أصبح تصاعدُ التطرُّف العنيف مصدرَ قلق كبير لحكَّام غرب إفريقيا، وعائقًا حقيقيًّا للتنمية. ويعزِّز هذا الواقعَ موقعُ دولة بِنين المحاطة بثلاثة بلدان ما تزال تدفع ثمنًا باهظًا للإرهاب، وتعاني أخطارَه وآثاره. ومع صعوبة الأخذ بالخِيار العسكري، وتنفيذه على نطاق واسع، تهتمُّ بِنين بمراجعة سياستها الأمنية تجاه سكَّان البلد ومنظماتهم المختلفة في سياق وضع خُطط منع التطرُّف العنيف. ولا تخفى أهميةُ المجتمع المدني وعظيمُ أثره في تنفيذ هذه الخطط، لكن السؤال الملحَّ: هل يملك هذا المجتمعُ المدني الشرعيةَ والقدرة على ضمان المرونة والصمود في مواجهة التطرُّف العنيف؟

التعدُّدية والتشتُّت
المجتمع المدني في بِنين كألوان الطَّيف، يتألف من جمعيات ومنظَّمات غير حكومية، وهيئات استشارية، وشبكات ومنظمات مِهَنية، ومشيخات محلِّية، وتجمُّعات شبابية ونسائية، ورُعاة ووسطاء تنمية آخرين. والمواطنون بحاجة مُلحَّة إلى وقوف المجتمع المدني بجانبهم في كلِّ الميادين التي تهملها الدولة. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة في الترتيب والتنسيق، فإن هذه المنظماتِ والجهات المدنيةَ لا تزال مشتَّتةً ومتنافرة وضعيفة التنظيم، ويتأثَّر توجُّهها غالبًا بحاجتها إلى تحصيل الموارد من المساعدات التنموية، مما يجعل الانتهازية سِمةً للكثير من مؤسسات المجتمع المدني، مع فِقدان الهُويَّة الحقيقية، والتكيُّف المستمر مع اهتمامات الجهات المانحة ورؤاها.

ويتجلَّى في المجتمع المدني عدَّةُ اتجاهات: عَلماني وطائفي وعِرقي وتقليدي، والمؤسسات العَلمانية غالبًا ما تكون أفضلَ من سواها، لكنَّ وجودها المباشِر في مجال منع التطرُّف العنيف أقلُّ من غيرها غالبًا، فهي تُسهم على نحو أكبر في تحسين الحوكمة الشاملة التي تلبِّي احتياجات الطبقات المختلفة، ولا سيَّما الفئاتِ الأكثر ضعفًا في المجتمع، وتشارك في تقديم الخِدْمات العامَّة عالية الجودة. فعَلاقتها غيرُ مباشرة مع سياسة منع التطرُّف العنيف، وتُسهم في مرحلة مبكِّرة في الحدِّ من الإحباطات المرتبطة بالحكم غير الرشيد الذي يُعَدُّ أحدَ المصادر الرئيسة للتطرُّف. ولا بدَّ لهذه المؤسسات من رفع كفاءتها وتحسين قدُراتها للصمود في مواجهة الإرهاب بالمهنية والتخصُّص على نحو يكون أدقَّ وأوسعَ في سياسة منع التطرُّف العنيف.

المنظَّمات الإسلامية 
الجمعياتُ والمنظمات غير الحكومية والرعاة الإسلاميُّون من مكوِّنات المجتمع المدني الأساسية، ولها إسهامٌ مباشر في سياسة منع التطرُّف العنيف، ونشاطها الرئيسُ في العمل الإنساني؛ بجمع التبرُّعات على اختلاف أنواعها، والرعاية الصحية، وتقديم المساعدات لضحايا الكوارث الطبيعية، وتشييد البنية التحتية الاجتماعية. ويقدِّم أعضاؤها أيضًا الخُطَب، وينظِّمون المحاضرات والحوارات التثقيفية، وجلَسات التوعية للفئات الضعيفة في المجتمع؛ كالفقراء والشباب والنساء والأيتام؛ لتحصينهم من الغلوِّ والتطرُّف.

وترتبط هذه المؤسساتُ الدينية بشبكات دَولية متصلة بدول شمال إفريقيا، وغيرها، مثل: ليبيا والمغرب ومصر والجزائر والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية وسوريا وتركيا والإمارات العربية المتحدة. ويمكِّنهم هذا الارتباطُ من الحصول على مبالغَ ماليةٍ كبيرة للمساعدات الإنسانية، أو للمِنَح الدراسية للشباب والطلَّاب الذين يلتحقون بالمدارس القرآنية والمؤسسات التعليمية المختلفة، وتُستخدَم بعضُ تلك الموارد لتلبية الاحتياجات الشخصية لمنسوبيهم؛ لحمايتهم من إغراءات الجماعات المتطرِّفة في استقطابهم وتجنيدهم.  

وتُثار بعضُ الشكوك المتعلِّقة حول شبهات فساد؛ بسبب مستوى المعيشة المرتفع لمسؤولي هذه المؤسسات، في بيئة يسودُها الفقر المـُدقِع، فتتعقَّبهم وَحدةُ معالجة المعلومات المالية الوطنية، وهي أداةُ الدولة في محاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ويبدو أن الضخَّ المالي الذي يقومون به داخل مجتمعاتهم هو أداةٌ للتأثير الفكري والمنهجي لتجنيد الشباب العاطل من العمل، واليائس المحبَط، والساخط على الحكَّام والمسؤولين؛ بسبب الأوضاع غير المستقرَّة وسوء الأحوال. فهم يدعون إلى فهم متشدد للدين، يكون أحيانًا أكثر ضَراوةً وعُنفًا في مواجهة الدولة، لكن نشاطهم في المقابل يحظى بدعم المجتمعات التي ينشطون فيها ويمدُّونها بالمساعدات والمال، وقد يُسهم ذلك في تطوير التعصُّب والتطرُّف لدى الشباب، ولهذا السبب قد يُنظر إلى المجتمع المدني الإسلامي بالرِّيبة والشَّك، وبالرغم من إسهامه في الصمود لمواجهة التطرُّف العنيف إن حقيقةَ الأمر غير واضحة، والتفسيرات متعدِّدةٌ متضاربة.

الوجهاء المحليون والشرعية
تضمُّ جبهة الوجهاء المحلِّيين القادةَ الدينيين والحكماء وأعضاء المشيخات التقليدية، ويشارك بعضُهم في التعليم والحوار بين الأديان والوعظ والتدريب، ويشفع آخرون في حلِّ النزاعات أو الأزَمات المجتمعية، ويبذلون الجهد في منعها، ويمارسون أحيانًا بعضَ الأعمال التقليدية لتنظيم العَلاقات الاجتماعية، وتحقيق صمود المجتمع وتماسُكه؛ كالصلوات والتضحيات والقرابين، وطقوس التعاويذ لدَرْء الأقدار السيِّئة، والتوسُّل بالبركات لجلب الخير لأراضيهم ومواطنيهم. وغالبًا ما تُخفِق جهودُهم لأنهم في كثير من الأحيان يكونون أبطالَ النزاعات المتعلِّقة بخلافة المشيخة المحلِّية أو الإمامة، ولاستغلالهم أيضًا من قِبَل السياسيين للمشاركة في ألاعيبَ سياسيةٍ تفسد حيادهم، وتعرِّض إسهاماتهم في تحقيق المرونة المجتمعية المنشودة للخطر.

أزمة الصيَّادين
يُسهم الصيَّادون التقليديون إسهامًا مهمًّا وظاهرًا في نظام الأمن في البلاد، ويؤدُّون عملًا مزدوِجًا في المراقبة والأمن، ويستمدُّون معظمَ وسائل عيشهم من موارد البراري والغابات المحيطة التي يعرفونها حقَّ المعرفة. وقد تحوَّل بعضُ الشباب المتعلِّم منهم إلى مرشدي غابات، وبعضُهم الآخر إلى مساعدين أمنيِّين على الطرق التي أصبحت مسرحًا لعمليات سطوٍ متكرِّرة، ويشاركون في مكافحة الصيد الجائر والسرقة. ولكن يعاني معظمُهم اليوم إحباطًا مضاعفًا بسبب حظر الصيد في الحدائق والغابات، ثم بسبب عملية إصلاح الشرطة الجمهورية التي استعاضَت عنهم بضبَّاط شرطة على الطرق السريعة، مما حرمهم من موردٍ مالي مهم، فالعمل في هذه الأماكن يَدِرُّ عليهم من سخاء مستخدمي الطُّرق بعضَ الهبات النقدية تقديرًا لجهودهم. وهم يعيشون اليومَ في فقرٍ وجَهد، ومن المرجَّح أن يجعلهم ذلك متقبِّلين أيَّ إغراء جذَّاب، فيصبحوا بسهولة صيَّادين غيرَ قانونيين، أو مرشدين للإرهابيين في البراري والغابات.

أهميَّة الإذاعة
الإذاعة في بِنين من أهمِّ وسائل التعبير، وتمكِّن الناسَ من إبداء آرائهم، وتبادل الأفكار في الحوارات المفتوحة، والمناقشات العامَّة، وتُبَثُّ فيها رسائلُ التعليم والتوعية للجماهير، وتُنشَر الخُطَب، وتُذاع برامج الحوار بين الأديان. وهي تؤدِّي مهمَّةً صعبة تتمثَّل في تنظيم مسارات التوجُّهات الدينية المختلفة، بما يضمن عدمَ التصادم أو إثارة النزاعات أو إحداث أثرٍ سلبي في البنية المجتمعية بسبب اختلاف المذاهب أو العقائد أو الأديان. وأحيانًا تُستغلُّ هذه الوسائطُ لأهداف طائفية، وتُحوَّل إلى مِنصَّات للخطابات المناهضة للدولة، ومن ثَمَّ تتحوَّل من أداة للصمود إلى أداة لنشر العنف وممارسته.

وعمومًا يتَّسم المجتمع المدني في بِنين بالتعدُّد والتلوُّن الشديد والانتهازية. ولضمان مرونة الفئات الاجتماعية المختلفة وصمودها، يحتاج هذا المجتمعُ إلى مزيدٍ من المهنية والتخصُّص والاهتمام بالقضايا الأمنية الحالية. ويبدو أن بعض الفاعلين المؤثِّرين المدنيين الذين لديهم القدُرات اللازمة للإسهام في تحقيق الصمود يعانون التصنيف السلبيَّ من قِبَل الجهات الرسمية، فتتناقص شرعيَّتُهم في مواجهة الدولة. ولكن لا يزال المجتمعُ المدني في بِنين قادرًا على التكيُّف مع بيئته، فإذا ما عزَّزناه، فإنه سيكون قادرًا على تحدِّيات الصمود في مواجهة الإرهاب والتطرف العنيف بقوَّة وحزم.