حريةُ التعبير لا تُبيح للمرء التلفُّظَ بما يشاء، متى شاء وأينما شاء! فلا يحقُّ لأحدٍ أن يصرخَ بكلمة: «حريق» أو «قنبلة» داخل مسرحٍ أو في طائرة. ومن يمزح بمثل ذلك يعرِّض نفسَه للعقاب بغرامةٍ أو سَجن. وما سُنَّتِ القوانينُ لضبط حرية التعبير إلا لحماية الناس في حياتهم الواقعية أو عبر مواقع تواصُلهم الاجتماعية. وعلى الرغم من المزايا الإيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي، إن لها آثارًا سلبية مشهودة، ومنها: انتشارُ رسائل الكراهية، والتحريضُ على العنف، بطرقٍ جديدة لم تكن معهودة. ويعزِّز تلك السلبياتِ سوءُ فهم بعض المستخدِمين لوسائل التواصل لمفهوم حرية التعبير.

حرية التعبير
حريةُ الرأي والتعبير حَجَر زاويةِ حقوق الإنسان، وركيزةٌ مهمَّةٌ في المجتمعات الديمقراطية الحرَّة. وتدعم هذه الحرياتُ الحقوقَ الأساسية والرئيسة، مثل: التجمُّع السِّلمي، والمشاركة في الشؤون العامَّة، وحرية الاختيار الشخصي (الحرية الفردية). وقد عزَّزت الوسائل الرَّقْمية ولا سيَّما وسائلِ التواصل الاجتماعي، حريةَ المستخدِمين في تداول المعلومات والأفكار تلقِّيًا ونشرًا، لكنَّ سوء ممارسة حرية التعبير في نشر خطابات الكراهية ألجأَ إلى وضع ضوابطَ لتكون صِمَامَ الأمان للأفراد والمجتمعات، وهذه الجهودُ التشريعية لتنظيم حرية التعبير تُثير المخاوفَ من التأثير سلبًا في المجال الحقوقيِّ داخل المجتمعات الحديثة.

تنصُّ المواثيق الدَّولية لحقوق الإنسان على حقِّ كلِّ فرد في حرية الفكر والتعبير، إلا أن الدول تُصدِر قوانينَ تقيِّد أو تحظُر بعض أنواع التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي، كالخطابات التي تشجِّع على الكراهية والعنف.

ويطالب المدافعون عن حرية التعبير بمجالاتٍ مفتوحةٍ لتداول الأفكار دون تقييدٍ لحرية الرأي، ويبيِّن المتخصِّصون أهمَّ الأسباب الرئيسة لتقديرهم هذه الحرية، وهي:
  • لأن القدرةَ على التعبير عن الآراء تجعل المواطنَ حرًّا ومستقلًّا.
  • لحماية الديمقراطية والمحافظة على مبادئ الليبرالية.
  • للحاجة إلى التحدُّث في السياسة والقانون بحرية؛ لاتخاذ قراراتٍ تتعلَّق بوسائل التصويت، ومحاسبة أصحاب السُّلطة، ومناقشة الأمور الشائكة في السياسة والمجتمع.
لكنَّ بعض الباحثين المختصِّين يرَون أن خطاب الكراهية قد يسبِّب مشكلاتٍ معقَّدةً توصل إلى القضاء على حرية الرأي، ويصرُّون على أهمية تقييد هذا الخطاب في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لحماية الأقلِّيات من التنمُّر والاحتقار والضَّرر والاضطهاد. ولا بدَّ قبل التقييد من الإجابة عن بعض الأسئلة المهمَّة، مثل:
  • ما خطابُ الكراهية، وكيف نقيِّده قانونيًّا؟
  • كيف نحدِّد المنطقة الرمادية بين حرية التعبير وخطاب الكراهية؟
  • مَن السُّلطة المؤهَّلة والمخوَّلة تقييدَ حرية التعبير؟
  • ما نوعُ الكلام الذي يمكن تقييدُه، وكيف نقيِّده في مِنصَّات التواصل الاجتماعي؟ 
ممارساتٌ ومآلاتها
إن الأساليب التي تستخدمها الجماعاتُ العنصرية في نشر خطاب الكراهية اليوم في الشَّابِكة ووسائل التواصل ليست جديدة؛ فالطريقُ إلى التطرف اليوم مشابهٌ للطريق الذي سلكه الفاشيُّون والنازيُّون في أوائل القرن العشرين؛ إذ استخدموا الوسائلَ المتاحة لهم آنذاك كالمِذياع والتِّلفاز؛ لنشر رسائلهم العنصرية، والعبث بمشاعر المواطنين، وتخويفهم من تأثير المهاجرين والأقلِّيات واليهود؛ في بلدهم ووجودهم، وأُسَرهم وأسلوب حياتهم. 

وفي ألمانيا النازية لم يبدأ النازيُّون صعودَهم إلى السُّلطة بالخطابات العنيفة والقتل، بل بخطاباتٍ نمطية متكرِّرة تغيِّر الحقائقَ وتزيِّف الواقع وتشحن النفوسَ وتهيِّج الجماهير، وما أشبهَ ممارساتِ الأمس بممارسات اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن أبرزها: 

1. إخفاء الهُويَّة
تسمح وسائلُ التواصل الاجتماعي للجميع بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم وتوجُّهاتهم، وأن يكونَ لهم صوتٌ مسموع. وهي طريقةٌ ديمقراطية لحرية التعبير، وإيصال الرؤى والأفكار إلى الآخرين. 

ولكلِّ مستخدِم لمواقع التواصل الاجتماعي خِياران: استعمال الهُويَّة الحقيقية، أو استخدام اسمٍ مستعارٍ ليكون مجهولَ الهُويَّة. وقد يميل المستخدِمون مجهولو الهُويَّة إلى التعبير عن آراءٍ مندفعةٍ خارجةٍ عن الأخلاق والقوانين، كالسبِّ والقذف والاحتقار والتضليل والتشهير؛ لأنهم من وجهة نظرهم، لا يتحمَّلون أيَّ مسؤوليةٍ أخلاقية أو قانونية، أمَّا أصحابُ الهُويَّة المعروفة فيكونون في الغالب مسؤولين عن منشوراتهم أمام الجميع. 

2. نشر الأخبار الزائفة
إن حرية التعبير المطلَقة سيفٌ ذو حدَّين؛ فهي تشجِّع الناس على الإدلاء بآرائهم دون خوفٍ من عواقبَ غير عادلة، ولكنَّها تُتيح فرصةً لأولئك الذين يريدون نشرَ معلوماتٍ مضلِّلةٍ لإثارة البلبلة وزعزعة السِّلم دون التعرُّض للعواقب. وفي غالب الأحيان لا يوجد قانونٌ يُجرِّم مشاركةَ المعلومات الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، ممَّا يؤدِّي إلى كثرة المعلومات المضلِّلة فيها.

والأخبارُ الزائفة هي معلوماتٌ خاطئة، أو مُمَوَّهة، أو غير دقيقة، وكثيرًا ما تكون تصريحاتٍ كاذبةً عن وقائعَ تشغل الناس، قد تؤدِّي إلى نتائجَ كارثيةٍ داخل المجتمع؛ كالتصريحات والتعليقات التي زعمَت تزوير نتائج الانتخابات الأمريكية بعد انتخابات 2020م، وأثرها السلبي في المجتمع الأمريكي، وما سبَّبته من انقسام فعليٍّ داخل المجتمع، ومظاهراتٍ وأعمالِ شغبٍ واعتداءٍ على مبنى الكونجرس.

ومعظمُ (ضحايا) الأخبار الزائفة هم الذين لا يستطيعون التحقُّقَ من صحَّة المعلومات التي يقرؤونها، وربما يعتقدون أن كلَّ ما يُنشَر صحيح. 

3. الاضطهاد الرَّقْمي
تستهدِفُ التعليقاتُ على مِنصَّات التواصل الاجتماعي غالبًا الفئاتِ الضعيفةَ؛ كالنساء والأقلِّيات العِرقية والجنسية والدينية. ولا تزال جمعياتٌ وهيئاتٌ كثيرةٌ تدعو شركات التقنية إلى اتخاذ إجراءاتٍ صارمة بحقِّ من يمارسون الاضطهادَ الرَّقْمي.

وقد أصدرت جميع المنصَّات قوانينَ داخليةً للتصدِّي للكراهية؛ فشركة (فيسبوك) على سبيل المثال تَعُدُّ خطابَ الكراهية هجومًا مباشرًا على المستخدِمين؛ استنادًا إلى الخصائص الشخصية المحمِيَّة، كالعِرق والأصل القومي والهُويَّة الجنسية. وتنصُّ السياسة الرسمية (لتويتر) أيضًا على التزامها مكافحةَ إساءة الاستخدام والكراهية والعنصرية. ولدى جميع الشركات فِرَقٌ مختصَّة تعمل على مدار الساعة لمراجعة التقارير والمساعدة في تطبيق القواعد باستمرار.

الكراهية والعنف 
ممَّا تقدَّم نرى أن عصر وسائل التواصل الاجتماعي أتاح سهولةَ نشر أيِّ خطابٍ أو محتوًى عبر الشَّابِكة بلمسةٍ واحدة دون التفكير في العواقب. وغدَت مواقعُ التواصل الاجتماعي مَيدانًا رئيسًا للكراهية تحت غطاء الحرية، وشواهدُ ذلك كثيرة، منها: نشاط العديد من الجماعات الآرِيَّة العنصرية بنشر دعاية التفوُّق العِرقي للبِيض، وبثِّ رسائلهم وكراهيتهم، وزعزعة السِّلم المجتمعي. وعندما تصل خطاباتُهم إلى العوامِّ، قد تتحوَّل من كلماتٍ في العالم الافتراضي إلى عنفٍ على أرض الواقع.

وأظهرت عدَّةُ أحداثٍ في السنوات الأخيرة أن الكراهية التي تبدأ في الفضاء الرَّقْمي قد تؤدِّي إلى مآلاتٍ كارثية في الواقع، ومن ذلك:
  • «ويد مايكل بيج» المتعصِّب للعِرق الأبيض الذي قتلَ ستَّة أشخاصٍ في معبدٍ للسِّيخ في «ويسكونسن» عام 2012م، بدأ نشاطه في المنتديات الآرِيَّة العنصرية الإلكترونية.
  • «ديلان ستورم روف» تطرَّف ذاتيًّا على مواقع التواصل، قبل أن يقتلَ تسعة أشخاصٍ في كنيسةٍ للسُّود في جنوبيِّ «كارولينا» عام 2015م.
  • «روبرت باورز» قتل 11 مُسِنًّا من المصلِّين في كنيس في «بنسلفانيا»، وكان ناشطًا على موقع Gab اليميني، وهو موقعٌ يشبه (تويتر) يستخدمه أنصار تفوُّق البِيض العنصريين.
ولمَّا كانت الآراءُ في الفضاء السِّيبراني الرَّقْمي قابلةً للتحوُّل من الكراهية في العالم الافتراضي إلى العنف الحقيقي على أرض الحياة الواقعية، جاءت ضرورةُ التقنين لمواجهة التنمُّر والمضايقات والتهديدات الحقيقية بالعنف للأفراد والمؤسسات.

تحدِّيات التقنين
تحمي معظمُ دساتير البلدان حريةَ التعبير، وكذلك هي مَحميَّة في المعاهدات الدَّولية لحقوق الإنسان، وعلى الرغم من هذه المعاهدات لا توفِّر كثيرٌ من البلدان حمايةً حقيقيةً لحرية التعبير في الأماكن العامَّة أو على مواقع الشَّابِكة ومِنصَّات التواصل. وتتطلَّب محاربةُ خطاب الكراهية فيها فهمَ الفرق بين حرية التعبير المشروعة المضمونة بالقانون، وبين خطاب الكراهية البغيض المرفوض. 

ومن تحدِّيات تقنين خطاب الكراهية في مواقع التواصل أنه قد يُتَّخَذ ذَريعةً للأنظمة القمعية؛ لتقييد حقوق مواطنيها تقييدًا أشدَّ وأكبر، وذلك لأن تعريفَ الكراهية يختلف بين بلدٍ وآخر، وبين ثقافةٍ وأُخرى. وتُعَدُّ إشكالية التعريف من أبرز التحدِّيات أمام معالجة هذا الخطاب وتقنينه؛ إذ ليس لدينا تعريفٌ متَّفق عليه ومعترَف به دَوليًّا لخطاب الكراهية؛ لارتباط مفهومه بعدد غير قليل من القضايا القانونية؛ مثل: حرية الرأي والتعبير والتمييز، أو التحريض على التمييز والكراهية، أو الحث على العَداء والعنف، وينبغي الإحاطةُ بها ومراعاتها جميعًا عند وضع تعريف دقيق وموضوعي لخطاب الكراهية.

ويصعُب حلُّ قضايا حرية التعبير وخطاب الكراهية في المحاكم؛ فغالبًا ما تُرفَض الدَّعاوى القضائية التي تُرفَع على شركات التواصل الاجتماعي من طرف أفرادٍ أو مؤسساتٍ تزعم انتهاكَ حريتها في التعبير، أو تدَّعي تعرُّضَها للكراهية والتنمُّر. والسببُ الرئيس لصعوبة عمليات الفصل في هذه القضايا هو أن مِنصَّات التواصل الاجتماعي مملوكة لشركاتٍ خاصَّة، وذلك يجعلها غيرَ تابعةٍ للدول، ولا تخضع لحماية حرية التعبير المنصوص عليها في القانون. 

لهذا؛ فإن أولئك الذين ينشرون على مِنصَّات التواصل الاجتماعي ليس لديهم الحقُّ نفسه في حرية التعبير، ويحقُّ للشركات المالكة للمِنصَّات تقنينُ التصرُّفات السلوكية تبعًا لقوانينها الداخلية، ولها أن تحظُرَ من تريد كما فعلت شركة (تويتر) مع الرئيس دونالد ترامب وآخرين.

وختامًا نقول: إن تنظيم محاربة خطاب الكراهية في الفضاء الرَّقْمي هو أحدُ التحدِّيات الرئيسة التي تواجه الدول اليوم. ونظرًا لتعقيد القضية، فإن المراقبةَ الدقيقة للمبادرات التشريعية الجديدة ضروريةٌ؛ لتقويم حالة التوازن بين حماية حرية التعبير وحظر خطاب الكراهية. 

ومن أجل أن تتمَّ هذه المراقبة على الوجه المطلوب، يجب على شركات مواقع التواصل الاجتماعي أن تكون صريحةً بشأن المحتوى الذي تحظُره، وأن تجعلَ بياناتها متاحةً للباحثين والجمهور الواسع من أجل الاطِّلاع والتدقيق.