تظلُّ النزاعاتُ المؤدِّية إلى الحروب الأهلية من المحركات الرئيسة لنمو الإرهاب وانتشاره؛ إذ تؤكِّد البيانات الصادرة من الأمم المتحدة أن أغلب حالات الوفاة المتصلة بالإرهاب تحدث في البلدان التي لديها مليشيات عسكرية متعدِّدة ونزاعات عنيفة فيما بينها من جهة، وبينها وبين حكوماتها من جهة أخرى، وتؤكِّد البياناتُ نفسها أن كثيرًا من الهجمات المميتة تقع في مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، وتتحمَّل أفغانستان وسوريا والعراق ونيجيريا والصومال العبء الأكبر منها.

مناطق الصراع

وبحسب تقرير مؤشر الإرهاب العالمي 2022 فإن الصراع هو المحرِّكُ الرئيس للإرهاب؛ إذ إن البلدان العشرة الأكثر تضرُّرًا من الإرهاب في عام 2021 منخرطةٌ في صراعٍ مسلَّح، وأن نسبة 92٪ من الوفيات الناجمة عن الإرهاب منذ 2000 حتى 2021 وقعت في مناطق الصراعات، وارتفعت النسبةُ في السنوات الثلاث الماضية إلى 95.8٪، ثم ارتفعت إلى 97.6٪ في عام 2021.

إنَّ تلكَ الأرقام المفزعة تستدعي إلقاء الضوء على ظاهرة الحروب الأهلية وعلاقتها بانتشار الإرهاب مثلما حدث في الصومال، حيث إنّ هذا البلد كان قبل عقود مثالًا للتسامح والعيش المشترك، ويمتلك مقدَّرات طبيعية وثروات كبيرة وموقعًا إستراتيجيًّا على البحار المفتوحة تؤهله أن يكون أنموذجًا للأمن الغذائي والازدهار الاقتصادي، ومع ذلك فإن تلك الفرص أهدرها الفراغ السياسي الذي قاد إلى نمو الجماعات الإرهابية وانتشارها، مما أدى إلى تهديد الكيان الموحَّد للدولة النظامية القادرة على بسط الأمن والاستقرار في جميع الأراضي الصومالية.

خلفية تاريخية

يتكوَّن الشعبُ الصومالي من قبائل متعدِّدة أهمها «الهوية»، و «در»، «رحنوين». ويعود تاريخ الدولة إلى العصور القديمة؛ إذ عُرفت لدى القدماء المصريين ببلاد «بونت».  وفي المدة من القرن الثاني حتى القرن السابع الميلاديين كانت بلد الممالك السبعة، واستقرت بعضُ القبائل العربية على ساحل خليج عدن في القرن السابع الميلادي، وتعاقبت الهجرات العربية في هذه المنطقة في القرن الثالث عشر.

يقع الصومال في شرق القارة بمنطقة القرن الإفريقي، ويحدُّه خليج عدن والمحيط الهندي من الشرق، وإثيوبيا من الغرب، وجيبوتي من الشمال الغربي، وكينيا من الجنوب الغربي. وقد نال الصومال استقلاله عام 1960، بعد حالة فريدة من التقسيم والاستغلال الاستعماري، حيث كان الصومال موزعًا على عدد من الدول الاستعمارية، فكان هناك الصومال الجنوبي وتحتله إيطاليا، والصومال الشمالي والصومال الجنوبي الشرقي وتحتلهما بريطانيا، والصومال الغربي (أوغادنيا) حيث أصبحت بعد الاستقلال بمساعدة الاستعمار تحت حكم إثيوبيا، إضافة إلى الصومال الفرنسي الذي نال استقلاله معلنًا دولة جيبوتي. الأمر الذي يشير إلى حجم التهافت الاستعماري على خيرات الصومال ومقدراته الوطنية.

ولا تقتصر فرادة الحالة الصومالية على تعدد الاحتلالات، إذ يمتلك سمة تكاد لا توجد في غيره من الدول، ويتمتع بوحدة عرقية ودينية ولغوية شبه كاملة، غير أن هذا الانسجام التام لم يصمد أمام الرواسب الاستعمارية التي أدت إلى تقديم النظام القبلي والعشائري وتعزيز مكانة القبيلة في بنية الدولة الصومالية، فكان الولاء القبلي والانتماء العشائري حجر عثرة أمام الدولة الوطنية القوية.

الحرب الأهلية

شهد الصومال في ثمانينيات القرن الماضي تغذية كبيرة للميول الانعزالية لدى القبائل، وهو ما أشعل أتون الحرب الأهلية (1991 - 1996)؛ إذ أدَّت بعض الممارسات السابقة إلى مزيدٍ من الفساد السياسي والاقتصادي، وتكريس قِيَمِ التعامل القبلي، وتعميق الفجوة المجتمعية، وبروز حركات معارضة، مثل: الحركة الوطنية الصومالية التي شنَّت هجمات عسكرية ضدَّ الحكومة المركزية، وقد أفضى ذلك إلى ردِّ فعل عنيف من الحكومة، وبدأت الحرب الأهلية تبحث عن المصالح الفئوية. ويُذكر أن القبائل الصومالية التي شعرت بالتهميش شكَّلت الكثير من الفصائل المسلحة للاستيلاء على السلطة، وتولَّى قيادة كلِّ فصيل قائدٌ عسكري من أبناء القبيلة، من بينها (الجبهة الديموقراطية لإنقاذ الصومال - الحركة القومية الصومالية - المؤتمر الصومالي الموحَّد - الجبهة القومية الصومالية - الحزب الصومالي المتحد - الحركة الديموقراطية الصومالية - الاتحاد الديموقراطي الوطني الصومالي - الحركة الإسلامية الصومالية). وقد دار الصراع القبلي، وسقطت السلطة المركزية، ودخلت الصومال النفق المظلم للحروب الأهلية.

إن تعدُّد الفصائل المسلَّحة المبنية على أسس قبَليَّة في نطاق الدولة الصومالية بداية تسعينيات القرن الماضي، أضعف الجيش الوطني الواحد القادر على بسط النفوذ والأمن، وأسهم إسهامًا فاعلًا في إشعال حدَّة الحرب الأهلية التي سقط بسببها كثيرٌ من الضحايا المدنيين، ومنح فرصةً كبيرة للتنظيمات الإرهابية الأشد فتكًا وشراسةً كالقاعدة وداعش للانتشار والاستقطاب في صفوف الفصائل؛ إذ أصبح الصومال أرضًا خصبةً لتدريب العناصر الإجرامية ونقطةَ انطلاق لتنفيذ الجرائم والأعمال غير الإنسانية.

المحاكم والقاعدة

وعلى إثر تلك الأحداث؛ ظهرت المحاكمُ الإسلامية عام 1997 بين قبائل العاصمة الصومالية؛ بعد سقوط الحكومة المركزية وسيادة الفوضى؛ لتضطلع بمهام تطبيق الشريعة وحفظ الأمن بعد فشل مبادرات فردية منها؛ لإنشاء محاكم متفرقة بين عامي 1991 و 1994. وقد استشعر المجتمعُ الدولي القلقَ من هذا التمدُّد، وهو الهاجس الذي أكَّدته تقارير أمريكية أفادت أن خلايا تابعة لتنظيم القاعدة قد تسلَّلت من الصومال وإليه؛ لتفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام عام 1998، بمساندة من قيادات بارزة في المحاكم، وكذلك ما تناقلته وسائل الإعلام بعد أحداث 11 سبتمبر أن مقاتلي القاعدة يتجنبون القصف الأمريكي في أفغانستان بالتوجه إلى الصومال الذي أصبح مأوى آمنًا للإرهابيين.

وشكَّل قادةُ اتحاد المحاكم في 2005 «مجلسًا أعلى»، وفي خطوةٍ حملت تحديًا للحكومة الصومالية الانتقالية ولواشنطن، وأسندت رئاسة مجلس الشورى - أعلى سلطة تشريعية - في المجلس الجديد إلى الشيخ «حسن طاهر عويس» المصنَّف في قوائم الإرهاب، والمتهم في إثيوبيا بتنفيذ عمليات عسكرية على أراضيها، وقد أعطى ذلك تأكيداتٍ للمجتمع الدولي أن أهداف المجلس لا تقفُ عند استتاب الأمن، أو إعلان دولة إسلامية صومالية تحكم كلَّ أجزاء البلاد فقط، إنما تمتدُّ لزعزعة الاستقرار في الإقليم ذي الأهمية الإستراتيجية. ويذكر أن القوات العسكرية التابعة للمحاكم قد سيطرت على العاصمة في الخامس من يونيو 2006، وفي الشهر ذاته وقَّعت اتفاقًا مع الحكومة الانتقالية يقضي باعتراف كلٍّ منهما بالآخر، وإنهاء أعمال العنف. غير أن الصعود السريع تبعه هبوطٌ أسرع وتفكُّكٌ وانهيار بعد التدخل الإثيوبي العسكري في ديسمبر 2006 بطلب من الحكومة الانتقالية، فقد هرب مسلحوها إلى الخارج في 2007، وجرى حلُّها في يناير 2010، على أن ذلك لم يحلّ أزمة الصومال لدخول الحكومة الجديدة في صراعٍ متجدِّد مع حركة الشباب المجاهدين.

​الاتحاد الإسلامي

حركةٌ صومالية، وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية على قوائم الإرهاب بعد أسبوعين فقط من اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وكان لها السَّبق في رفع السلاح لإقامة إمارة دينية عن طريق القوة في الصومال عام 1991 بعد انهيار الحكومة المركزية، وشهدت انشقاقات واسعة في صفوفها في تسعينيات القرن الماضي. وخاضت معارك عنيفة لإقامة الإمارة في أعقاب الفوضى التي عمَّت البلاد بعد 1991، وهُزمت فيها جميعًا أمام مليشيا القبائل وإثيوبيا، ليقرروا تفكيكَ معسكراتهم وتسريح مليشياتهم، وتعود علاقتها بتنظيم القاعدة إلى التاريخ نفسه أوائل التسعينيات، عندما استولت على مدينة «لوق» وأعلنتها إمارة إسلامية، وأنشأت بها معسكرات تدريب للقاعدة. ويعتقد أنها دُمِّرتْ بعد أن شنَّت القوات الإثيوبية هجومًا عنيفًا على المدينة عام 1996.

حركة الشباب

تعدُّ حركةُ الشباب من أخطر الحركات الإرهابية في القرن الإفريقي التي انفصلت عن اتحاد المحاكم، وأعلنت سعيها إلى إقامة دولة إسلامية، ثم أعلنت ولاءَها لتنظيم القاعدة، وشنَّت حربًا مفتوحة ضدَّ الحكومة الانتقالية؛ فسيطرت على الكثير من البلدات والمدن الإستراتيجية، ومع توالي مكاسبها على الأرض تدخلت الإدارة الأمريكية ووجهت لها ضرباتٍ جويةً مُركَّزة، وجرى تصنيفها على أنها منظمةٌ إرهابية في 13 مارس 2008.

ومع الجرائم الإرهابية الكثيرة التي اقترفتها في الداخل الصومالي، فإنَّ الهجمات التي شنَّتها في دول الجوار (أوغنـدا - كينيـا) أكَّدت المعلومات التي وردت إلى بعض أجهزة الأمن المختلفة حول ضلوعها في التدريب البدني واللوجستي لأفراد جماعتي (بوكو حـرام - الهجـرة)، حيث أظهرت تلك الجرائم مدى اتـساع نطـاق عملياتها وقـدرتها علـى التجنيـد وإبرام التحالفات العابرة للحدود التي مكَّنتها من تنفيذ جرائم أوســع نطاقًا وتأثيرًا هدفُها زعزعـــة الاســتقرار في القارة الإفريقية كلِّها.

وقد دخلت الحركة في معارك عنيفة عانت البلاد فيها من الحرب الأهلية والأوضاع المعيشية الصعبة، وبدأ نشاطها ينحصر بداية عام 2011 بعد إجبار مقاتليها على الانسحاب من مناطق «جدو» الحدودية، ودخولها في نزاعات مع المليشيات العشائرية ومع تنظيمات أخرى مثل تنظيم أهل السنة والجماعة، الأمر الذي تسبَّب في انشقاقات بين قادة الحركة، وتقهقر كبير لقواتها من المدن الرئيسة، ومع ذلك ما زالت تنشط في مناطق ريفية شاسعة في وسط الصومال وجنوبه، وتشكِّل تهديدًا كبيرًا للسلطات ولذا فقد أعلنت الحكومة الحالية في 15/6/2022 عن حملة عسكرية وشعبية ضدها أدت إلى دحرها وتحرير أقاليم كثيرة منها، وخاصةً هيرشبيلا، وجلمذع.

داعش الصومال

تنظيم داعش في الصومال، جماعةٌ تابعة لتنظيم داعش الإرهابي، وإحدى الخلايا المنفصلة عن حركة الشباب، تتمركز في المناطق الجبلية في «بونتلاند»، أسسها «عبد القادر مؤمن» الذي تعهَّد بالولاء لأبي بكر البغدادي في أكتوبر 2015؛ وتمكَّن من السيطرة على منطقة صغيرة في المناطق الجبلية النائية شمال الصومال. ويُذكر أن هذا التنظيم يحصل على الكثير من تمويله عبر الابتزاز؛ إذ يعمد إلى معاقبة رجال الأعمال والمدنيين الذين لا يدعمونه ماليًّا ولا يوفِّرون له الإمدادات بخطفهم واغتيالهم، وقد نفَّذ الكثير من الجرائم، حيث أعلن مسؤوليته عن شنِّ 32 هجومًا في مقديشو وأفجوي عام 2022. ووُجهت إلى عناصره تهمٌ كثيرة منها نقل الأسلحة إلى اليمن وشرق إفريقيا، والمشاركة في أنشطة غير قانونية، بما في ذلك القرصنة والجرائم البيئية. واستطاع الجيش الأمريكي بمساعدة السلطة المحلية في يناير عام 2023 توجيه ضربة دقيقة إلى مجمع كهوف جبلية في شمال الصومال، أسفرت عن مقتل عدد من الإرهابيين، منهم بلال السوداني المتهم بدعم القدرات العملياتية لعناصر داعش في جميع أنحاء العالم، وتكوين شبكة عابرة للحدود تنتشر في وسط إفريقيا وشرقها.

وختامًا

إن بروز كيانات مسلَّحة كثيرة في مناطق متفرقة من الأراضي الصومالية هو نتيجة أساسية للحرب الأهلية التي انطلقت في بداية التسعينيات، وهو ما أوجد بيئة خصبة لنمو الجماعات الإرهابية الكبيرة وانتشارها، كتنظيم «داعش» و«القاعدة»، وإن أسباب الحرب الأهلية في الصومال لا تختلف في جوهرها عن الأسباب المؤدِّية إلى انتشار الصراعات في أيِّ دولة إفريقية أخرى، فغياب الدولة الواحدة بجيشها الوطني الواحد، وانتشار الفوضى، وتدمير البُنى التحتية، وتعدد الولاءات، واستشراء التعصب القبلي والديني، وغياب التنمية، وانتشار الفقر، وتعدُّد الفصائل والمليشيات العسكرية؛ كلُّها عوامل تُكرس الانهيار، وتضع المجتمعين الدولي والإقليمي أمام تحدٍّ حقيقي يستلزم إرادة حرة لإعادة بناء الدولة على كلِّ المستويات بعيدًا عن الأجندات الخاصة.