تجفيفُ المنابع المالية للمنظمات الإرهابية من أهمِّ وسائل مكافحة الإرهاب، وتقوم به منظوماتُ مكافحة تمويل الإرهاب التي تنهضُ بالجهود الدَّولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في أرجاء العالم. فلا مجال للتصدِّي للإرهاب بجميع أنواعه وعلى اختلاف صنوفه إلا بقطع المدد المالي والاقتصادي الداعم له والمعزِّز لأعماله ونشاطاته، والدافع للإرهابيين إلى مزيد من التخطيط والإعداد لتنفيذ عمليات إرهابية مروِّعة.

غسل الأموال والإرهاب
نشرَ صندوقُ النقد الدَّولي في موقعه الإلكتروني الرسمي في 30 من سبتمبر 2016، مقالًا بعنوان: «الصُّندوق ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب»، جاء فيه أن غسلَ الأموال هو عمليةُ إخفاء المصدر غير المشروع للأصول التي تُحاز من نشاط إجرامي؛ وذلك لإخفاء الرابط بين الأموال والنشاط الإجرامي الأصلي. أما تمويلُ الإرهاب فيهدِفُ إلى جمع الأصول ومعالجتها؛ لإمداد الإرهابيين بالموارد اللازمة لممارسة أنشطتهم.

 وعلى الرغم من أن هاتين الظاهرتين تختلفان في جوانبَ كثيرة، نجد أن كليهما تستغلَّان غالبًا مواطنَ الضعف نفسها في النُّظُم المالية التي تسمح بإخفاء الهُويَّة وعدم الوضوح في تنفيذ المعاملات المالية، حفاظًا على الخصوصية.

وبسبب ازدياد خطر غسل الأموال، وقلق الجهات الرسمية دَوليًّا، أُنشئت مجموعة العمل المالي (FATF) في قمَّة مجموعة السبع التي عُقدت في باريس في عام 1989م، بحضور وزراء الدول الأعضاء فيها، وهي هيئةٌ دَولية مؤسَّسة تهدف إلى وضع معاييرَ دقيقة وواضحة، وتعزيز التنفيذ الجادِّ والمـُثمر للتدابير القانونية والتنظيمية والتشغيلية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتهديدات الأخرى ذات الصِّلة بسلامة النظام المالي الدَّولي، ومن ثَم فإن مجموعة العمل المالي هي هيئة لصُنع السياسات التي من شأنها توليدُ الإرادة السياسية اللازمة لإحداث الإصلاحات التشريعية والتنظيمية الوطنية الجادَّة في هذه المجالات. 

وقد وضعت مجموعةُ العمل المالي سلسلةً من التوصيات التي باتت معاييرَ دَوليةً معتمدة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي الأساسُ لاستجابة منسَّقة لمواجهة هذه التهديدات التي تستهدف سلامةَ النظام المالي. وقد صدرت توصياتُ المجموعة أول مرة في عام 1990م، ثم عُدِّلت التوصياتُ في الأعوام 1996م و2001م و2003م وآخرها في عام 2012م للتيقُّن من أنها محدثة، ومرتبطة بمتطلَّبات المكافحة، وصالحة للاستخدام عالميًّا ودَوليًّا. 

ومن المعروف حاليًّا أن مجموعة العمل المالي (FATF) كِيانٌ حكومي دَولي يضمُّ 39 عضوًا، يعمل بالتعاون الوثيق مع عدد من المنظمات الدَّولية الأساسية الأخرى، ومنها صندوقُ النقد الدَّولي والبنك الدَّولي، والأمم المتحدة، المجموعات الإقليمية المنشأة على غرار مجموعة العمل المالي (FSRBs).

التصدِّي والمكافحة
لقد طوِّرت معاييرُ مكافحة غسل الأموال تطويرًا ملحوظًا، وأُدخل عليها مجموعةٌ من التحسينات بين عامي 1990م و2012م، اكتملت بها معاييرُ النزاهة في حماية النظام المالي العالمي، وزُوِّدت الحكوماتُ بأدوات عصرية حديثة لاتخاذ إجراءاتٍ صارمة تجاه الجرائم المالية. وبلغت حاليًّا توصياتُ مجموعة العمل المالي (FATF) أربعين توصيةً بشأن مكافحة غسل الأموال، وتسع توصيات خاصَّة بمحاربة تمويل الإرهاب، إضافةً إلى التعامل مع تهديدات تتعلَّق بتجارة أسلحة الدمار الشامل، ووضع معاييرَ أكثر وضوحًا لعَلاقة الفساد بتمويل الأنشطة الإرهابية.

وفي عام 2019م أصدر مجلسُ الأمن الدَّولي قرارًا مُسهبًا ومفصَّلًا برقم 2462 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وقد امتاز هذا القرارُ فضلًا عن شموله وتفصيله بدقَّة علمية عالية، ذلك أنه أُعدَّ بعد مراجعات مهنية عميقة وطويلة، أدَّت إلى الإلمام بجميع الأساليب المتوقَّعة لعمليات غسل الأموال المرتبطة بتمويل الإرهاب، ضمن ما تُتيحه تقنيات العصر والعملياتُ المرتبطة بها. وقد اشتمل هذا القرارُ على 38 بندًا وهو يستند أساسًا إلى القرار 1373 الصادر عام 2001م، الذي منع جميعَ الدول الأعضاء من تسهيل عمل المنظمات الإرهابية، ولا سيَّما تزويدِها بالأسلحة.  

وتضمَّن القرار تأكيدَ أهمية التزام التوصيات الأربعين التي أوصت بها مجموعة العمل المالي، وإلزام الدول الأعضاء إدخالَ تعديلات في أنظمتها القانونية والعدلية، لتسمح بإجراءات صارمة للقضاء على أيِّ عمليات ترتبط بأيِّ نوع من أنواع تمويل الإرهاب، وذلك بالاعتماد على القانون الدَّولي، ولا سيَّما القانونِ الإنساني الدَّولي، وقوانين حقوق الإنسان، وقوانين نزوح الجماعات.

ويشمل القرارُ أيضًا طرقَ التعاون في مجال تجميد الأصول المرتبطة بغسل أموال الإرهاب، بالقيام بمسح شامل للقِطاعات الاقتصادية غير المصرفية التي يمكن أن تُستخدمَ في نقل أموال مرتبطة بالجماعات الإرهابية، مثل قِطاعات البناء والغذاء والدواء.

ويدعو القرارُ أيضًا إلى تقويم مخاطر القدُرات التحليلية لعمليات غسل أموال الإرهاب، والتعاون مع وحَدات القطاع الخاص المختلفة؛ لتكوين قواعدَ معلومات ذاتَ تأثيرات عميقة ومهمَّة، بما يعزِّز نظامَ تبادل التصاريح والمعلومات عن الحسابات المختلفة، والتدفقات النقدية عبر الحدود بالوسائل المتعدِّدة، كالحوالات والبطاقات المسبقة الدفع، ووسائل التحويل غير النظامية، دون إغفال أيِّ منفَذ لحركات غسل الأموال المشبوهة والإرهابية.

ولا يخفى الأثرُ الكبير للأصول الافتراضية ومبادرات التمويل الجماعي في مضمون القرار؛ إذ تُعَدُّ هذه الأصولُ اليوم ممرًّا رئيسًا لغسل الأموال، ما يدفعُنا إلى القول: إن التعرُّض لهذا النِّطاق هو من المواقف النادرة في قرارات مجلس الأمن التي تؤكِّد ضرورةَ التتبُّع الدقيق بواسطة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؛ من أجل معرفة أعمق بطرق نقل الأموال غير النظامية، وتحقيق ضبط أكبر لتلك الطرق التي تُعَدُّ خطرًا جسيمًا على مكافحة غسل الأموال المرتبطة بالإرهاب.

نتائج وتحدِّيات
إن نتائج القرارات الدَّولية في مكافحة غسل الأموال المرتبطة بالمنظمات الإرهابية لم تحقِّق إنجازًا كبيرًا في تحويلات النظام المالي الدَّولي، ولكنَّ أهمية هذه القرارات تتمثَّل في العمل الاستباقي القائم على التتبُّع والمنع أكثر مما هو قائمٌ على الكشف. ما يدفعنا إلى القول: إن إدخال قوانين وتقنيات شديدة التعقيد على النظام المالي الدَّولي يجعل من الصعب جدًّا؛ بل من شبه المستحيل على المنظمات الإرهابية، استخدامَ القنوات المالية الخاضعة لسيطرة النظام المالي الدَّولي من أجل غسل الأموال.

وبالرغم من كلِّ الجهود المبذولة في مكافحة تمويل الإرهاب لا يزال النظامُ المالي الدَّولي يواجه تحدِّياتٍ كبيرةً في إقفال كامل حلَقات عمليات غسل الأموال المستهدَفة، ومن أهمِّ تلك التحدِّيات:

أولًا: الأموال الطائلة التي تتمتَّع بها المنظماتُ الإرهابية، التي تعمل ضمنَ بيئة التبادل النقدي غير الخاضع لأيِّ نظام تتبُّع مالي. ودليل ذلك ما قدَّره الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، من أن تنظيم داعش يستحوذُ على ما يقارب ثلاث مئة مليون دولار يستخدمها في تمويل الأعمال الإرهابية.
وإن تتبُّعَ هذا النوع من الإنفاق يرتبط فقط بمراقبة السلوك الإنفاقي للأفراد، والتحوُّلات السريعة التي قد تطرأ على أوضاعهم الاجتماعية غير المرتبطة بالارتقاء الاجتماعي بواسطة الوظيفة أو العمل الحر. وهذا مما يجعلُ الأمر معقَّدًا جدًّا؛ لأن شبكات توزيع أموال الإرهاب تقوم على تخصيص كميَّات قليلة موزَّعة على أعداد كبيرة من المتورِّطين في هذه الأعمال، وهذا يصعِّب عمليةَ التتبُّع الخاصَّة بتغيُّر السلوك الإنفاقي.
ثانيًا: الأموال المزوَّرة من عُملات مختلفة التي تستخدمها المنظماتُ الإرهابية في أوقات متفاوتة، وتقوم بغسلها واستبدال عُملات نظيفة بها، أو استبدال سِلَع وخِدْمات من الأسواق بها.
ثالثًا: العُملات الرَّقْمية المعمَّاة القائمة على تقنية (بلوك تشين)، وهي عالم غامضٌ مستغلِق على النظام المالي الدَّولي. وقد اتسع هذا العالم بدءًا من عام 2010م، وظهور تقنية تعدين عُملة البيتكوين الافتراضية التي سمحت لأول مرة في التاريخ النقدي الحديث بتبادل القِيَم الافتراضية المعمَّاة خارج النظام النقدي الدَّولي، كي تستطيعَ المنظمةُ الإرهابية القيام بتبادل قيمة معمَّاة لها سعرٌ معروف في أسواق التداول، كونها وسيلةً لنقل الأموال وتحريكها في أرجاء العالم، ثم إعادة غسلها مرة أخرى مقابل عُملات حقيقية.
ويُعَدُّ تحدِّي العملات المعمَّاة أكبرَ معضلة تواجه دول العالم في التعامل مع تتبُّع قنوات تمويل الإرهاب وكشفها، وسيحتاج ذلك إلى وضع خطط طويلة الأمد تؤولُ إلى سيطرة النظام المالي الدَّولي على هذه الأسواق، ولا سيَّما العُملات الرائجة جدًّا، للسيطرة على سوقها الأساسي، وضبط سعرها والكميات التي يمكن تداولها من هذه القيم المعمَّاة. 
رابعًا: الفروق الواضحة في استعدادات الدول، وقدرة اقتصاداتها على تطوير قوانينها والتقنيات الإلكترونية المستخدَمة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ من أجل الكشف والتتبُّع، مع ضرورة تطوير هذه التقنيَّات باستمرار، بما يتناسب مع التطوُّرات الضخمة في عالم تقنية المعلومات. إن دول العالم تحتاج إلى تمويل مستقلٍّ تقوم به الدولُ الأكثر قدرةً على تطوير إمكانات جميع أعضاء النظام الماليِّ العالمي، حتى نصلَ إلى وضع أنظمة تصاريحَ ذات كفاءة متشابهة على مستوى العالم، مع سهولة تداول المعلومات للكشف المبكِّر وتتبُّع عمليات غسل أموال وتمويل الإرهاب بكفاءة عالية.