​​​

لم يكن الإرهاب الذي يعني الإفراط في استخدام القوة والناجم عنه حالة من الفزع والخوف والرعب بين العوام، تاريخيًا إلا منتجًا لثلاث مواد خام إذا صح القول: مجتمعٍ إقصائي مفتت، وسلطةٍ استبعادية جائرة، ودوجماتيةِ عقائدَ وأيدلوجيات (التزمت والجمود الفكري). والمدهش أن كلًا منها كفيل بالقضاء على (المساحة) الوسطية والتوافقية بين أنداد الدول والمجتمعات، تلك المساحة التي تفطّن العقل وتضبط السلوك برشاد المنطق والرضا الإنساني.

وتاريخيًا، وعلى النقيض من إرهاب السبعينات والثمانينات الذي كان لأهداف سياسية وايدلوجية ومطالب في معظمها قد تكون مشروعة تختلف أو تتفق معها، جاء إرهاب القرن الحادى والعشرين ليستهدف أعلى نسبة ممكنة من استنزاف البشر والثروات؛ لنشر الرعب وتخويف الآمنين مما يضع هالة من التعجب عن قصدية هذه الحركات الإرهابية وطبيعتها.

ولا ريب أن انتشار الفقر وغياب العدالة التوزيعية للثروات والموارد النادرة، ولّد على مدى بعيد حالة من الإحباط التي بدورها طرحت أنماطًا وأشكالًا مختلفة وغريبة عن الإرهاب. ويرى بعضهم أن هناك ما يسمى بـ(حوافز الإرهاب) التي من أهمها الإحباط وتلاشي الهوية، وبذا ضرب العالم الإسلامي في العقد الفائت من القرن الحالي أكثر الأمثلة على تراكم محفزات العدوان والإرهاب.

ولا تقف تداعيات العولمة في إطارها الاقتصادي والأمني والسياسي وإخفاقها في الإطار الثقافي بعيدًا عن محفزات الإرهاب، إذ بلورت بإخفاقها التضميني لكل الاختلافات شكلًا غريبًا من الإرهاب الداعي للانغلاق غير المحمود بدعوى المحافظة على الهوية. واختلط الحابل بالنابل حينما طرح بعض المتطرفين إرهابهم الفكري المفلس كبديل لعولمة مشوهة وعرجاء؛ ليطرح المتغيران (عولمة عرجاء منقوصة، وانغلاق دوجماتي مدمر للعقل) مناقشات وسائل إعلام اجتماعي تتعجب لسرعة انتشارها وعبثيتها، وعدم منطقيتها في كثير من الأحيان لتفرغ من معناها، وتلد تطرفًا مضاعفًا في نفوس الكثيرين وتدفعهم في النهاية لسلوك إرهابي في منطقة توافرت فيها معظم محفزات الإرهاب بمعدلات غير مسبوقة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، حتى أضحى الإرهاب خطرًا مهددًا لكل مظاهر الحياة والحضارة على وجه الأرض، بل ومعوقًا لرسالة الاستخلاف الإلهية على أرض المعمورة.

والملاحظ أنه من الصعب الاعتماد على عامل واحد لتفسير الإرهاب أو تفسير لماذا ينضم الكثيرون إلى التنظيمات الإرهابية؟ إذ تتداخل عوامل كثيرة داخلية وخارجية للتفسير، فمثلا: كان الاحتلال الأمريكي للعراق أحد الأسباب الرئيسة في ظهور أقصى التنظيمات الإرهابية تطرفًا وهو تنظيم داعش، كما لا يمكن تفسير ظهور تنظيم داعش دون الأخذ في الحسبان حالة الضعف البنيوي، والهشاشة الهيكلية لدول المنطقة المفتتة؛ إذ خلقت مثلاً حالة الاضطراب في سوريا والعراق فجوات في التكوينات الاجتماعية والسياسية مكّنت الجماعات الإرهابية من النموّ فيها. ناهيك عن حالة الإقصاء والتهميش التي يعاني منها المجتمع السني في هذه الدول، وتضييق مساحة التوافق بين الفرقاء.

كما لا نستطيع تنحية عامل الحرمان الاقتصادي – دون مغالاة- إذ إن معظم من ارتكبوا هذه الأعمال الإرهابية مؤخرا في أوروبا يعانون من الفقر، ويعيشون في أحياء تنتشر بها معدلات البطالة والإهمال، ومنهم من جاء من الطبقة المتوسطة تم تجنيده عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي ونشر صورة جاذبة عن تلك التنظيمات، فضلاً عن الإغراءات المادية والمعنوية التي تمنحها هذه التنظيمات لمن ينضم إليها.

لكن على الجانب الآخر هناك من يرى أن (النشاط الإرهابي) لم يكن أبدًا انعكاسًا لظروف الفقر وحده، ويدلل على ذلك أن أفقر الدول في عالم اليوم لم تعانِ من الإرهاب في مقابل معاناة دول أخرى منه بالرغم من نموها الاقتصادي السريع وارتفاع مستوى الدخل لأفرادها. مما يعيد النظر مرة أخرى لدى بعض الدارسين والمفكرين في التفكير بعمق في آلية العلاقة بين الفقر المادي والإرهاب، ويفرض متغير آخر يتعدى العوز والفقر، ويتعلق بقضية الهوية وليست فقط بقضية اقتصادية؛ إذ تشير إحدى الدراسات أن أغلب أعضاء الحركات الإسلامية المتطرفة من الشباب في مرحلة العشرينات من العمر. وصحيح أن معظمهم من خلفيات ريفية أو من مدن صغيرة من الطبقات الوسطى أو الوسطى- الدنيا، إلا أنهم حصلوا على قسط وافر من التعليم وأغلبهم من المهندسين أو العلميين ومن عائلات مترابطة، ولكنهم وجدوا أنفسهم على هامش ثقافتين: ثقافة الأم التي تشكل جزءًا من حياتهم، وثقافة التبني التي فرضها عليهم سياقهم الجديد الملحقين به ماديًّا أو حتى فكريًّا، فدفعهم ذلك إلى محاولة التخلص من شرنقة هذا الاغتراب وأحيانًا التهميش الاجتماعي، وكان هذا بداية النشاط الإرهابي.

ولقد تبنى تلك الفكرة Sean Wilentz أستاذ التاريخ في جامعة Princeton، إذ إنه بعكس ما يعتقده الكثيرون، يرى أن الإرهابيين الذين اشتركوا في أحداث سبتمبر لم يقوموا بها لأسباب اقتصادية أو تمردًا على حرمانهم المالي، أو وضعهم الاقتصادي، أو حتى فقرهم المادي، بل بهدف تغيير خريطة العالم التي اختارت لهم موقعهم في الظل، ويؤيد هذه النظرة مستواهم المالي والتعليمي، وما تمتعوا به من امتيازات اقتصادية.

والإرهاب بذلك من وجهة نظرهم ليس نتاجًا للفقر فقط، إذ إن مستوى معيشة أفراد الجماعات الإسلامية أعلى نسبيًا من غيرهم من المسلمين داخل نفس الدولة، بل وأقدر على المشاركة فى اللعبة السياسية بما يمتلكوه من وسائل إقناع وقدرة على التعبئة وامتلاك الموارد المالية اللازمة لذلك.

ونفس الشيء في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث ترتفع مستويات معيشة المسلمين فيها. ناهيك عن أن هناك جماعات إسلامية متطرفة موجودة في دول إسلامية مزدهرة اقتصاديا. وفي المقابل لم تزدهر الحركات الإسلامية المتطرفة في العديد من المجتمعات الفقيرة مما حدا بعضهم إلى القول إن الثروة وليس الفقر هي التي ستسهم في زيادة الحركات المتطرفة بدعوى أن الثراء يتيح للأفراد الفرصة في التفكير في قضايا إيديولوجية وسياسية بعد أن يكونوا قد أشبعوا اقتصاديًّا!

ويبدو أن التفسير الغربي للإرهاب في العالم الإسلامي دفع ببعضهم إلى الإصرار على إعطاء العوامل المادية والفقر الاقتصادي الأولوية في صعود الإرهاب، وليس عوامل التهميش أو الإقصاء مثلاً، وكان هذا موضع نقد لاذع من كثير من الدارسين الواعين باختلافية الأطر المعرفية والفكرية بين الشرق والغرب؛ إذ أكدوا خطأ وسطحية هذه التفسيرات المادية للحركات الإسلامية، وغياب القناعة بالعوامل غير المادية كسوء تفسير الآيات الدينية واختلاط الممارسات الثقافية بالتقاليد الدينية والتاريخية، واستغلال الفراغ الفكري لدى الشباب وغيرها من العوامل التي لم تولِ الكتابات الغربية الاهتمام بها، مما يفتح الباب مرة أخرى إلى الأخذ في الحسبان التفكير مليًّا في الأسباب غير الاقتصادية والمادية للإرهاب.

ومن هنا فالحد من النشاط الإرهابي ليس من خلال رفع مستويات النمو الاقتصادي من خلال الدعم والمعونات الاقتصادية، كما أن الحل أيضًا ليس من خلال تبني القيم الغربية، حيث لا تؤدي لتقليل الهوة بين الشرق والغرب، إذ إنها في الواقع قد تؤدي لنتائج عكسية في حال عدم ترشيد مواطن استخدامها، فهي ستزيد الإحساس بحالة خلل المعادلة التوزيعية للدولة وتنتقل به إلى مرحلة الإحساس بالتهميش بين المعوزين الذين في هذه الحالة لن يفتقدوا المال فقط وإنما الاندماج فى مجتمعاتهم. ويبدو أن هذا التفسير كانت له مصداقيته عقب أحداث لندن (انفجارات يوليو 2005)، حيث تورط فيها أبناء من الجيل الثالث من المهاجرين إلى بريطانيا، وبدأ إحياء مفردات التهميش والتأرجح بين ثقافتين، وتراجع عامل الفقر كعامل أولي للإرهاب.

ويبقى القول: إن محاربة الإرهاب والحد منه يجب ان يرتبط بالوعي بما تمر به المنطقة العربية بأسرها، من مرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، مما يعطي فرصة لصعود الميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي. فضلًا عن انهيار توازنات القوى القديمة دون خلق آفاق سلمية بديلة؛ ما يجعل من سيناريو الإرهاب والعنف والتفتيت السياسي والجغرافي سيناريو متوقعًا على المدى البعيد وخصوصا وأن البديل التوافقي ليس مطروحًا في كثير من الدول والمجتمعات العربية.

وأخيرًا وليس آخرًا يجب التنويه أن العديد من الإرهابيين يعجزون عن إدراك أن أعمال الإرهاب من المستحيل أن تحرر شعبًا، وإن أقصى محاولات المقاومة والكفاح ضراوة ارتبطت تاريخيًا برشاد الهدف المعلن من المقاومة وشرعنة الوسيلة، ولهذا اقتراب آخر عن الإرهاب والإعلام.​