نتجَ عن التفاعل العالمي بشأن انتقال الأفراد طوعيًّا أو قسريًّا عن طريق الهجرة أو اللجوء السياسي، ردودُ أفعال متبادلة بين الشعوب المستضيفة وبين النازحين، حيث تبلور سلوك احتقار الآخر وكراهيته والخوف منه على نحو غير مسبوق، فعولمة هذه الكراهية دفعت منظمةَ الأمم المتحدة إلى تسخير الإمكانيات لمحاصرة مظاهرها ولا سيَّما الخطابات المحرِّضة على ارتكاب جرائم الكراهية والتمييز والعنصرية.

تتفق جُلُّ المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية على عدِّ خطاب الكراهية ومعاداة الآخر خطابًا يستهدف المسَّ بكرامة الإنسان، عبر استعمال أساليب الاحتقار والإهانة والسبِّ والتنقيص، واللجوء إلى العنف اللفظي والمادي المباشر كالضرب والقتل؛ ذلك كله بسبب شعور بالتمييز عن الآخرين لدواعي دينية أو عرقية أو مذهبية أو غير ذلك. ونتيجةً للاهتمام الكبير بمحاولة تقويض خطاب كراهية الآخر على مستوياته كلِّها، يأتي هذا المقال ليلقي الضوء على مداخل ومقاربات نظرية مهمة في محاولة تفكيكه ومحاصرة أدواته ومسبباته.

نظرية الاستبدال

تعدُّ نظرية الاستبدال العظيم من المصادر الفكرية المعاصرة لشيوع خطاب الكراهية والتمييز، وقد تبنَّتها مجموعةٌ من أحزاب اليمين المتطرف في الغرب، ومنهم حزبُ البديل من أجل ألمانيا، واليمين البديل الأمريكي، وأحزاب اليمين في هولندا وإيطاليا والدول الإسكندنافية، وكذلك منظمات التكتل الهوياتي. ويتبنى هذه النظرية كذلك، السياسي الفرنسي «إريك زمور» المعروف بمواقفه المتشددة ضدَّ المهاجرين والمسلمين، وقد أثَّرت هذه النظرية أيضًا في سفاح نيوزيلندا؛ وأدت إلى الهجوم على مسجدي «كريست تشيرش» وقتل نحو 50 مسلمًا عام 2019.

وتعود نظرية الاستبدال العظيم للكاتب الفرنسي «رونو كامي» الذي يعتقد بأن النمو السكاني في أوروبا سيكون لصالح المهاجرين، وسيختفي بذلك الإنسان الأوروبي الأبيض، وبأن هناك جهةً خفية أو حكومة عالمية، تسعى إلى محق الخصوصيات الثقافية والدينية والعرقية، من أجل تشكيل نظام عالمي جديد قائم على الاستهلاكية، يكون فيه البشر قابلين للإخضاع والعبودية الجديدة.

ويرى « رونو كامي» أن المجتمع الفرنسي مهدَّد بسيطرة المهاجرين عليه، ولا سيّما المسلمين، ومن ثَم القضاء على ثقافته المسيحية والعلمانية. ولا شك أن هذه الأفكار المتطرفة تحرِّض على نبذ الآخر الأجنبي، وتدعو إلى طرده، مما يوجد حالة من التوتر في المجتمع، ويقوِّض السِّلم الاجتماعي. ويتجاهل «كامي» تاريخ الاستعمار الفرنسي القديم والجديد لإفريقيا، وأن المسلمين لا يشكِّلون سوى %7 من المجتمع الفرنسي، وأشار إلى ذلك أيضًا «باتريك سيمون» مدير البحوث في المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية.

 يبدو أن هذه النظرية هي بيان للتوجه المتطرف الذي تتبناه تيارات اليمين المتطرف، وهي تلتقي مع نظريات المؤامرة الأخرى، وكذلك أطروحة صِدام الحضارات؛ لذا فإن خطاب الكراهية -ولا سيَّما في الغرب- يستقي مصادره من عدة روافد فكرية وأيديولوجية مناهضة لوجود الآخر المختلف عنهم. ومن المفارقات أن الهندوس يبررون خوفهم من المسلمين استنادًا إلى نظرية الاستبدال العظيم، علمًا بأن الأغلبية في الهند هم من الهندوس.

أرقام مقلقة

كشف مركز «دراسة الكراهية والتطرف» في جامعة كاليفورنيا ومنصة (Voanews) ارتفاعَ نسبة جرائم الكراهية أمريكا في منتصفَ 2022. وتستهدف هذه الجرائم العرق الآسيوي، ولا سيَّما بعد جائحة كورونا، إضافةً إلى الجرائم التي استهدفت السود بعد مقتل «جورج فلويد». وتشير الدراسات الاستشرافية إلى توقُّع استمرار تصاعد موجات الكراهية في المجتمع الأمريكي والاتحاد الأوروبي على الرغم من وجود «تشريعات مهمة».

وأشارت دراسة عن «خطاب الكراهية وجرائمها في الاتحاد الأوروبي» عام 2020، صادرة عن البرلمان الأوروبي؛ إلى ارتفاع مؤشرات جرائم الكراهية واتساع دائرتها، لتشمل كذلك الإنترنت، مع العلم بأن عددًا مهمًّا من الحوادث لا يُبلَّغ عنه. كما صدر عن اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب توصيات مهمة منها توصية السياسة العامة رقم 15، لسنة 2016؛ حيث جاء في بندها التاسع: «إلغاء أيِّ دعم مالي وغير مالي تقدِّمه هيئات عمومية للأحزاب السياسية والمنظمات التي تستخدم خطاب الكراهية، أو تلك التي لا تعاقب أعضاءها الذين يمارسون خطاب الكراهية، مع احترام الحق في حرية تكوين الجمعيات. وكذلك إمكانية حظر هذه المنظمات أو حلِّها، سواء كانت تتلقَّى دعمًا أو لا تتلقى أيَّ دعم من هيئات عمومية، عندما يكون الغرض من استخدامها لخطاب الكراهية هو التحريض على ارتكاب أعمال العنف والتخويف والعداء، أو التمييز ضدَّ الأشخاص المستهدفين، أو يمكن التوقُّع أن يكون له هذا التأثير على نحو معقول».

المدخل الفكري

ولهذه الاعتبارات فإن المقاربات النظرية ومداخل التصدي لخطابات احتقار الآخر وكراهيته، يجب أن تكون متعددة وميسرة للتطبيق والتنفيذ على أرض الواقع، ومن بينها المدخل الفكري؛ حيث إنَّ هناك حاجةً إلى تفكيك الأُسس التي يستند إليها المروّجون للعنصرية والاستعلاء العرقي أو الديني أو الهوياتي.

 فقد اهتمت دراسات ما بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية بدحض مقولات العنصرية وخطابات الاستعلاء، ونقد مركزية الإنسان الغربي، ومفاهيم التفوق الثقافي، وادعاء احتكار الحقيقة والعلم، وتبرير استعمار بعض الدول بالقيام بمهمة نقل الحضارة ومواجهة التوحش والبربرية والتخلُّف والجهل.

 ومع تعدد منطلقات هذا المدخل، فإنَّ استثمار بعض أفكارها الداعية إلى تقويض خطابات التطرف والانغلاق الهوياتي، وتراتبية الثقافات وديكتاتورية بعض العقول؛ قد يُسهم في تقليص حجم انتشار خطابات الكراهية التي تستند إلى إطروحات فكرية متهافتة.

وفي الوقت الراهن، هناك حاجةٌ ماسَّة لصياغة سياسات للتحصين الفكري ضدَّ هذا النوع من الخطابات، سواء عبر جعل السياقات المجتمعية غير مواتية لانتشاره، أو علاج المروجين للعنصرية، وتصحيح رؤيتهم الفكرية والأيديولوجية، وغرس قيم التعايش السِّلمي والاعتدال لديهم بالتوازي مع عمليات إعادة تأهيل الفاعلين ودمجهم اجتماعيًّا، وتفكيك معتقداتهم الراديكالية.

المدخل المعرفي

ويمكن الاستفادة من «مدرسة تحرير المعرفة» في تفكيك خطاب الكراهية؛ حيث صُمِّمت المعرفة الغربية لكي تكون معيارَ المعرفة الإنسانية، وهذا يلغي حقَّ الشعوب والثقافات الأخرى في تأسيس معرفة مستقلَّة ومختلفة ومتباينة عن الفكر الغربي المهيمن. وهذه «الممارسة المعرفية» تُسهم في تغذية خطابات الاستعلاء الثقافي للمجموعات الدينية والهوياتية المنتمية للغرب التي تدَّعي حقَّ التميز والتفوق على غيرها من الثقافات العالمية.

وهذا المدخل المعرفي من شأنه بناء جسور التواصل بين الثقافات، وتكريس الاحترام بين أتباع الديانات والمنتمين إلى القوميات المتعددة؛ ذلك أن التهميش والإقصاء على المستوى السياسي في السياق المعاصر، يستند إلى ادعاء التمثيل الحصري للمعرفة دون الآخرين. ولكن بناء عالم متكافئ يسوده الاحترام والتعاون والتضامن، دون تحرير المعرفة المهيمنة من تجهيزاتها الفكرية والأخلاقية والقانونية والسياسية؛ غيرُ ممكن، ومن دون جدوى.

وقد أسهمت بعض الكتابات في تحرير المعرفة ونقد العنصرية ومنها كتاب «إزالة الاستعمار من السياسة والنظريات من أبيا يالا» لمجموعة من الكُتَّاب من أمريكا اللاتينية والصادر عام 2022، من الكتب التي تروم إنهاء الاستعمار المعرفي. وقد أسهم بالفعل عالم الاجتماع الكولومبي «أورلندو فالنس بوردا» عبر كتابه «الاستعمار الثقافي والعلم النقي» في انتشار المقاربات الأكاديمية الجديدة في الجامعات الإفريقية والآسيوية، لتحرير المعرفة، ومن ثَم اتساع دائرة نقد مقولات العنصرية وكره الأجانب، والتعصب والانغلاق الهوياتي، ومقولات الشعوب غير المتحضرة، و«البربرية»، و«الموحش»، و«الأسود»، و«الآخر»، وغير ذلك من أشكال التهميش والازدراء والتعالي.

المدخل التشريعي

 يُعدُّ مدخل التشريع من أهم المداخل المعتمدة لدى الأمم المتحدة في حثِّ الحكومات على مواجهة ظاهرة الكراهية، وقد أشارت خطة عمل الرباط، بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكِّل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف، المعتمدة بتاريخ 5 أكتوبر 2012؛ إلى خلل تشريعي في المنظومات القانونية الوطنية.

وقد أبرزت النقاشات في مختلف حلقات العمل عدم وجود أيّ حظر قانوني للتحريض على الكراهية في العديد من الأطر القانونية عبر العالم. علاوةً على ذلك فإن التشريعات التي تحظر التحريض على الكراهية تستخدم مصطلحات متفاوتة، وهي غالبًا غير منسجمة مع المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فكلما توسع تعريف التحريض على الكراهية في القوانين الوطنية، ازدادت الاحتمالات لفتح باب التطبيق التعسفي.

كما سُجّلت ملاحظات أخرى تتعلق بالتفاوت بين البلدان في استعمال المصطلحات المتعلِّقة بالتحريض على الكراهية، مما يؤدِّي إلى الوقوع في تفسير مغلوط للمادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية، ولاحظت خطة عمل الرباط، أن بعض الدول لا تُجرِّم التحريض على الكراهية، إلا ما تعلَّق بأمور العنصرية والعرقية، ومن ثَم فإن هناك تباينًا في المقاربات الوطنية في تأكيد تجريم التحريض على الكراهية. ومع وجود حظر للتحريض على الكراهية في المنظومة الحقوقية الدولية، حيث إن المادة الرابعة من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري تؤكِّد ذلك؛ فإن خطة عمل الرباط، وتجنبًا لتقييد الحريات، أوصت من حيث المبدأ العام بأهمية التمييز بين ثلاثة أنواع من التعبير: التعبير الذي يشكِّل جريمة، والتعبير الذي لا يستحق العقاب جنائيًّا، والتعبير الذي لا يستدعي أيَّ عقوبات جنائية أو مدنية أو إدارية مع كونه مثيرًا للقلق بشأن التسامح واحترام حقوق الآخرين. ولهذا دعت خطة عمل الرباط إلى ضرورة اعتماد تشريعات شاملة تتضمَّن إجراءات وقائية وعقابية من أجل مكافحة التحريض على الكراهية بطريقة ناجحة. واعتمدت الخطة أيضًا ستة معايير لتحديد أشكال التعبير المحظورة جنائيًّا، وهي: السياق، والمتكلم، والنية، والمحتوى أو الشكل، ومدى الخطاب، والرُّجْحان. وهي معايير تساعد الهيئات القضائية في تقييم الكراهية ومدى خطورتها وتجريمها.

المدخل التربوي

ويبدو جليًّا أن اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب، قد ضمَّنت توصياتها جوانب متعددة، ومن ذلك البعد التربوي والتعليمي بوصفه أداةً فعالة لمواجهة خطابات الكراهية. لكن يلاحظ في الشهور الأخيرة استمرار بعض الدول الأوروبية في اعتماد سياسات ضدَّ المهاجرين وأنماط تدينهم بدعوى حماية القيم العلمانية، مثل عدِّ رموز التدين في المدارس أمرًا مرفوضًا، مما يكرِّس المزيد من الكراهية.

لذا فإن هناك حاجةً ملحَّة لاعتماد سياسات تعليمية وتربوية في أوروبا وأمريكا الشمالية تحرص فعلًا على احترام التنوع الديني والثقافي، ومن المعلوم أن تقرير «لجنة البندقية» (اللجنة الأوروبية للديمقراطية عبر القانون) اهتمَّ بمسألة التحريض على الكراهية الدينية، ونبَّه، بعد دراسة مختلف التشريعات الأوروبية المرتبطة بالإساءة، إلى ضرورة مواجهة الكراهية الدينية. ولهذا فإن السياسات التعليمية يجب أن تنصَّ على التعريف بالأديان، واحترام قواعد الاختلاف، تفاديًا لآفات الإساءة إلى المشاعر الدينية.

المدخل الإعلامي

يمكن للإعلام بكلِّ طرقه وأطيافه أن يُسهم في تشكيل فضاء للحوار والتعارف، بعيدًا عن اللغط والتضليل وتأجيج الناس وإثارة الفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية. وهناك دراسات عدة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) ومنظمات أخرى عن الاستعمال السيئ للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لخطابات ضدَّ الآخر، سواء كان مسلمًا أو إفريقيًّا أو عربيًّا، أو كان مختلفًا عن ثقافة المروج لخطاب الكراهية، ومن ثَم فإنَّ هناك دعوةً لحظر المحتويات غير الأخلاقية التي تسيء إلى حرمة الآخرين من دون تمييز.

وقد بات من الواجب على المؤسسات الإعلامية وغيرها من الفاعلين المعنيين العمل على زيادة الوعي بأثر خطاب الكراهية في المجتمعات، وتعزيز مهنية الإعلام والمنظمات الإعلامية لتحليل خطاب الكراهية، والإبلاغ عن الأفعال الإجرامية المرتكبة في هذا الإطار.

وختامًا:

تعدُّ توصيات «مسار المنامة» 2018 مرجعيةً مهمةً لسُبل التصدي لخطاب كراهية الآخر، وعلامة بارزة لتفعيل العمل الثقافي الإسلامي المشترك لمواجهة التطرف والطائفية والإرهاب من مختلف المداخل، ومنها: التربوي والحقوقي التشريعي والإعلامي والفكري وغيرها؛ إذ من شأنها بناء ثقافة التعارف الإنساني، وتكريس قيم التعاون والتضامن بين أفراد الأسرة خاصة والمجتمع عامة.