية والمجتمع الدَّولي، ضرورةَ مواكبة تلك التحوُّلات ومواجهتها، بسَنِّ القوانين والتشريعات الدَّولية والإقليمية والوطنية المناسبة.

 تعدُّد المعالجات القانونية
في هذا الإطار، أبرم المجتمع الدَّولي نحو ثلاثة عشر صَكًّا قانونيًّا عالميًّا بإشراف الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصِّصة، في المدَّة ما بين 1963م و2001م، تقضي بتجريم الأعمال الإرهابية، وتكون أساسًا للتعاون الدَّولي في هذا المجال. منها مكافحةُ الاختطاف غير المشروع للطائرات، واتفاقية مكافحة الأعمال غير المشروعة تجاه سلامة الطيران المدَني عام 1971م. وأصدرت الجمعية العامَّة عددًا من القرارات التي أدانت فيها الإرهاب وعدَّته من الجرائم الدَّولية. وتبنَّت في عام 1972م (في الدورة السابعة والعشرين) طريقةً جديدةً في معالجة قضية الإرهاب تميَّزت بالاتساع والصرامة، ودعت لاتخاذ تدابيرَ بهدف منع الإرهاب وأنواع العنف الأخرى التي تعرِّض حياة السكَّان الأبرياء للخطر، إضافة إلى الاتفاقية الدَّولية بشأن مكافحة الجرائم التي تستهدف الشخصياتِ الاعتباريةَ المحمية، ومنهم الممثلون الدبلوماسيون، عام 1973م، والاتفاقية الدَّولية لمكافحة خطف الرهائن عام 1979. 

وتناولت الجمعية العامَّة جوانبَ مهمَّة من الظاهرة الإرهابية، من ذلك ظاهرة "إرهاب الدولة" بوصفها ممارسةً تسعى إلى تقويض النظُم الاجتماعية والسياسية للدول، والبروتوكول بشأن مكافحة أعمال العنف في المطارات، والاتفاقية بشأن مكافحة الأعمال المهدِّدة لسلامة الملاحة البحرية عام 1988م، والاتفاقية الدَّولية لقمع الاعتداءات الإرهابية التي تستخدم المتفجِّرات البلاستيكية عام 1991م. وبخصوص أزمة "لوكربي" أكَّد القرار رقم 748 أن من واجب كلِّ دولة، بموجب المبدأ الوارد في المادة 4/2 من ميثاق الأمم المتحدة، الامتناعَ عن تنظيم أعمال إرهابية في دول أخرى، أو الحضِّ عليها، أو المساعدة أو المشاركة فيها، أو القبول بأنشطة منظمة داخل إقليمها تكون موجهةً لارتكاب مثل هذه الأعمال. وكذلك أصدر المجلس الاتفاقية الدَّولية لقمع الإرهاب بواسطة إلقاء القنابل عام 1997م، والاتفاقية الدَّولية بشأن تمويل الإرهاب عام 1999م. ويُعَدُّ القرار 1566 عام 2004م من أهمِّ القرارات التي أصدرها المجلسُ المتعلِّقة بالإرهاب، إذ دعا إلى إشراك المنظمات الدَّولية والإقليمية ودون الإقليمية ذات الصلة في العمل على تعزيز التعاون الدَّولي في مجال مكافحة الإرهاب، وتكثيف تفاعلها مع الأمم المتحدة، ولا سيَّما مع لجنة مكافحة الإرهاب. 

لقد شدَّد مجلس الأمن على ضرورة أن تمرَّ عملية مكافحة الإرهاب عبر توطيد دولة القانون وتطوير التعاون بين الدول، واستنادًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تبنَّى المجلس قرارًا مُلزمًا لجميع الدول في مكافحة تمويل النشاطات الإرهابية، واعتماد تشريعات قوية لتوفير سيطرة حقيقية على أراضيها، وتجنُّب استخدام هذه الأراضي لأغراض عَدائية تجاه دول أخرى.

وكثُرت الاتفاقيات الإقليمية ذات العَلاقة بالتصدِّي للأعمال الإرهابية ومكافحة الظاهرة وتنوَّعت، من ذلك تبنِّي الدول الأمريكية في 2 فبراير 1971م الاتفاقيةَ الخاصَّة بمنع ومعاقبة أفعال الإرهاب وما يتعلَّق بها من ابتزاز، ووُقِّعت الاتفاقية الأوروبية لمنع وقمع الإرهاب في ستراسبورغ في 27 يناير 1977م، إضافة إلى الاتفاقية الإقليمية لجنوب آسيا الموقعة عام 1987م لمكافحة الإرهاب، والمعمول بها عام 1998م. والاتفاقية العربية الموحَّدة لمكافحة الإرهاب الموقَّع عليها عام 1998م باسم الإستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب، واتفاقية منظمة المؤتمر الإسلامي لمكافحة الإرهاب الدَّولي عام 1999م، واتفاقية منظمة الوَحدة الإفريقية لمكافحة الإرهاب عام 1999م المبرمة بالجزائر، والاتفاقيات الأمنية لمجلس التعاون الخليجي التي أُبرمت في عام 2012م في الرياض، إلى جانب الإستراتيجيات الوطنية المحلِّية لمكافحة الإرهاب التي أُنجزت بتوصية من الأمم المتحدة.

 وسائل مكافحة الإرهاب
بذلت هيئة الأمم المتحدة جهودًا حثيثة تمخَّضت عن إصدار الكثير من القوانين والاتفاقيات والقرارات ذات العَلاقة بمكافحة الإرهاب، إلا أنها لم تتوصَّل إلى صياغة مفهوم موحَّد ومحدَّد ودقيق للإرهاب والجريمة الإرهابية. وذهبت أغلبُ الاتفاقيات إلى جعل بعض الجرائم ضمن مفهوم الإرهاب، واستبعاد جرائمَ أخرى. وكذلك اعتمدت على صياغة مصطلحات فضفاضة غير دقيقة ضمن الأعمال الإرهابية. ولم تميِّز بعضُ الاتفاقيات بين أعمال العنف التي تندرج ضمن مفهوم الكفاح المسلَّح والمقاومة لتقرير مصير الشعوب الرازحة تحت الاحتلال، مثلما جاء في ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدَّولي من ناحية، وأعمال العنف التخريبية التي تهدف إلى ترويع المواطنين، وإلحاق الخسائر باقتصادات الدول وأمنها من ناحية أخرى.

على حين هناك شبهُ إجماع بين رجال القانون على أن قرارات مجلس الأمن بشأن الإرهاب، ولا سيَّما تلك الصادرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ذات الأرقام 1368، 1373، 1390) تُعَدُّ سابقةً دَولية خطِرة، ما قد يُفسح المجالَ لنهاية القانون الدَّولي، ذلك أن مجموع الإجراءات والممارسات التي استندت إليها تمثل تحدِّيًا خطِرًا لأحكام القانون الدَّولي لحقوق الإنسان، وانتهاكًا صريحًا لمبدأ الشرعية الدَّولية، وقد يؤدِّي إلى واقع قانوني جديد؛ بنشوء أعراف وممارسات مناقضة لهذه الشرعية في كلِّ مجالات العلاقات الدَّولية. يُذكر أن ما يميِّز أغلبَ فصول هذه الاتفاقيات والنصوص، جماعية كانت أو بإسهام عدد محدود من الدول غير المؤثرة، أنها ذاتُ طابع علاجي آني، كأن هدفها إيجادُ العلاج للتخفيف من التداعيات المادِّية والبشرية والنفسية بعد كلِّ عملية إرهابية.

 بين المعالجات الأمنية والقانونية 
اعتَمدت المعالجاتُ القانونية التي اتُّخذت قبل 11 سبتمبر في التعامل مع مكافحة الإرهاب على منهج الردع والاحتواء (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا)، في حين عُنيت المعالجات القانونية بعد 11 سبتمبر على الحلول الأمنية العسكرية، أي استخدام القوة مع دعم التحرُّك الأحادي الجانب، والاعتماد على عقيدة الدفاع الوقائي الاستباقي (الولايات المتحدة وبريطانيا). أما غيرها من الدول فيرى أن العملياتِ الإرهابيةَ تلك هي من صنف الجرائم التي تتصف بكونها منازعاتٍ دَوليةً يمكن تسويتها واتخاذ تدابيرَ غير عسكرية أممية، كما هو حالُ الحرب في أفغانستان والعراق؛ بالركون إلى القانون الدَّولي. وهذا الأمر كان له أثره الكبير في عمل مجلس الأمن وأدائه لوظيفته الأساسية في حفظ السِّلم والأمن الدَّوليين، ومن ذلك التوسُّع في استخدام الفصل السابع والاستناد إليه في فرض تدابيرَ قسريةٍ على الدول والجماعات التي ترعى الإرهاب، انسجامًا مع موقف الولايات المتحدة الأمريكية وسلوكها على الأرض.

وتبعًا لكلِّ هذا نخلص إلى القول: إن الحرب على الإرهاب قد تحوَّلت إلى عامل أساسي في صياغة العَلاقات الدَّولية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وفي بناء تحالفات جديدة على حساب عواملَ أخرى. لذلك يبدو أن تسويغَ التدخل الإنساني الذي تستخدمه الدول الكبرى ذاتُ التأثيرات الواسعة والمتعددة في السياسات الدَّولية، من شأنه أن يؤدِّيَ إلى تغيير حكم القانون الدَّولي بالصيغة التي ترتضيها القوى الدَّولية المؤثرة، ما قد يُسهم في تقويض ما تبقَّى من النظام الهشِّ للشرعية الدَّولية، والانحراف عن روح المبادئ الأساسية والقوانين والتشريعات التي قام على أساسها بناءُ العَلاقات الدَّولية بعد الحرب العالمية الثانية.

لا شك أن للمعالجة القانونية للإرهاب منحَيَين أو حقلين متكاملين مترابطين، ولكنهما متنازعان أحيانًا، وهما المعالجة القانونية والمعالجة الأمنية بكل أبعادها، ومن الضروري أن يتكاملا معًا حتى تكونَ معالجة الظاهرة ناجعة، فمكافحة الإرهاب تحدٍّ مستمرٌّ للقانون الدَّولي. وللقضاء على العنف الإرهابي لا يكفي إنكاره ولا إدانته فقط؛ بل من الضروري التوافق قانونيًّا وإجرائيًّا على الطرق والوسائل التي يمكن اتِّباعُها بعد تحديد أسباب بروز الظاهرة وانتشارها وتمدُّدها، وقدرتها على تضليل فئات واسعة من الشباب، سواء في الدول المتقدِّمة أو الدول التي لا ينعُم فيها الشبابُ بالحدِّ الأدنى من العيش الكريم. إن معالجة ظاهرة الإرهاب لا تكون حصرًا بالمعالجة القانونية والأمنية، على الرغم من أهميتهما الكبرى؛ بل من الضروري أيضًا دعمُ هذه المعالجة بجهد مجتمعي وسياسي وفكري وثقافي وتربوي واقتصادي.