عمليات غسل الأموال من أخطر الجرائم المالية ذات الآثار السلبية في الاقتصاد والمجتمع، فهي القاسم المشترك لجميع صنوف الجرائم والأنشطة غير المشروعة، ومنها تمويل الإرهاب. ويقتضي بيانُ العَلاقة بين ظاهرة غسل الأموال والإرهاب الحديثَ عن التطور التاريخي للظاهرة، وتوضيح المفاهيم المتعلقة بها، والمراحل المختلفة لها، والوسائل المستخدمة فيها، إضافة إلى كشف آثارها، وتفصيل سُبل مكافحتها.

 

تذكر الدراسات التاريخية أن عبارة (غسل الأموال Money Laundering) ابتدأ استعمالها استعمــالًا اصطـلاحيًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، في الحِقبة ما بين 1920 و1930؛ إذ استخدم رجال الأمن الأمريكيون (غسل الأموال) للدلالة على ظاهرة إجرامية؛ وهي ما كانت تقوم به عصابات المافيا من إنشاء محالَّ لغسل الملابس من أجل استثمار الأموال التي حصلت عليها بطرق غير مشروعة كتجارة المخدِّرات، وإخفاء أصل هذه الأموال. وكانوا يضمُّون الدخل الناشئ عن التجارة غير المشروعة إلى الإيرادات اليومية للمغاسل، حيث يخضع هذا الدخل مع الإيرادات للضرائب، لذا قيل: إن أرباح التجارة غير المشروعة قد غُسِلت، فكما تُغسَل الملابس غير النظيفة لتصبح صالحةً للاستخدام، فإن الأموال ذاتَ الأصل الإجرامي تُغسل لتصبح نظيفةً صالحة للتداول.

 

ولكن من الصعب الجزم بأن غسل الأموال بهذه الصورة الإجرامية بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ذُكر أن أول من قام بغسل الأموال هم رجال العصابات في الصين القديمة، حيث كانت التجارة والأرباح الناتجة عنها تُستخدم وسيلةً لإخفاء أموال الجريمة في قصور الحكام، ولإبعاد أعين الشرطة والسلطات عن الوصول إلى حقيقة الثروات لدى بعض العائلات التي كانت تتخذ من التجارة ستارًا لإخفاء أموال الجريمة، خاصة جرائم السطو والاستيلاء على أموال الفلاحين.

 

 تعاريفُ كاشفة


إن مصطلح (غسل الأموال) الذي بات مستخدمًا لدى كثير من الأجهزة التشريعية والتنفيذية اليوم، قد يبدو لكثيرين من العبارات المبهمة غير الواضحة.
وقد عرَّف صندوق النقد العربي غسل الأموال بأنه: مجموعة الإجراءات الهادفة إلى إخفاء المصدر الحقيقيِّ للأموال والممتلكات المتأتية عن أعمال إجرامية، ومنح صفة الشرعية لهذه الأموال، ثم إعادة ضخها في الاقتصاد.
وأوضحت مؤسسة النقد العربي السعودي أن غسل الأموال: عملية يستخدمها المجرمون لإخفاء المصدر غير المشروع لأموال ناتجة عن نشاطات إجرامية، كتجارة المخدرات، والابتزاز والغش، والتزوير والتزييف، وبيع الأسلحة غير المشروعة، والسرقة والرِّشوة، والسطو والتهريب، والبِغاء والدعارة، والاحتيال الإلكتروني، والتهرب الضريبي، وغير ذلك. ويسعى غاسلو الأموال إلى إخفاء مصدر هذه الأموال غير المشروعة، لإضفاء الشرعية عليها واستخدامها بحرية.

 

 خطوات ومراحل


تمرُّ عملية غسل الأموال بثلاث مراحل:


المرحلة الأولى مرحلة التوظيف أو الإحلال، وتتمثل في محاولة إدخال الأموال المتأتية من الجرائم والأنشطة غير المشروعة في النظام المالي والمصرفي.
المرحلة الثانية مرحلة التغطية، وتقوم على سلسلة من العمليات المالية والمصرفية تهدف إلى طمس معالم مصادر الأموال غير المشروعة، ثم فصلها عن مصادرها.
المرحلة الثالثة مرحلة الدمج، وفيها يُعاد ضخ هذه الأموال إلى الاقتصاد لتكون مشروعة.
 ويحقق غسل الأموال للمجرمين عددًا من المكاسب، فهو وسيلة ناجعة لإبعاد أنفسهم عن شبهات الأنشطة الإجرامية المولدة للأموال، واجتناب ملاحقتهم ومقاضاتهم، وضمان احتفاظهم بهذه الأموال وعدم مصادرتها، وإعادة توظيفها في أنشطة وأعمال غير مشروعة كتمويل الإرهاب.

 

 وسائل وأدوات


تتميز وسائل عمليات غسل الأموال بالتغيير والتجديد المستمرَّين، وقد أسهم في ذلك التطورُ الكبير في التقنيات المعاصرة، وظهور ابتكارات وأدوات مالية ومصرفية جديدة، فضلًا عن إجراءات الانفتاح والتحرر المالي، وعُمق الاندماج بين الأنظمة المالية والمصرفية عبر الحدود. وفي ضوء الطبيعة الدَّولية لعمليات غسل الأموال وعدم تقيُّدها بحدود جغرافية فإنه غالبًا ما يتورط في عملية واحدة عددٌ كبير من المؤسسات المالية والمصرفية من دول مختلفة.

 

 ومن أبرز الوسائل المستخدمة في غسل الأموال:


- إنشاء شركات ومؤسسات ذات طابع تجاري أو خِدْمي؛ بهدف فتح حسابات لدى المصارف وإيداع الأموال النقدية غير المشروعة فيها، وكأنها ناتجة عن نشاط مشروع.
- تجزئة عمليات الإيداع، بتقسيم المبالغ الكبيرة إلى عدد من المبالغ الصغيرة، وإيداعها بطرق مختلفة، وتوزيعها على عدة مدن وفي أزمنة متباعدة، فيصعُب ملاحظة الحجم الكبير للمبالغ النقدية المودعة.
- اقتناء السلع الثمينة كالتحف والجواهر واللوحات النادرة والعقارات والسيارات الفاخرة، ودفع قيمتها نقدًا، ثم بيعها مقابل صكوك مصرفية (شيكات) تودَع في المصارف دون أن تثير أي شبهة، وهذا النشاط التجاري لا يهدف إلى تحقيق الربح؛ لأن أصحابه مستعدون للبيع بأقلَّ من سعر الشراء وتحمُّل الخسائر لإخفاء مصادر أموالهم.
- الاستثمار في العُملات الأجنبية والسلع المتداولة في البورصة، ويكون الشراء نقدًا والبيع واستيفاء القيمة بصكوك مصرفية يمكن إيداعها بسهولة في المصارف.
- التواطؤ مع البنوك والحكومات التي تغضُّ الطَّرف عن عمليات غسل الأموال، وتوفر السرية المطلوبة لأصحاب هذه الحسابات لتحقيق مصالح مشتركة.


وتستخدم عمليات تمويل الإرهاب الوسائلَ السابقة نفسها، مع اختلاف مهم هو أن مصادر الأموال في تمويل الإرهاب ليست بالضرورة غير مشروعة، في حين مصادر الأموال في جرائم الأموال هي حتمًا غير مشروعة.


 آثار ونتائج


لظاهرة غسل الأموال آثارٌ سلبية في الاقتصاد الكلِّي، فإن انتشارها في اقتصاد ما يُضعف قدرة السلطات على تنفيذ السياسات الاقتصادية الكلية بكفاية، وذلك لضعف مصداقية البيانات والإحصاءات الاقتصادية المتاحة، في ظل عدم القدرة على القياس والتنبُّؤ بحجم هذه العمليات. إضافة لذلك فإن التقلبات الشديدة في حركة الأموال والودائع والتدفقات المصاحبة لعمليات غسل الأموال تؤثر في استقرار السوق النقدية وسوق الصرف الأجنبي، ولا ينبغي إهمال أثر غسل الأموال والأنشطة الإجرامية المرتبطة به في حصول اضطراب في توزيع الموارد والثروة في الاقتصاد. ومن الآثار السلبية لظاهرة غسل الأموال ازدهارُ الأنشطة الممنوعة كتجارة المخدِّرات والفساد الإداري والمالي وغيرها، وهي تسهم في تدمير البيئة الاجتماعية والأخلاقية للأمم.

 

 مكافحة ومقاومة


لا ينبغي النظر إلى جهود مكافحة غسل الأموال ومقاومتها على أنها تخصُّ أجهزة مكافحة الجريمة فقط، بل يجب النظر إليها على أنها ذات أهمية عامَّة لتحقيق الاستقرار المالي. وقد برزت أهمية ذلك في السنوات الماضية في ظل النمو السنوي الكبير في عمليات غسل الأموال التي تُنفَّذ عبر النظام المالي والمصرفي في العالم، وقدَّرها صندوق النقد الدَّولي بما بين 600 مليار و1.5 ترليون دولار أمريكي، وهي تشكِّل ما بين 20 ٪ و50 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهناك مصادرُ تقدر حجم عمليات غسل الأموال في العالم بقرابة 2.8 ترليون دولار.


وحظيت قضايا مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والأنشطة غير المشروعة باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة من قِبَل مختلِف الجهات السياسية والاقتصادية والمصرفية الدَّولية، فقد أنشأت مجموعة الدول الصناعية السبع في عام 1989 مجموعةَ العمل المالي لمكافحة وغسل الأموال (فاتف) FATF التي تهدف إلى توعية الدول بمخاطر غسل الأموال، وإصدار التوصيات بهذا الشأن، ومراجعة اتجاهات غسل الأموال باستمرار؛ لاتخاذ التدابير الكفيلة بمكافحتها، ورصد التقدم في تطبيق هذه التدابير والإجراءات.


وقد قدمت المجموعة أربعين توجيهًا باتت تمثل المحورَ الرئيس لخطط مكافحة غسل الأموال وإجراءاتها، وأضافت إليها ثماني توصيات جديدةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وبروز خطر تمويل الإرهاب. وقامت لجنة (بازل) للرقابة المصرفية بإصدار أوراق ومبادئ استرشادية متوافقة مع التوصيات الأربعين، تضمنت إجراءاتٍ دقيقةً لمعرفة العملاء؛ لتعزيز مصداقية النظام المصرفي، ومنع اتخاذه قناة ًلأغراض غير مشروعة.


ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا النشاط الدَّولي في محاربة عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب لم يقتصر على المؤسسات والمنظمات والتجمعات المعنية بالأنشطة الاقتصادية والمالية والمصرفية، ولكنه شَمِلَ أيضًا غيرها، فإضافة إلى الأمم المتحدة وبرامجها المختلفة هناك منظماتُ مكافحة الجريمة مثل (الإنتربول).


وقد حرَصَت الدول الإسلامية على التعاون مع الجهود الدَّولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة، ومنها الإرهاب، والعمل على تطبيق المعايير والتوصيات الدَّولية، فاستحدثت تشريعاتٍ خاصةً بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأنشأت لجانًا وطنية وأجهزة ووحداتٍ مَعنيةً بمتابعة سياسات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتنفيذ إجراءاتها، وقد صدرت توجيهاتٌ وإرشادات شاملة للمؤسسات المالية والمصرفية عن متطلَّبات هذه العمليات والحدِّ من مخاطرها، إضافة إلى عقد الكثير من الندوات وحلقات التدريب لتعزيز الوعي بقضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب.