التضاد بين التوحش والجمال

لم يكن كتاب إدارة التوحش Management of Savagery الذي كتبه منظر القاعدة أبوبكر ناجي مجرد سلسلة من المقالات التي يشرح بها فكر وإستراتيجية تنظيم القاعدة وحربه مع العدو القرب والبعيد، بل يمكن القول إنه مثّل هوية للتنظيم وتطوراته اللاحقة وصولاً إلى ظهور تنظيم (داعش). هوية عبرت عن عمق التطرف ومكنوناته، حيث نقل معالم النفس المتطرفة وحقيقتها وصفاتها الجوهرية إلى ممارسات مشاهدة مترجمة على أرض الواقع تمثلت في بشاعات التوحش.

يقول أبوبكر ناجي (إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة. وإذا أخفقنا لا يعني ذلك انتهاء الأمر ولكن هذا الإخفاق سيؤدي إلى مزيد من التوحش. ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسوء مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقد السابق (التسعينات) وما قبله من العقود، بل إن أفحش درجات التوحش هي أخف من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات) . وقد عرف أبوبكر ناجي إدارة التوحش بأنه إدارة الفوضى المتوحشة .

وقد لاحظ فيلسوف الحضارة مالك بن نبي وجود تناقض واضح بين التوحش والقبح من جهة وبين الجمال من جهة أخرى حين قال (لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صورة قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصورة في أفكاره وأعماله ومساعيه) .

ومن الناحية الاجتماعية والثقافية فإن الإحساس بالجمال يعد المنبع الذي تصدر عنه الأفكار الإيجابية والبناءة والسامية، ولا يمكن أن ينفصل الخير عن الجمال، فإن حصل خلل في هذا الإحساس الجمالي بدخول صور الأشلاء والدماء والذبح والحرق والتعذيب فإن التأثير على النفس الإنسانية سيظهر على شكل سلوك اجتماعي وثقافي متلائم مع تلك المدخلات الوحشية. ويرتبط الفن بالذوق الجمالي، حيث إن العلاقة بين الفن والجمال علاقة وثيقة للحد الذي اُعتبر الفن من تجليات الجمال، وجُعل هدف الفن "إنتاج شيء يتسم بالجمال" .

في دراسة تمت على تنظيم "داعش" لوحظ أن للمقاتلين الملتحقين به خلفيات دراسية مختلفة، فنصفهم درس في معاهد ثانوية أو جامعات ، وفي الوقت الذي استقطبت فيه التنظيمات المتطرفة المئات من المهندسين والأطباء، حتى بلغت نسبة المهندسين في الحركات الجهادية 44% من الجامعيين ، فإن الفنانين هم الأقل استجابة لنداءات ورؤية التنظيمات الجهادية المتطرفة، ومن النادر أن ينضم الفنانون إلى التنظيمات الجهادية.

ويلاحظ أن تنظيم "داعش" قام بإغلاق كليات الفنون الجميلة بالمناطق التي سيطر عليها، وحارب مختلف الفنون بالتحريم والاضطهاد، كما قام بتدمير الرسومات والمنحوتات والآثار في المتاحف والمناطق التي وصل إليها.

"يمثل الفن نظرة واسعة للحياة بتفاصيلها اللامتناهية بشكل حر وغير مقيد، بعكس التطرف الذي يمثل نظرة ضيقة وحدية للعالم والحياة، ولا يقبل التنوع"أما عن سر هذا العداء بين التوحش والفن فإن الفن يمثل شكل من أشكال الوعي الاجتماعي والنشاط الإنساني، ويمثل نظرة واسعة للحياة بتفاصيلها اللامتناهية بشكل حر وغير مقيد، بعكس التطرف الذي يمثل نظرة عقدية ضيقة وحدية للعالم والحياة، ولا يقبل التنوع.

الفن من كوابح التطرف

يعد العقل المحبط بكل ما يحتويه من مشاعر سلبية قبيحة جوهر التطرف، ويعاني هذا العقل من التشتت والتوتر الذي يحدث نتيجة عدم القدرة على التكيف مع الظروف المحيطة الضاغطة؛ سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها. والضعفاء من البشر الذين لا يبذلون جهدًا في السيطرة على أنفسهم وانفعالاتهم يقضون حياتهم في حالة دائمة من الارتباك، فالقوة الداخلية لدى الإنسان تمثل ضمانًا للسيطرة الذاتية وتوجيه الطاقة والأنشطة، ومقاومة القوى الخارجية المشتتة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتطلب حياته نمطًا دائماً ومستمراً من القدرة الكابحة. والبشر يحتاجون إلى كوابح اجتماعية ليظلوا في حالة توازن عقلي، حيث يقدم المجتمع ويشكّل القيم والأخلاق والمبادئ والسلوك السوي للفرد، وتخلق تلك القيم عند الفرد إحساساً "بالواقع" الذي يعد عنصراً ضرورياً ولازماً لمنع إيذاء النفس. وإن الإحساس بالواقع هو الذي يخلق الفرق بين الانتحار أو التمسك بالحياة. فالمنتحر يعاني من تشويش ذهني يجعله يظن أن هذه الحياة لا تستحق أن تعاش! وهذا يعطينا تفسيراً لما يحدث مع المتطرف الذي يفقد الإحساس بالواقع، ويرى أن الحياة مدنسة لا تستحق العيش فيتطلع إلى التضحية بالنفس والانعتاق من الحاضر.

"يولّد احتقار النفس أكثر النزعات إجرامًا؛ ويرى المتطرف أن الحياة مدنسة لا تستحق العيش فيتطلع إلى التضحية بالنفس والانعتاق من الحاضر"كما أن احتقار النفس يولد "أكثر النزعات إجرماً؛ لأنه يجعل الشخص ينطوي على كراهية قاتلة للحقيقة التي تدينه هو، وتظهر عيوبه". في المقابل يمكن أن يتطور الإنسان عندما يحول التوتر إلى قدرة خلق وإبداع، وإلى رضا منتج. ويحدث ذلك من خلال الإحساس العميق بوجود هدف لأن الهدف يربطه بقوة الواقع.

وإحدى الوسائل التي تساعد على ربط الإنسان بالواقع هي تنمية مجالات الإبداع الفني الجمالية لديه، حيث إن العلاقة بين الفن والجمال علاقة وثيقة للحد الذي اُعتبر الفن من تجليات الجمال، ولا شيء يعزز ثقتنا بأنفسنا ويساعدنا على العيش معها، كالقدرة المستمرة على الإبداع، بحيث نرى الأشياء تنمو وتكبر بين أيدينا يوماً بعد يوم. وليس من المستبعد أن يكون اختفاء الحرف اليدوية في الأوقات المعاصرة سبباً في تزايد الإحباط وفي انجذاب الفرد إلى الحركات المتطرفة.

وقد نشرت صحيفة الغارديان The Gaurdian بتاريخ 21/6/2016م مقالاً للصحفية هيلين دانسر يتحدث عن تمكن بعض الشباب التونسي المهمش من الانتصار على داعش عبر فن الجرافيتي. وقد استطاع هؤلاء الشباب بحسب المقال إقامة لقاءات وفعاليات في الشوارع دُعى إليها مغنو راب دوليون، وراقصون، وفنانون. كما أقاموا ورش ودورات تدريبية لتعليم الشباب فن الجرافيتي، وكل ذلك من أجل تعزيز هويتهم وإحساسهم بالواقع وتقديرهم لذواتهم، وبالتالي جعلهم أقل عرضة للانضمام إلى حركات التطرف.

ولذا فإن أحد أهم الكوابح التي تساعد على الحد من انتشار التطرف وتفشيه هو دعم المجالات الفنية والجمالية في مختلف الميادين والمجالات، وتبني المعارض والعروض الفنية من قبل المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني. كي يجد الشباب المجال للتعبير عن أنفسهم وتحقيق ذواتهم بكل حرية.​