​أصبح السادسُ من يناير عام 2021م رمزًا لليمين المتطرف في الولايات المتحدة؛ ففي ذلك اليوم خرجت جماعات متطرفة في احتجاجات على ما ادَّعَوه من سرقة الانتخابات بمؤامرة نفَّذتها الدولةُ العميقة. وأمام هذه الدعوى غير المنضبطة لم يكن مهمًّا الفوز بفارق أصوات زاد على سبعة ملايين صوت، أو فِقدان الأدلَّة البيِّنة على تزوير الانتخابات. كل هذه الأدلة أو البراهين الدامغة تسقط أمام طوفان الخطاب التحريضي، الساعي لحشد الجماهير الغاضبة من المتطرفين اليمينيين المتمرِّدين على نتائج انتخابات 2020م، والساعين لإبطالها بالقوَّة.

ممارسات متطرفة

أظهر المتطرفون الجدُد من اليمينيين ازدراءهم للحكومة الاتحادية؛ بممارسات تحاكي التعصُّبَ الأعمى الذي أشعل الحربَ الأهلية الأمريكية ما بين عامي 1861 - 1865م، مثل: معارضتهم للمساواة والديمقراطية، وادِّعائهم الشعورَ بالإقصاء بسبب بيروقراطية الحكومة الاتحادية والضرائب التي تفرضها، وسيطرة النُّخَب الليبرالية، والتصريح بمخاوفهم من التهديدات المتوقَّعة بسبب عملية الإنتاج الحديثة عالية التقنية، والاعتماد على الإبداع التقني والانشغال بالكفاءة والخبرة.

وأكثرُ اليمينيين ممارسةً لما سبق وتمسُّكًا به هم الإنجيليون، وسواءٌ أكان المتطرفون اليمينيون دينيين أم عَلمانيين، فهم يميلون إلى تغليب العقيدة الفكرية على المنطق الواقعي، والهوى على العلم، والحدس على التفكير النقدي.

وقد اجتهد المتطرفون اليمينيون من قبلُ وعملوا بجدٍّ من أجل النجاح السياسي الذي حقَّقوه، فشاركوا في الانتخابات المحلِّية والوطنية التي كانت نسبةُ المشاركة فيها ضئيلة، والتي يمكن لأقلِّية منظَّمة أن تفوزَ فيها بمقاعدَ في مجالس المدينة وإدارات المدارس وغيرها.

وكانت بداياتُ هذا النشاط في نهاية الحِقبة الرئاسية للرئيس جورج بوش الابن، وبعد أن أُثقلَت البلادُ بآثار غزو العراق، والكساد الاقتصادي في عامي 2007 - 2008م، برزت حركةُ الشاي ذات الإطار الاقتصادي المحافظ، والتوجُّهات اليمينية المتطرفة، والميول الجمهورية في المشهد السياسي. وعقب تولِّي الرئيس أوباما الحكمَ في عام 2008م، واحتدام التنافس السياسي بين الحزبين، نما الخطابُ العنصري التحريضي وارتفع صوتُه، وأدَّى إلى ظهور مناخ يسودُه الاستقطاب، ويزدهر فيه اليمين المتطرف، وسَرعان ما أصبحت القوميةُ جزءًا من الحياة السياسية اليومية، وازدادت كراهيةُ الأجانب والمهاجرين.

أساطير وعقائد

يكوِّن الفكرُ الأسطوري نظرةَ اليمين المتطرف إلى العالم والحياة، وكلَّما تعمَّق اليمينُ في الفكر العقائدي أصبحت انتماءاته السياسية أكثر تعصُّبًا، ولا يسمح المتطرفون بنقد تصوُّرهم المشوَّه عن الولايات المتحدة الأمريكية، ويرَون أن العصر الذهبي مرتبطٌ بهيمنة الرجل الأبيض، وسيادة الديانة المسيحية، وباستمرار سيطرة أصحاب الأموال من الأثرياء والمُلَّاك، ويعتقدون أن الوعد بـالبحث عن السعادة عند إعلان الاستقلال كان موجَّهًا إليهم وحدَهم دون العمَّال وأصحاب البشَرة الملونة (السوداء والصفراء) والنساء والأمريكيين الأصليين (الهنود الحُمْر) والآسيويين وفئات الشعب الأُخرى.

وليسوِّغَ اليمينُ المتطرف تلك النظرةَ الخيالية، أصبح يفترض أن الفئاتِ المستغَلَّة والمحرومة من حقوقها سعيدةٌ بتلك الأوضاع، وخلَّدت الأعمالُ التقليدية (الكلاسيكية) للفنِّ الرجعي تلك الأسطورةَ في فِيلم «ميلاد أمة» (Birth of a Nation 1915) الذي يقدِّم روايةً تحتفي بجماعات «كو كلوكس كلان» المتعصِّبة جدًّا للرجل الأبيض، ورُويت حكاياتٌ مختلفة في الخفاء والعلن، وأُدرجَت في موادِّ المقرَّرات الدراسية؛ لترسيخ تلك القناعات وتأكيدها، وكوَّنت تلك الأعمالُ مجتمعةً نظرةً دونية عن المقصَين بسبب النوع أو العِرق أو الثقافة أو الحالة الاقتصادية، وكأنهم صِبيةٌ صغار غير راشدين يُتَّهمون بالكسل أو الضعف الشديد الذي يمنعُهم من السَّعي لتغيير أوضاعهم! وبذلك تفقد الفئاتُ المستضعَفة قيمتها وفاعليتها وحضورها الاجتماعي، ومسوِّغات اعتراضها على الظُّلم الواقع عليها والمحيط بها، وقدرتها على النهوض للمطالبة بحقوقها المنهوبة المسلوبة.

ويقتنع اليمينُ المتطرف بفكرة واحدة فقط، وكلَّما زاد تطرفهم أصبحت هذه الفكرةُ قناعة راسخةً لديهم لا يتزحزحون عنها؛ وهي أن عُصبةً شيطانية ماكرة سمَّمَت تلك العقولَ الضعيفة بأفكار المساواة المجنونة، وحرَّضَتها على التمرُّد على وضعها البائس المقدَّر لها. وسواءٌ قاد تلك المؤامرةَ شيوعيون أو ليبراليون فالأمران سِيَّان؛ لأن الخطر واحدٌ في الهجَمات التي تشنُّها الفئات المستضعَفة على حُكَّامها الشرعيين من الذكور البِيض المسيحيين المتفوِّقين، وما سينتج عن ذلك من دمارِ أعظم أمَّة على وجه الأرض.

ويؤمن اليمينُ المتطرف بأن العُصبةَ الأمريكية من أصول إفريقية أطلقت المجرمين في الشوارع، وفتحت الحدودَ الأمريكية لعصابات المهاجرين القادمين من مختلِف البلدان، ودمَّرت الروحَ المعنوية لأفراد الشرطة، والدليلُ على هذه المزاعم ليس مهمًّا؛ لأن الحقائقَ البديلة التي تزوِّر الواقع حاضرة دائمًا، وتقدِّمها قناة «فوكس نيوز» (FOX NEWS) وغيرُها من المؤسَّسات الإعلامية اليمينية؛ كالمواقع الإلكترونية للنازيين الجدُد التي أسهمت كثيرًا في نشر وابلٍ من المعلومات المغلوطة والمزوَّرة والمضلِّلة، فقسَّمت البلاد، وقوَّضَت الخطاب العاقل الواقعي، وأسَّست لواقع الاختلاف والتضاد، حتى لا يكاد يجتمع اثنان ويتفقان على الحقيقة.

عنف يميني

إن نأيَ اليمين المتطرف عن الخطاب التشاوري جعل العنفَ السبيلَ الوحيد لحلِّ النزاعات والخلافات، وأصبح ما يزيد على 500 مليون سلاح في قيد التداول والانتشار في عموم الولايات المتحدة. وفي أعقاب المئات من حوادث إطلاق النار الجماعية والفردية سعى الليبراليون وغيرُهم من اليسار إلى الحدِّ من بيع الأسلحة، ولكن باءت محاولاتهم كلُّها دون تحقيق أيِّ نجاح يُذكَر.

ولا تقتصر معارضةُ أيسر الإصلاحات، مثل: فرض الحظر على أسلحة (AK-47s) على اليمين المتطرف، بل يعارضها أيضًا عمومُ الناس من المحافظين. وإن الجدلَ المثار بشأن قوانين الحدِّ من انتشار السلاح لا يتعلَّق بحقِّ الأمريكيين الدستوري في حمل السلاح فقط، ولا سيَّما في ظلِّ وجود الكثير من الجماعات المتطرفة النشِطة في أرجاء الولايات المتحدة، بل يرتبط أيضًا بالقدرة على توظيف ذلك الجدل والحرِّيات الديمقراطية في القضاء على الديمقراطية.

وعقب حادثة السادس من يناير، أصرَّ منظِّموها، مثل: جماعة «الصبيان الفخورين» (Proud Boys)، وجماعة «حرَّاس القَسَم» (Oath Keepers) على أن الواقعة مجرَّد تجمُّع سِلمي ليس غير، في حين أصرَّ آخرون منهم على أنها من تنظيم مجموعة فوضوية مناهضة للفاشية اسمها «أنتيفا» (Antifa)‏، مع المناهضين للعنصرية المرتبطين بحركة «حياة السُّود مهمَّة» (Black Lives Matter).  ومع كلِّ ذلك زعم متطرفون يمينيون آخرون أن التمرُّدَ كان إشاعةً كاذبة لا حقيقةَ لها، وأنه لم يحدُث شيء على أرض الواقع، لكنَّ الحقيقة بلا ريب مغايرةٌ لجميع الدَّعاوى السابقة، والتمرُّدُ الذي وقع كان جزءًا من نمط جديد حاول المتطرفون اليمينيون به السيطرةَ على مجالس الولايات، واعتدَوا على مراقبي الانتخابات، واقتحموا منزلَ رئيس مجلس النوَّاب الأمريكي السيِّدة «نانسي بيلوسي»، وأصابوا زوجها بجروح، وحاولوا اختطافَ «جريتشن ويتمر» حاكمة ولاية ميتشيجن، وهجموا على معابدَ يهودية وكنائسَ للسُّود.

لقد تفشَّت معاداةُ السامية، وانتشر رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وأصبحت العنصرية جزءًا من الخطاب السياسي المعتاد، وزاد دويُّ دعَوات حجب التفسيرات النقدية للتاريخ الأمريكي والروايات غير المقبولة، خاصَّةً تلك التي كتبها مؤلفون من أصحاب البشَرة الملوَّنة. وتشهد الاضطراباتُ في اجتماعات مجالس المدن ومجالس إدارة المدارس والمظاهرات على كثرة وجود العصابات العنيفة في اليمين المتطرف. وقد نجح المتطرفون في الضغط السياسي والحزبي من أجل وضع خُطَّة تقوم على فرضية أن البِيض هم الأقلِّية المضطهَدة، واعتقاد أن مناهضةَ الهجرة تحافظُ على أسلوب الحياة الأمريكي، ومناهضةَ التفسيرات النقدية للتاريخ الأمريكي واجبٌ وطني، ودعمَ عقوبة الإعدام مهمٌّ لمحاربة الجريمة، ومناهضةَ محاولات تيسير التصويت ضروريةٌ لضمان انتخابات حُرَّة نزيهة، وخفضَ ضرائب الأغنياء وبرامج الرعاية الاجتماعية يوفِّر اقتصادًا يستفيد منه جميع المواطنين.

وتصبُّ سياسات اليمين المتطرف الجامحةُ في مصلحة الإنجيليين المسيحيين، وغيرهم من المتعصِّبين الدينيين، والقوميين البِيض، والمتطرفين من عُشَّاق حمل السلاح، والنازيين والمولعين بنظرية المؤامرة، وتفوق قوَّتهم أعدادَهم، مع أنهم أقلِّية في عموم الأمَّة؛ بسبب أساليبهم القائمة على الإثارة.

وفي الختام، نؤكِّد ضرورةَ اتخاذ حكماء السَّاسة مواقفَ مبدئية حازمة؛ لتعزيز السياسات الاقتصادية القائمة على المساواة، وتوسيع نطاق الحرِّيات المدنية، والدفاع عن الآثار المترتِّبة على سيادة القِيَم الليبرالية، فالجبنُ في مواجهة الفاشية هزيمةٌ للذات. ويجب على المسؤولين المنتخَبين ووسائل الإعلام وعامَّة الناس من أبناء الشعب تحديدُ كيفية التعامل مع العصابات اليمينية، والضغط على النظام القضائي لإدانة أفراد تلك العصابات والتضييق عليهم. كذلك لا بدَّ من الوصول إلى الشباب، وتوظيف الإعلام بأساليب مبتكَرة؛ لتمكين الناخبين المستقلِّين من معرفة حقيقة هؤلاء المتطرفين.