تزخَر الأفلام الأمريكية دراميَّةً كانت أم وثائقية، بمشاهدَ لمجموعات من الرجال يرتدون أثوابًا بيضاء وأقنعةً كالقبَّعات مرتفعةً مدبَّبة تغطِّي الرأسَ والوجه إلا العينين، ويحملون صُلبانًا محترقة، ويعيثون في حيٍّ ما، غالبًا ما يكون موطنًا للسود؛ حرقًا للبيوت وقتلًا للرجال والنساء والأطفال، وتدميرًا للممتلكات، ثم يغادرون المكانَ وقد بات قاعًا صَفصفًا. تلك ليست مشاهدَ دراميةً أو وثائقية فحسب، ولكنها جزءٌ حقيقي من ممارسات أقدم جماعة إرهابية في عالمنا المعاصر. إنها جماعة (Ku Klux Klan) كو كلوكس كلان، أو ما يُعرف اختصارًا بـ (KKK). 
 
جذور الجماعة
استمدَّت جماعة (KKK) اسمَها من اللفظة اليونانية (kuklos) التي تعني الدائرة، ومن اللفظة الإنجليزية (Klan) التي تعني العشيرة، وأسسها ستةُ ضبَّاط سابقين في الجيش الكونفدرالي الأمريكي بين ديسمبر 1865م وأغسطس 1866م لمعارضة تحرير السُّود عقب الحرب الأهلية الأمريكية. ومارست الجماعةُ أعمال عنف وإرهاب كثيرة كالحرق العمد، والضرب، وتدمير الممتلكات، والقتل، والاغتصاب، وجلد السُّود وأفراد قوات الجيش الاتحادي الذي عدُّوه جيشَ احتلال عقب انتصاره في الحرب الأهلية، ما دفع الرئيسَ الأمريكي أوليسيس غرانت إلى تدمير الجماعة تمامًا في عملية الحقوق المدنية عام 1871م.
 
وكان اجتثاث الجماعة أمنيًّا فقط لا فكريًّا، ولذلك لم تلبث أن عادت أشدَّ قوة. ففي عام 1915م أحيا العقيدُ ويليام جوزيف سيمون الجماعةَ في جبال ستون بولاية جورجيا. وكان التأسيسُ الثاني للجماعة أكثر إتقانًا، إذ أصبحت منظمةً رسمية، تتألف من عضوية رسمية ذات بنية قومية، ولها فروعٌ محلِّية في أرجاء الولايات المتحدة. وأرسل سيمون أكثرَ من ألف محامٍ لتجنيد أعضاء للجماعة. ولم تمضِ عشر سنوات حتى بلغت المنظمة الإرهابية أوجَ قوتها، إذ ضمَّت قُرابة %15 من العدد الإجماليِّ الرسمي لسكَّان الولايات المتحدة، أي أكثر من أربعة ملايين عضو. 
 
كانت الظروف الاجتماعية في أوائل عشرينيات القرن الماضي مناسبةً لحملة عضوية (KKK)، ولا سيَّما في الولايات الجنوبية، حيث انتقل ثلثُ السكَّان إلى الحضَر بعد أن كانوا في الريف، وأنتج التحضُّر كثيرًا من التغيُّرات ولا سيَّما انتشار الجريمة، التي أزعجت كثيرين من أهالي الريف المحافظين. وأنتجَت مدن النفط المزدهرة الرذائلَ كالدعارة والمقامرة، التي ساءت المتدينين، الذين استهدفتهم المنظمة في تأسيسها الثاني.
 
عملت (KKK) كأنها حارسُ المجتمع، واغتصبت وظيفةَ الشرطة في مناطقَ شتَّى من الولايات المتحدة الأمريكية، فكان أعضاؤها يطبِّقون المعاييرَ الأخلاقية على أفراد المجتمع، فيجلدون الجناة، ويطاردون المجرمين، ويحصِّلون الديون، والأكثر غرابةً أن ضبَّاط الشرطة كانوا يسلِّمونهم المجرمين في بعض الأحيان لينفِّذوا فيهم العقوبة! واستهدفت المنظمةُ اليهودَ والكاثوليك والأقلِّيات الاجتماعية والعِرقية، ومَن تتَّهمهم بارتكاب ممارسات غير أخلاقية؛ مثل الزنى والربا والقِمار ومعاقرة الخمور، وسعَت إلى ما سمَّته "إعادة تأسيس القيم المسيحية البروتستانتية في أمريكا بأي وسيلة ممكنة"، وأعلنت أن المسيح (يسوع) كان أولَ (كلاينز مان) بزعمهم أنه أول عضو مؤسس للجماعة.
 
كان الجنوب المنشأ الأصلي للجماعة، لكن قوتها العددية الثانية كانت في الغرب والغرب الأوسط، وبلغ نفوذها أشدَّه في كاليفورنيا وأوكلاهوما وأوريغون ولويزيانا، وتمكَّنت من إنجاح حكَّام ومشرِّعين في انتخابات هذه الولايات. وتسجل وثائقُ المباحث الاتحادية (FBI) أن "جون م. باركر" حاكمَ ولاية لويزيانا، التمسَ مساعدة الحكومة الاتحادية لمواجهة نشاطات الجماعة الإرهابية في مذكرة بتاريخ 25 سبتمبر 1922م، أرسلها إلى المدَّعي العام، ولم يكن قادرًا على استخدام أي من الرسائل البريدية أو التلغراف أو الهاتف لإرسال الرسالة بسبب سيطرة (KKK)، فلم يجد سوى توسيط الصحفي "بول ووتون" ليفعل ذلك. 
 
 ضعيفة لكنها باقية 
ومع تعاقب السنين ضعُفت منظمة (KKK)، وانخفضَت عضويتها كثيرًا، وحُلَّ آخرُ فروعها في عام 1944م، لكنها ظلت مستمرَّة، وعادت إلى الظهور في بعض الولايات الجنوبية في الستينيَّات من القرن الماضي، وارتكبت عددًا من الأعمال الإرهابية سرًّا؛ كالتفجيرات وإطلاق النار والجلد. ومع أن أهداف هذه الجماعة وسلوكها في اتجاه يناقض مسيرةَ التاريخ نحو التسامح والتعدُّد وقبول الآخر، لم يكن ذلك كافيًا لاندحارها، فقد بقيت على الرغم من انقسامها وتراجُع أعداد أعضائها وضعف قوَّتها؛ لحساب جماعات يمينية متطرِّفة أكثر شبابًا، تشاركها في أكثر أهدافها. 
 
ولم تعُد (KKK) كِيانًا واحدًا يديره قائدٌ واحدٌ من مقرٍّ مركزي، فهناك ما لا يقلُّ عن أربع جماعات رئيسة تعمل اليوم تحت اسم (كلان) هي:
كنيسة الفرسان الوطنيين Ku Klux Klan National Knights؛ أُنشئت عام 1960م، وتعمل الآن من إنديانا، وهي من أنشط جماعات (KKK) .
فرسان كو كلوكس كلان (KKK)، وتُعرف أيضًا باسم حزب الفرسان، أسَّسها "ديفيد ديوك" في عام 1975م، عندما كان عمره 25 عامًا، ومكتبُها الرئيس في مدينة هاريسون بولاية أركنساس.
جماعة إخوان كلاينز (BOK)، أسَّسها عام 1996م "دايل فوكس"، وهي شديدةُ السرِّية. تعُدُّ نفسَها الوريثَ الأوحد لـمنظمة (KKK)، وهي الوحيدة التي لها وجودٌ خارج الولايات المتحدة في كندا، ويُعتقَد أن مقرَّها الرئيسَ في هندرسون بولاية تينيسي.
جماعة إمبريال كلانز الأمريكية (Imperial Klans of America - IKA)؛ أسَّسها "رون إدواردز" في داوسون سبرينجز بولاية كنتاكي في عام 1996م. ويُعتقَد أنها ثاني أكبر جماعة في (KKK) بعد جماعة إخوان كلاينز.
وقد عادت جماعاتُ (KKK) إلى الأضواء في السنوات القليلة الماضية؛ ففي عام 2014م أُلقيَ القبض على "فرايزر جلين كروس جونيور" (المعروف باسم ميللر)، مؤسِّس فصيل Carolina Knights of Ku Klux Klan، لقتله ثلاثةَ أشخاص في مراكز الجالية اليهودية في كانساس.
 
وخاضَ مؤسِّس حزب الفرسان "ديفيد ديوك" المعترك السياسي؛ فانتُخب نائبًا في مجلس النوَّاب عن ولاية لويزيانا، وخاض الانتخاباتِ التمهيديةَ الرئاسية في الحزب الديمقراطي عام 1988م، والانتخابات التمهيدية في الحزب الجمهوري للرئاسة في عام 1992م، وأيَّد الرئيسَ ترامب في الانتخابات الأخيرة. وحاول ديوك إبرازَ وجه ألطف لجماعته، وتقديمها للجمهور بوصفها منظمةً حديثة للحقوق المدنية للبيض، لكنه لم يستطع أن يخفيَ أهدافه، فأعلن بلا مواربة: "نتوقع من غير البيض المقيمين في أمريكا أن يتصرَّفوا وفقًا للمبادئ المسيحية، ويجب أن يُدركوا أن الاختلاط العِرقي خطأ غير وارد، سيكون العيشُ تحت سلطة حكومة مسيحية بيضاء امتيازًا رحيمًا".
 
وتضمُّ هذه الجماعاتُ الأربع عددًا كبيرًا من الفصائل الصغيرة وصل عددُها إلى 160 فصيلًا، تنتشر في 41 ولاية، ثلثاها في ولايات الجنوب، لكنَّها تراجعت عام 2016م إلى 130 فصيلًا، ثم إلى 51 فصيلًا عام 2018م.
 
 التمويل والتجنيد 
تمكَّنت (KKK) من جمع ملايين الدولارات لتمويل نشاطاتها الاجتماعية والإعلامية والإرهابية من أعضائها، وذلك من رسوم العضوية والضرائب وحصيلة بيع المنتجات. ومن ثمَّ كانت زيادة رسوم العضوية أمرًا حاسمًا لاستجلاب الأرباح، ولا سيَّما من أولئك الذين يشغلون مناصبَ قيادية في الجماعة. وأنتجت الجماعةُ أدواتٍ خاصَّةً بها لتكونَ مصدرًا ثانيًا للإيرادات، فكان مطلوبًا من جميع أعضائها شراء الزيِّ الرسمي للجماعة، وهو الجلباب الذي يُنتَج في مصانعها، ولا يُسمَح للأعضاء بتصميم أرديتهم الخاصَّة.
 
أما المؤيدون الذين لا يرغبون في العضوية الكاملة للجماعة فهم مصدر مهمٌّ للتمويل؛ إذ أسهم هذا الجيشُ غير المرئي في تمويل الجماعة بملايين الدولارات، وكان كلُّ واحد منهم يُسهم بنحو 25 إلى 100 دولار، وفي سبتمبر 2019م جمَّدت (PayPal) حسابًا يُستخدَم لجمع الأموال من قِبَل (KKK) بعد أن تلقَّت شكاوى بشأنه.
 
وتوظِّف المنظمةُ وسائلَ التقنية الحديثة، وعلى رأسها الإنترنت ومواقع التواصل؛ لتجنيد أعضاءٍ جدُد، وتوظِّف الأحداثَ السياسية والهجَمات الكبرى في الدعاية الإعلامية. في عام 2015م، بعد أن أطلق "ديلان روف" النارَ على تسعة أمريكيين من أصل إفريقي وقتلهم في كنيسة يرتادُها السود في تشارلستون بولاية ساوث كارولينا، قام فصيلُ فرسان (وايت نايتس) من (KKK) بتوزيع منشوراتٍ تضمَّنت الموقعَ الإلكتروني ورقمَ الهاتف للفصيل، مصحوبةً بأكياس الحلوى في ولايات ألاباما وكاليفورنيا وجورجيا وكنساس وميسيسيبي. مؤكِّدين في المنشورات أن "ديلان" قرَّر أن يفعلَ ما يأمره به الكتاب المقدَّس! وقد تبجَّحوا بقولهم: "نحن نفعل ذلك من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، فقط لإعلام الناس أن (KKK) في مجتمعهم".
 
 الأفكار والهوية 
مثلُ كثيرٍ من المنظمات التي قدَّمت نفسها على أنها روابطُ أخوية، منحَت (KKK) أعضاءها شعورًا بأنهم ينتمون إلى شيء مميَّز، له طقوسُه الخاصَّة وأحيانًا السرِّية؛ في المصافحة، والألقاب، والكلمات المـُعَمَّاة (المشفَّرة)، والزي الرسمي، والمسيرات، والنزهات، وفرق الرياضة، والمسابقات الترفيهية، والفرق الموسيقية والحفَلات، ومراسم الزِّفاف، والجنازات، والتعميد وغيرها. وأدارت المنظمة حمَلات لمئات المرشَّحين لمناصبَ على مستوى الولاية أو المحلِّيات، وانتخبَ الأمريكيون عددًا لا يُحصى من أعضاء الجماعة؛ ليكونوا رؤساءَ بلديات، وأعضاءً في مجالس المدن، ومشرِّعين في الولايات وعلى المستوى الاتحادي.
 
أما من الناحية الفكرية فقد مزجَت (KKK) بين رُهاب الأجانب والتطرُّف الديني والعنصرية مع الأخلاق المحافظة! ففي خضم الركود العالمي الذي أعقب الحربَ العالمية الأولى، انتشر الخوفُ والقلق على نطاق واسع بين البروتستانت البيض بشأن مستقبل الدولة التي عرفوها واعتادوا السيطرة عليها. كانوا قلقين جدَّا من جرَّاء تدفُّق المهاجرين من أوروبا الشرقية، وزيادة تأثير الكاثوليك واليهود في الحياة الأمريكية، وهجرة الأمريكيين الأفارقة من الجنوب، واتساع دائرة الحريات السياسية والجنسية للمرأة، باختصار كانوا يرَون الجريمة والرذيلة في صعود، وأن العالم يتطوَّر خارج سيطرتهم.
 
وهم يؤمنون أن المسيحية هُويَّتهم، وسبب وجودهم، ويرَونها على النقيض من هُويَّات مجموعات أخرى يعدُّونها غيرَ مسيحية أو خطرًا على المسيحية. وعلى الرغم من أن كثيرًا من أفراد (KKK) وجماعاتها أعلنوا أن معتقداتهم المسيحية هي الدافع لأعمالهم الإرهابية، نجد أن استخدامهم للمسيحية كان مجرَّد غطاء لإضفاء الشرعية على العنف الذي يمارسونه، فالمسيحية مجرَّد ذريعة، وليس لهم أي صلة بمعتقدات أو نصوص أو ممارسات مسيحية صحيحة، وهذا ديدنُ كل الجماعات المتطرِّفة التي تمارس العنفَ في كل الأديان. 
 
وعندما تكون الجماعات التي تستهدفها (KKK) بالعنف والإرهاب من طوائفَ مسيحيةٍ أخرى، فغالبًا ما تعدُّها غيرَ مسيحية، أو معاديةً للمسيحية، أي أنها تمارس منطقَ التكفير السائد في كلِّ الجماعات المتطرِّفة العنيفة في جميع الأديان.