تشهد القارَّة الأوروبية والولايات المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلاندا نموًّا مطَّردًا لحالات العَداء للمسلمين ومعتقداتهم، على نحو أثار انتباه المحلِّلين وعدد من المسؤولين السياسيين. فقد ارتفع عددُ الاعتداءات في تلك الدول على المواطنين المسلمين الذين أظهروا شعائرَ الإسلام، من ذلك إطلاقُ النار على المصلِّين في المساجد، أو الانقضاض ضربًا على من يُشتبَه في انتمائه إلى الجالية المسلمة. وتقع هذه الاعتداءاتُ غالبًا في الشوارع أو في وسائل النقل، وبتوجيه الشتائم والألفاظ النابية في الأماكن العامَّة، وفي مِنصَّات التواصل الاجتماعي.
 
مؤشِّرات الزيادة
على صعيد الاعتداءات اللفظية والتهديدات عبر شبكات التواصل، فإن المؤشِّرات الرسمية تُؤكِّد زيادتها منذ عام 2017م حتى الآن. وتُصدِر تلك الإحصاءاتِ جمعياتٌ تُعنى بمتابعة ظاهرة رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، والتطاول على الجاليات الإسلامية في أوروبا، منها: "مرصَد المواطنة ضد الإسلاموفوبيا"، الذي يصدر تقاريرَ سنويةً لقياس حدَّة هذه الظاهرة في إسبانيا. وذهبت المنظمة، ولها نظيراتٌ تتَّبع المعاييرَ التحليلية والإحصائية ذاتها في سائر الدول الأوروبية، إلى أن أغلب الحوادث التي يمكن وصفُها بأنها حالاتٌ معادية للمسلمين في إسبانيا تحدث في العالم الافتراضي، بمعدَّل 07% من جميع الأحوال. وقد سجَّلت منظمة بريطانية نموًّا مماثلًا في السنوات الماضية مع ارتفاع مطَّرد بنسبة 62% سنويًّا، كما فيما بين 2016م و2017م. 
 
ولم تختلف هذه الأرقام اختلافًا كبيرًا عن نظيراتها في فرنسا، إذ سجَّلت الجمعية الوطنية ضدَّ الإسلاموفوبيا نموًّا مطَّردًا، ويُعزى هذا التصاعد إلى رسوخ ظاهرة رُهاب الإسلام في أوساط اجتماعية محدَّدة، ونتيجةً لهجَمات إرهابية تتبنَّاها منظماتٌ جهادية في عدد من المدن الأوروبية الرئيسة، مثلما حدث في السنوات الأخيرة في كلٍّ من باريس ولندن ومانشستر، ولها ذيوعٌ إعلامي سريع جدًّا. وفي بريطانيا نبَّه المجلس الإسلامي على أن ممثلي الأحزاب السياسية غير المنسوبة إلى اليمين المتطرِّف يُسهمون في شحن الأجواء تجاه المسلمين، وقد سجَّل المجلس 300 حالة تطاول على الدِّين الإسلامي والمسلمين، صدرَت عن قادة الحزب المحافظ الحاكم في البلاد، وهذا يدلُّ على مدى تفشِّي وباء الإسلاموفوبيا في صفوف النخبة السياسية البريطانية. 
 
ويُذكر أن هذه الظاهرةَ ليست مرتبطةً بمجموعة من الساسة البريطانيين فحسب، وإنما أصبحت حالةً عند زعماء أوروبيين ينأَون بأنفسهم عن اليمين المتطرِّف. وهي بالطبع إستراتيجيةٌ تجيدها جميع القوى اليمينية المتطرفة الأوروبية، التي حققت تقدمًا ملحوظًا في الاستحقاقات الانتخابية، وأفضَت التصريحات المسيئة للمسلمين إلى تسويغ مساعي أحزاب اليمين المعتدل لتشديد خطابها المعادي للمهاجرين عامَّة وللمسلمين خاصَّة.
 
اجتياح خَطِر
من التطوُّرات الخطِرة للتجنِّي على الإسلام والمسلمين أنه لم يعُد محصورًا في بعض الساسة أو المواطنين العاديين، ولكنه امتدَّ إلى المدارس والجامعات، فرُصدت تعليقاتٌ وعبارات لعدد من الأساتذة في المراكز التعليمية كارهة للإسلام، فضلًا عن معاملتهم الخشنة للطلاب المسلمين. وفي المملكة المتحدة، فُصل أحد المعلِّمين بمدرسة ابتدائية بعد أن وصف الإسلام بأنه "سرطان العالم" و"الدِّين الخبيث" على شبكات التواصل، وشجَّع المعلِّم تلامذته على مشاركته آراءه المتشدِّدة! وما هذه الأمثلة سوى غيضٍ من فيض مما شهدته الساحة الأوروبية من مشاعر العَداء المستمر تجاه الجاليات الإسلامية. 
 
ولا شك أن تسلسل الهجَمات الإرهابية المنفَّذة في عدد من العواصم الغربية على مدار السنوات الخمس الأخيرة، أسهم في نشر بذور الكراهية لدى فئات محدَّدة من الأوروبيين، إلا أن هناك عواملَ كثيرة لا عَلاقة لها بأفعال المتطرِّفين التي تُسيء إلى الإسلام والمسلمين، في مقدِّمتها عجزُ السلطات الأوروبية عن توحيد خطاب منطقي لردِّ الاعتبار إلى الجاليات الإسلامية، وعزلها عن فضاء الجهاديين المتعنِّتين. والحقيقة المثيرة أن السياسات الحكومية أدَّت دون قصد غالبًا، إلى تأسيس مفهوم "الإسلاموفوبيا" وانتشاره، بعد إصرارها على استعمال مفردات مثل "إسلامية" و"مسلمين متطرِّفين" و"تشدُّد إسلامي"، وربطها بمكافحة الإرهاب. 
 
وتضمَّنت هذه الخطاباتُ مقولاتٍ وشعارات نبعت في أول الأمر من جهات مقرَّبة إلى الجماعات اليمينية المتعنِّتة، مثل "إسلاموفاشيستي" وهو اصطلاحٌ يطلقه بعضهم على الجماعات الجهادية الدكتاتورية، والغريب في الأمر أن مثل هذه المصطلحات الغربية باتت تضفي سلبياتٍ جديدةً على كلِّ ما يأتي من الشرق، علمًا أن كلمة "فاشستي" تحوَّلت إلى لفظة ذات مدلولات شتَّى تتجاوز المستوى الفكري. 
 
وهذه الحركاتُ التي استقطبت أتباعًا من اليسار بفضل خطابها الداعي إلى الدفاع عن الحرية، تتغذَّى على الأعمال الشنيعة للجماعات المتطرِّفة التي تصف نفسها بـ "الإسلامية"، ولا سيَّما التفجيرات في المدن الغربية، وقتل الرهائن الغربيين في سوريا والعراق وأفغانستان، ما يقود إلى عَلاقةٍ متلازمة بين دعاة رُهاب الإسلام والتطرُّف الجهادي؛ إذ كلٌّ منهما ينشِّط الآخر. وتُعَد الإشارة إلى مفهوم مناصرة الحرية، وهي إحدى قواعد الجهات المعادية للإسلام، إشارةً جوهرية لهؤلاء؛ لأنهم يسوِّغون لأنفسهم مكانتهم الاجتماعية، ويُلبِسون غلوَّهم حُلَّةَ الانتصار للحقِّ والدفاع عن الحريات العامَّة والفردية. 
 
وأثبتت دراساتٌ ميدانية أُجريت في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أن هالة الشرعية الديموقراطية المنسوبة إلى هذه الجمعيات المطالبة بحقِّها في انتقاد الإسلام بصفته "منظومة عقائدية لا تحترم التعدُّدية وقيم الحضارة" تجيز في نظر كثيرين الإسهامَ في تمويلها ودعم أنشطتها. وهنا يكمن الإخفاقُ الكبير للحكومات والمؤسسات الرسمية والمجتمع المدني عمومًا؛ إذ إنها لم تنجح في وضع حدٍّ لخطاب تجريم الإسلام؛ لأنها تقاعسَت عن صياغة خطاب يحرِص على التمييز بين الدِّين الإسلامي والمسلمين من جهة، والتطرُّف الديني والجهاديين من جهة أخرى. ولمـَّا بات الدِّين الإسلامي مرتبطًا وفقَ خطابهم بمفهوم "النزاع" و"الإشكال"، صار من الهيِّن عليهم إلصاقُ أي سلبية بالمواطنين المسلمين.
 
صورة المرأة المسلمة  
هنالك اهتمام صريحٌ في الخطاب المعادي للإسلام بصورة المرأة المسلمة، حتى إن الجهات المعنية بمراقبة مظاهر الكراهية تجاه المسلمين تُلمح إلى تشخيص هذه النظرة العَدائية تجاه شخصية المرأة المسلمة، ولا سيَّما المحجَّبات اللواتي يَسهُل تمييزهن من سائر النساء. وتُؤكِّد الجمعيات المناهضة للإسلاموفوبيا في كثيرٍ من الدول الغربية أن معدَّل ثلاثة اعتداءات جسدية أو لفظية من كلِّ أربعة اعتداءات تسجَّل على الجاليات المسلمة تكون موجهةً إلى النساء، وهذا نراه أيضًا في دول أخرى مثل أستراليا. 
 
وتعمل المنظمات اليمينية المتطرفة على تشويه صورة المرأة المحجَّبة بوصفها امرأةً ناكرة لأنوثتها، بعد أن انصاعت لسطوة الحجاب، واستسلمت للسلطة الذكورية. وسُجِّلت في إسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية حالاتٌ من تهجُّم أشخاص معظمهم من الشباب على فتيات مسلمات في وسائل النقل العامَّة، وكثيرًا ما يصوِّر هؤلاء المهاجمون فعلتهم وينشرونها في الإنترنت. وتوظِّف المنظمات اليمينية تعرُّضَ المحجَّبات للمعاملة الخشنة من أجهزة الأمن في بعض الأماكن العامَّة في الرهان على الخطر الإسلامي؛ ففي فرنسا مثلًا تجبر الشرطة عددًا من المسلمات على خلع الحجاب في المطارات لدواعٍ أمنية. وتحظى هذه الحوادث بمتابعة كبيرة في شبكات التواصل، حيث يتسنَّى لأنصار الحركات العنصرية إطلاقُ التعليقات المثيرة للهواجس في صدور الناس. 
 
وتَعُدُّ الدعايةُ اليمينية المتشدِّدة مسألةَ الحجاب أمَّ المسائل، ولا سيَّما في فرنسا التي تشهد باستمرار جدالًا بشأنه. والعجيب أن النزعة إلى قبول هذه التحرُّشات بحقِّ المحجَّبات واضحة لدى المنظمات اليمينية، التي تسوِّغها بذريعة خوف المواطنين من توسُّع رُقعة "الأسلمة" في مجتمعاتها، ومن خطر تحوُّل أوروبا إلى قارَّة إسلامية. 
 
ويهمُّنا هنا الوقوف عند مفهوم الحقوق الديموقراطية وحرية التعبير في خطاب اليمين المتطرِّف الذي يحلو له أن يحرِّمَ أي تصريح يسيء إلى القِيَم العليا؛ كوَحدة الوطن، واحترام الشعائر القومية، والقِيَم المسيحية، ولكنه يتراخى إذا كان المجني عليه شعيرةً أو شخصية تمتُّ إلى الإسلام بصِلة. من ذلك مثلًا: حملة المساندة التي أقامتها الجبهة الوطنية دفاعًا عن فتاة فرنسية صوَّرت مقطع فيديو تتطاول فيه على الإسلام، واللافت أن الجبهة دعمَت حقَّ الفتاة في سبِّ الدِّين الإسلامي، ولكنها لا تظهر المرونةَ نفسها إذا كان السبُّ للدِّين المسيحي! 
 
توسُّع اليمين المتطرف
تنطلق الأحزاب اليمينية المتطرِّفة من عقيدة عنصرية بامتياز، وإن اجتهدَت في تجميل فكرها بخطابٍ إنشائي يقوم أساسًا على مفهوم مخادع للمواطَنة. وتشدِّد على "العدو المسلم" بوصفه كائنًا تجتمع فيه سلبياتُ جميع المجتمعات غير الغربية. وتمكَّنت تلك الجهاتُ من إيجاد المناخ السياسي والاجتماعي المضطرب الملائم، لدرجة أن المجلس الأوروبي ضد التمييز وعدم التسامح أكَّد في تقريره السنوي عام 2019م أن القارَّة الأوروبية أمست تواجه واقعًا صادمًا، يتمثل في زيادة الهجَمات على المسلمين كمًّا ونوعًا، وأن التحريض على الاعتداء بالشتائم والإهانات تجاه الإسلام والمسلمين ينطلق من شبكات التواصل والإنترنت. ودعا التقريرُ إلى تضافر جهود جميع الدول الأوروبية لمكافحة اليمين المتطرِّف، والاتفاق على مصطلحات تنصف الدِّين الإسلامي، وتفرِّق بينه وبين الغلوِّ والتشدُّد الملازمَين للجماعات الإرهابية. غير أن الحلقة المفقودة في هذه الدعَوات هي أن اليمين المتطرف أمسى يتولَّى سلطاتٍ تنفيذيةً وتشريعية في كثير من الدول الغربية. وأدى الاستخفاف بخطر الإسلاموفوبيا إلى تصنيف التهجُّم على المسلمين بالحوادث الفردية التي لا تعبِّر عن تيَّار فكري له حضور في المجتمع. وتدَّعي الجماعات اليمينية المتطرِّفة التي أحرزت تقدُّمًا بارزًا في الانتخابات أنها لا تخالف القانون، ولكن اهتمامها المستمر بالمهاجرين والمسلمين والربط بينهم وبين الإجرام والهجرة السرِّية تضرُّ جدًّا باللُّحمة الاجتماعية.
 
توظيف جائحة كورونا
من البيِّن سعيُ اليمين المتطرِّف الأوروبي والأمريكي إلى الصيد في مياه وباء "فايروس كورونا" العكرة، في سياق كثُر فيه الحديث عن احتمالات الإرهاب البيولوجي. ومجددًا أعطت الجائحة العالمية الراهنة دليلًا قويًّا على تلاقي الإرهاب الجهادي واليمين المتطرِّف العنصري عند مسعًى انتهازيٍّ، يهدف إلى الانتفاع بأزمة كونية أدَّت إلى إصابة مئات الآلاف وانهيار المنظومة الاقتصادية العالمية. وفيما أعلن صراحةً عددٌ من الجمعيات الجهادية واليمينية على حدٍّ سواء أملَها في أن يتفشَّى المرض في ديار العدو، فإن هناك توجُّسًا ملموسًا من لجوء الجمعيات الأكثر إجرامًا المنضوية في المعسكرين إلى تطوير الأسلحة الفيروسية. وعلى صعيد النقاش الاجتماعي فإن الأحزاب اليمينية المتطرِّفة السائدة في أوروبا استغلَّت القضية لكي تلقيَ باللائمة على المهاجرين.
 
إذ إنه في بداية الأزمة ألحَّ رئيس الوزراء الإيطالي السابق وزعيم "الليغة" القومية ماتيو سالفيني، الشهير بانتقاداته اللاذعة للإسلام، على إقفال الحدود، وتشديد سياسات الهجرة، تحديدًا في وجه الأفارقة، على الرغم من تدنِّي نسبة الإصابات في إفريقيا. وشدَّدت منظماتٌ في النمسا وسويسرا على أن منع تجوُّل الأجانب، وإخضاعهم للمراقبة، هما خيرُ سبيل للحد من انتشار الوباء. في حين سارعت زعيمةُ الجبهة الوطنية ماري لوبان، إلى شنِّ حملة شرسة على الاتحاد الأوروبي؛ لإخفاقه في احتواء الوباء، واتخاذ سياسة واقعية لضبط الهجرة. وما يزيد الطينَ بِلَّةً أن يصرِّحَ الرئيس المجري فيكتور أوربان، الذي يعُدُّ نفسه بعيدًا عن اليمين المتطرِّف، بأن فيروس كورونا لا يمكن أن يجعلنا نغضُّ الطَّرفَ عن كون الهجرة، وليس الوباء، هي المعضلةَ الرئيسة في أوروبا اليوم! وكان زعيم حزب "فوكس" الإسباني سانتياغو أباسكال قد أشار إلى ضرورة تقييد الهجرة، ودعا إلى فرض رسوم خاصَّة على المهاجرين الأجانب الراغبين في الاستفادة من الضمان الأجنبي، حتى وإن كانوا مصابين بالفيروس.
 
إن اليمين المتطرِّف يستغلُّ أي فرصة لتعزيز خطابه الكاره للمسلمين، واستحداث بيئة ملائمة لاتخاذ تدابيرَ أكثر قسوة تجاه الأجانب في أوروبا، فيما تتكاثر الجماعاتُ المستعدَّة لترجمة مشاعر الكراهية إلى أعمال إرهابية.