يمثل عنصر التمويل، بجانب عنصر الموارد البشرية المنظمة، محوري الارتكاز الرئيسين في استمرارية التنظيمات الإرهابية وبقائها ونشاطها. وما نقصده بالتمويل، لا يقتصر فقط على الدعم المالي، بل يمتد ليشمل كل من يقوم بعمليات تسليح هذه التنظيمات وتزويدها بالمقاتلين، فضلًا عن اعتبار تدخل بعض الأطراف الإقليمية والدولية في شؤون دول المنطقة؛ بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية بتوظيف وكلاء محليين للقيام بهذا الدور - يعد في تقديرنا – عملًا إرهابيًا لا يقل خطورة عن عمليات التمويل للجماعات الإرهابية. وسنركز- لضيق المجال- على حالتي "داعش " و"الحوثيين".

في مصادر التمويل: تحرص قيادات التنظيمات الإرهابية عادة على إخفاء مصادر تمويلها، لتتجنب الإفصاح عن حلفائها؛ حتى لا يتعرضوا للمحاكمة، فضلًا عن حالة العولمة المالية الراهنة التي تتيح حرية تدفقات الأموال بوسائل لم تكن متاحة من قبل، الأمر الذي يجعل متابعة مصادر التمويل وتقويمها مهمة صعبة.

أولاً: ظروف نشأة داعش:

أدت ظروف محلية وإقليمية ودولية إلى بروز هذا التنظيم. فقد أدى الاحتلال الأمريكي للعراق (2003) وتطبيق مبدأ المحاصصة الطائفية، وتسريح الجيش والشرطة العراقيين، ثم اتباع نوري المالكي لسياسات طائفية واستبعادية وتهميشه للسنة والأكراد؛ أدت كل هذه العوامل وغيرها إلى أزمة داخلية محتدّة، إضافة لعمليات الاغتيال والتفجيرات التي تعرض لها السنة العراقيون ومناطقهم. وفي ظل هذه الأجواء المواتية للجماعات الإرهابية، نجح تنظيم "داعش" في إقامة تحالف مع مسلحي العشائر بمختلف توجهاتها، وبصفة خاصة العشائر السنية التي تعرضت للظلم الطائفي، وهو ما يطلق عليه البعض "التحالفات فوق الأيديولوجية" التي تقفز فوق الأيديولوجيات، والثوابت الفكرية من أجل تحقيق أهداف ومصالح مشتركة، فبعد حل الجيش والشرطة، وحظر أعضاء حزب البعث من المناصب العليا، انضم بعضهم لتنظيم "داعش" وأصبحوا أحد مكوناته الأساسية، بعد أن ظلوا يعانون من حالة التهميش والاستبعاد والبطالة، وشمل ذلك مسؤولين وقادةً عسكريين عراقيين، يعرفون جيدًا أساليب إدارة الدولة، وذوي خبرات ميدانية، فضلاً عن قيادة العمليات العسكرية، وساعد هذا الواقع، وتلك التحالفات المرحلية، على تمكّن "داعش" من إخضاع مدن وبلدات كاملة لسلطانها في زمن قياسي.

وقد أتاح هذا التوسع الجغرافي الكبير توافر الموارد المالية المتجددة التي ساعدته على مواصلة القتال، وتمويل نشاطه على نطاق واسع. فالتمويلات الضخمة مكنته من الإنفاق على مقاتليه وتمويل أفلامه الدعائية بسخاء، كل ذلك جاء أساسًا من بيع النفط السوري والعراقي، إضافة إلى بيع الآثار المنهوبة أو فرض الضرائب، ولكن الأهم من كل هذه المصادر، أنه جاء من استيلاء التنظيم على أموال مصرف الموصل المركزي (يونيو 2014) ومصارف أخرى قدرت بـ 500 مليار دينار عراقي (أو ما يعادل 420 مليون دولار) دفعة واحدة، وتمكن تنظيم داعش من إدارة اقتصاد حقيقي، واستعان بمسؤولين عراقيين سابقين لديهم خبرات متعددة في إدارة الشؤون العراقية.

بداية النهاية لتنظيم داعش:

"أدى فقدان تنظيم "داعش" للمساحات الجغرافية الشاسعة التي كان مسيطرًا عليها إلى تراجع موارده الاقتصادية والمالية بشكل حاد"أدى فقدان تنظيم "داعش" للمساحات الجغرافية الشاسعة التي كان مسيطرًا عليها إلى تراجع موارده الاقتصادية والمالية بشكل حاد، التي كانت قادرة على تأمين نفقات ومرتبات أفراده. ويوضح الشكل التالي حجم هذا التراجع حتى الربع الثاني من العام 2017. وبطبيعة الحال فإن الربع الرابع شهد انحسارًا أكبر في موارد هذا التنظيم خلال شهر نوفمبر 2017 بعد فقدانه كل زخمه الإستراتيجي وأرضه، بالإضافة إلى فقدان بنيته الأساسية الاقتصادية وكثيرًا من أسلحته وتشتت أفراده، ولم يبق حتى تاريخه سوى خلايا صغيرة ومتناثرة جارٍ احتواؤها.
636838339974333828.jpg
المصدر : صحفية الحياة بتاريخ 10/11/2017

ثانياً: حركة الحوثيين:

إن قيامهم بحركتهم الانقلابية على السلطة الشرعية هدفها "غير المعلن"، إقامة دولة حوثية شيعية جنوب المملكة العربية السعودية، لتكون عامل قلق مستمر لها، فاليمن هي البوابة الجنوبية لمنطقة الجزيرة العربية، وهي جزء من الخارطة الجيوإستراتيجية للخليج والجزيرة العربية، وبمثابة "الخاصرة الرخوة" لدول مجلس التعاون التي لا يمكن لها تجاهل خطورتها، وما يجرى فيها من تطورات أو تدخلات خارجية.

إن نسبة المذهب الزيدي ومن بينهم فرقة الجارودية (الحوثيون) تقارب 30% من سكان اليمن، الذي لم يشهد في تاريخه أي صورة من صور الصراع المذهبي. فالزيديون يعتبرون أنفسهم سنة الشيعة، والعكس بالنسبة للسنة، إلا أن الحوثيين انخرطوا في تحالف مع إيران، في سياق السياسة الإيرانية الرامية للتمدد في المنطقة، والتي يصورها المسؤولون الإيرانيون على أنها مسألة أمنية مصيرية لهم، وهو ما يعد من باب التضخيم الذي اعتادوا عليه، إنما هي بقصد التعبئة الشعبية بإشغال الداخل بمشاكل خارجية، كما أنها تتم في إطار سياسة تصدير الثورة والأحلام الإمبراطورية التوسعية. والدعم الإيراني للحوثيين، هو دعم لوجستي متكامل، سواء بالتدريب أو الأسلحة برًا وبحرًا عبر خليج عدن.

"استولى الحوثيون على أموال البنك اليمني المركزي، وفرضوا الرسوم الجمركية والإتاوات وتلاعبوا بأسعار الغاز المسال"وتعود أهمية اليمن بصفة عامة وحركة الحوثيين بصفة خاصة بالنسبة لإيران، إلى أنها تقع ضمن السياسة الإيرانية؛ للسيطرة على مضيق باب المندب وخليج عدن؛ للتحكم في حركة الملاحة البحرية إقليميًا وعالميًا. وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2009 أعلنت إريتريا تأييدها للبرنامج النووي الإيراني، وقام بنك تنمية الصادرات الإيراني بتحويل 35 مليون دولار أمريكي كمساعدة لاقتصاد إريتريا، ثم توالت الدفعات المالية بعد ذلك. وكانت إيران تخطط منذ وقت مبكر لتعزيز وجودها في إرتيريا لإيجاد منطقة لتدريب المقاتلين الحوثيين وتأهيلهم عسكريًا بمعسكر "دنقللو الإريتري" فضلًا عن تهريب السلاح داخل اليمن، إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الإريتري مقابل تزويد إريتريا بالنفط الإيراني بسعر مخفض، ويمكن القول إن جزءًا من تمويل إيران للحوثيين اتخذ شكل شحنات أسلحة تقدمها لهم في إطار سياستها لإزعاج دول الجوار العربية وزعزعة استقرارها. وعند دخول الحوثيين لصنعاء استولوا على أموال البنك اليمني المركزي، وساعدتهم هذه الأموال في مرحلة ما بعد الانقلاب.

وفضلًا عن ذلك، أشارت بعض المصادر إلى أن الأمر وصل إلى حد تلاعب الحوثيين بأسعار الغاز المسال برفعه بمقدار أربعة أضعاف في مناطق سيطرتها مقارنة ببقية أنحاء البلاد، كما فرضت أتاوات على المحطات التي تبيع المشتقات النفطية، إضافة للرسوم الجمركية، وأسهم ذلك في تمويل حركة الحوثيين (تقديرات مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة 25/10/2017). وخشيةً من استمرار عبث إيران في الحديقة الخلفية لدول مجلس التعاون الخليجي (أي اليمن) قام تحالف "عاصفة الحزم" يوم 26/3/2015؛ استجابة لطلب الشرعية اليمنية للرد على التجاوزات الإيرانية في المنطقة العربية، ولحماية الأمن الخليجي من تمدد النفوذ الإيراني.

نلخص ما تقدم بملحوظتين:

الأولى: أن التنظيمات الإرهابية أصبحت ظاهرة عابرة للحدود الوطنية، ومكافحتها في ظل العولمة المالية؛ تتطلب ضرورة مواجهة كافة أبعاد هذه الظاهرة. فالإرهابي ليس فقط من يحمل السلاح، ولكن أيضاً من يزوده به، ومن يموله ويدربه ويوفر له الملاذات الآمنة، ويتيح له وسائل الدعاية لنشر أفكاره.

الثانية: أن عمليات التمويل تمثل عنصرًا حيويًا بالغ الأهمية للتنظيمات الإرهابية، ومن هنا تأتي أهمية تجميد روافده وتجفيفها، وهو ما يتطلب إحكام الرقابة والتنسيق بين مختلف الأجهزة المعنية بإنفاذ القوانين الدولية، وبصفة خاصة تلك المتعلقة بمكافحة الإرهاب، والتي تنص على تجميد كل الأرصدة المالية للجماعات المشتبه في تورطها في أعمال إرهابية فضلًا عن مساءلة المتورطين في تمويلها.