​تشتركُ تيَّاراتُ اليمين المتطرف وجماعاتُه المتفرِّعة عنها بصفات يَنظِمُها التعصُّب القومي والتحيُّز العِرقي؛ بدعوى الحفاظ على هُويَّة الدولة وثقافتها الخاصَّة، والتخوُّف من ضياعها من جرَّاء طوفان الهجرة غير الشرعية التي تُسهم في التغيير العِرقي والسكَّاني، فضلًا عن اعتبار الأفراد من الأصول غير الأوروبية أقلَّ تفوُّقًا وقيمة. ومن ثَمَّ تنظر هذه التياراتُ إلى الإسلام بوصفه تهديدًا للغرب وقِيَمه، فتُعارض إدماجَ المسلمين في المجتمعات الغربية؛ خوفًا من أثر ذلك في الهُوية الدينية والثقافة المجتمعية، وتستخدم العنفَ والتهديد لتحقيق أهدافها، وتتطلَّع إلى تمكين الدولة والسُّلطات الحاكمة لتعزيز قوَّتها.

اتِّفاق وافتِراق

لا تكوِّن تياراتُ اليمين المتطرف كُتلةً متجانسة تمامًا، ولا تملك برنامجًا موحَّدًا، ولم تخلُ تنظيماتها من عوامل الصراع والانقسام والتفكُّك؛ فكثيرًا ما نشِبَت خلافاتٌ وصراعات وتبادلٌ للانتقادات على التوجُّهات أو الشعارات فيما بينها. فمثلًا تنتقد بعضُ التنظيمات نظيراتها؛ لأنها لا تضَعُ العنصرية في لبِّ برامجها، أو لا تسعى إلى النضال على الأرض لتحقيق أهدافها. وتتراشَقُ في إقرار جَدوى انتهاج التطرف العنيف، وقدرته على إحداث الأثر المُتَوخَّى.

وفي الأعمِّ الأغلب يظهر أن تنظيمات اليمين المتطرف تشتركُ في العموميات وتتَّفقُ في الأهداف النهائية، إلا أنها تختلف دائمًا في الآليات وتفتَرِقُ في الوسائل، وقد يؤدِّي تبادلُ الانتقادات وتناقضُ التوجُّهات إلى بعض التصدُّعات والانشقاقات في صفوفها.

ويُلمَس أثرُ تناسل حركات اليمين المتطرف والأحزاب النازية وتفرُّعها في أوروبا وأمريكا؛ نتيجةَ اختلاف المنهجيات الحركية أكثرَ من اختلاف التوجُّهات الفكرية، فهناك تيارٌ يرى أن العنف والإرهاب ليس الحلَّ الأمثل ولا الأوحد، فيما يروِّج تيارٌ آخرُ للعنف والإرهاب على أنهما الوسيلة المُثلى لتحقيق أهدافه.

عنف أكثر

ألمَّت حُمَّى الخلافات والتصدُّعات بتنظيم يميني متطرف يعتمد التوجُّهات النازية في فكره وهيكله، وهو تنظيمُ «النازيين الجدُد»(The New Nazi)  الذي أُسِّس في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016م، وصنَّفَته دولٌ كثيرة منها كندا وأستراليا ونيوزيلندا منظَّمةً إرهابية. إذ لم تمضِ سنواتٌ قليلة حتى أعلنت مجموعةٌ من أعضاء التنظيم بكندا وأمريكا في عام 2018م، انشقاقها عن التنظيم، وتأسيسَ تنظيم جديد باسم «القاعدة» (The Base)، يؤمن بالفكر النازي ذاتِه مع تشدُّد أكبرَ بانتهاج العنف وسيلةً لإقامة مجتمع وطني متجانس. ومن جرَّاء هذا النهج العَدائي تورَّطت بعضُ فروع التنظيم في أعمال عنف وجرائم كراهية، منها تخطيطُها لتفجير مركز إسلامي في نيويورك، وعلى إثر جرائمه صُنِّف التنظيم منظمةً إرهابية أيضًا.

ولم يكن انشقاقُ الفرع عن الأصل إلا حصادَ اختلاف التوجُّه والسياسة المعتمَدة، وأساليب العمل ووسائله، ولا سيَّما الاختلافِ في مسألة الاستخدام الكثيف للعنف؛ سبيلًا وحيدًا لتحقيق أهداف التنظيم. في مقابل رؤيةٍ معارضة تذهب إلى أن تبنِّيَ العنف والإرهاب لن يساعدَ على تحقيق الأهداف، بل سيزيد من الضغط الأمني على التنظيم، ويقوِّض إمكاناته وربما يهدِّد كِيانه ووجوده.

وكذا كان الحالُ مع تنظيم (Atomwaffen Division) الذي أُسِّس في عام 2015م، وهو سُلالةٌ جديدة من فئة «النازيين الجدُد»، يعتنق فكرةَ التطهير العِرقي، ويُغالي في تطبيق العقيدة الفكرية النازية، معتبرًا العنفَ والإرهاب ركنًا رئيسًا في سياساته، فيحثُّ أعضاءه على ارتكاب أعمال إرهابية وجرائم قتل وتخريب؛ لتحقيق أهدافه اليمينية المتطرفة. وقد تورَّطت بعضُ العناصر التابعة للتنظيم في سلسلة من الهجَمات الإرهابية في الولايات المتحدة، أسفرت عن قتل كثير من المدنيين الأبرياء. ممَّا حَدا السُّلطاتِ الأمريكيةَ على إدراج هذا التنظيم في قائمة الإرهاب الداخلي، وجرى إغلاقُ العديد من مواقع التواصُل الاجتماعي التي كان يستخدمها للإغراء بأفكاره المتطرفة، وللتخطيط لأعمال العنف والإرهاب.

عنف أقل

أُسِّست حركةُ (Pegida) عام 2014م، وهي تُعَدُّ من أبرز حركات اليمين المتطرف في ألمانيا، ويرجع اسمُ الحركة إلى اختصار جملة (وطنيون أوروبيون ضدَّ أسلمة الغرب)، الذي يدلُّ على توجُّهها وعلى شعاراتها التي ترفعها في معاداة الإسلام والمهاجرين واللاجئين. وقد لقِيَت دعَواتُ الحركة استجابةً متفاوتة في مدُن ألمانية وأوروبية، اتَّسَم بعضُها بالعنف والاشتباك مع المناوئين لعقيدة الحركة وفكر أعضائها.

ولجنوح الحركة نحو المواجهة والصِّدام واستخدام العنف في مظاهراتها وتحرُّكاتها، شهدَت انشقاقًا داخليًّا مَنبَتُه الاختلافُ في التوجُّهات السياسية والخُطط الإجرائية، وفي اتِّباع منهج العنف؛ فانفصل مؤسِّسها «لوتز باخمان» (Lutz Bachmann) وكثيرٌ من أعضائها، وأسَّسوا تنظيمًا جديدًا باسم «حزب الشعب الديمقراطي الليبرالي المباشر» في عام 2016م، يهدِفُ إلى رفض الهجرة غير الشرعية، والسعي إلى تحقيق أهدافه دون التشدُّد في استخدام العنف الذي يتبنَّاه التنظيم الأم. 

تشظي واضمحلال

كانت جماعةُ «العمل الوطني» (National Action) أوَّلَ جماعة نازية جديدة في بريطانيا، ظهرت من رحم الحزب الوطني البريطاني (British National Party)، وهو حزبٌ فاشيٌّ يميني متطرف أنشِئ عام 1982م، وفتكَت به الخلافاتُ الداخلية، وأودَت به النزاعاتُ في إقرار السياسات وأسلوب القيادة، إلى التفتت والضعف.

وأدَّت تلك الخلافاتُ والنزاعاتُ إلى انشقاقات نتجَ عنها قيامُ أحزاب جديدة في المملكة المتحدة، تحمل عقيدةً يمينية متطرفة، وتتبنَّى مواقفَ قوميةً وعنصرية حادَّة، تتَّفِقُ في مجملها على معاداة الهجرة والإسلام، والمطالبة بترحيل المهاجرين غير الشرعيين من بريطانيا، وتقليص الهجرة القانونية. ومن هذه الأحزاب المنشقَّة «الحزب الديموقراطي البريطاني» (British Democratic Party)، و«حزب الحرية البريطاني» (British Freedom Party) وحزب بريطانيا أولًا (Britain First).

أمَّا جماعةُ «العمل الوطني» فكانت تسعى إلى جعل المملكة المتحدة دولةً نازية، وإرساء نظام يسودُه الفصل العنصري، والقضاء على المنظمات اليهودية والمسلمة، وإجبار جميع المهاجرين واللاجئين على العودة إلى بلادهم.

وواجهت السُّلطاتُ البريطانية الجماعةَ بإجراءات صارمة، انتهت بحظرها عام 2016م؛ إنفاذًا لقانون مكافحة الإرهاب، بتهمة التحريض على الكراهية والعنصرية، والدعوة إلى الإرهاب والحضِّ عليه. وخضعَ كثيرٌ من أعضائها الكبار عام 2018م للمحاكمة، وحُكم عليهم بالسَّجن، ومنهم زعيمُ التنظيم «كريستوفر ليثجوي» (Christopher Lythgoe) الذي نال حُكمًا لمدَّة 8 أعوام، بتهمة التخطيط لهجوم على المسلمين، والسعي في الحصول على أسلحة نارية ومتفجِّرات.

وأدَّت تلك الإجراءاتُ الحكومية الحازمة إلى اضمحلال خطر هذه الجماعة، وتلاشي قدرتها على التأثير أو الحَراك على الساحة الاجتماعية. 

جماعات متجدِّدة

لم تزل تياراتُ اليمين المتطرف تفرِّخ تنظيماتٍ وجماعات تتنافس في غُلَواء التطرف، والحثِّ على العنف والإرهاب، وكلَّما خَبا بريقُ تنظيم أو جماعة منها صَعِدَ نجم أُخرى لا تختلف عن سابقتها إلا في السعي إلى انتهاج مزيد من التطرف والعنف. ومن هذه النماذج يبرُز تنظيم «هُويَّة الجيل» (Generation Identity) اليميني المتطرف، الذي كان تأسيسُه في فرنسا عام 2012م؛ لتعزيز الهُوية الأوروبية، والتصدِّي للهجرة غير الشرعية، وللإسلام والتعدُّدية الثقافية. ويشتَهر التنظيمُ بنشاطاته العنيفة والمثيرة للجدل، ممَّا جعل عددًا من الدول الأوروبية تصفه بالتطرف، وتراقب أعماله ونشاطاته؛ لتقييده وإضعاف قدرته على نشر رسالته المتطرفة العنيفة.

ويتميَّز التنظيمُ بشبكة واسعة من الفروع والمنظمات الإقليمية في عدَّة دول أوروبية، مثل: فرنسا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، والدنمارك، وبلجيكا. وقد تورَّطت بعضُ فروع التنظيم في أعمال عنف وجرائم كراهية، مثل إحراق مسجد في السويد، والتحريض على المهاجرين واللاجئين في ألمانيا وفرنسا.

أمَّا تنظيمُ «الهُويَّاتيُّون/ أنصار الهُويَّة» (The Identitarians) الذي أُسِّس في فرنسا عام 2002م، فيَشتَهِر بنشاطاته الإعلامية المثيرة للانتباه، التي تتضمَّن تنظيمَ حمَلات تستهدف المهاجرين واللاجئين، ولا سيَّما في فرنسا، والتحريض على المسلمين والإسلام؛ ممَّا دفع عددًا من أعضائه إلى إحراق مسجد في النمسا، فضلًا عن قيامهم بأعمال عنف وجرائم كراهية. ويُعرَف عن التنظيم مطالبتُه الحثيثة بإعادة تفعيل الحدود الوطنية، والانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

تطرف وسياسة

يختلط مشهدُ التطرف اليميني بوشائج السياسة؛ إذ تتدثَّر الحركاتُ اليمينية المتطرفة بعباءة العمل السياسي حينًا، فتتخفَّى وراء هامش الحرية السياسية؛ لتحقِّقَ انتشارًا لبرامجها المتطرفة تحت شعارات شعوبية ودعَوات عنصرية وفئوية مَقيتة. وأحيانًا أُخرى تجاهر بخُطَطها وتنتهج العنفَ تجاه الفئات المستهدَفة. وتظهر في الساحة الأوروبية أحزابٌ يمينية متطرفة بصورة منسوخة عن أمثالها، تنتشر في أكثر بلدان القارَّة، وتتشابه في الأفكار والأهداف، بل في الأسماء والشعارات، ومنها على سبيل المثال:

  1. حزب البديل اليميني الشعبوي الألماني (AfD): وهو حزبٌ يميني متطرف شعبوي، أُنشئ في عام 2013م.
  2. حزب التجمع الوطني الفرنسي (FN): وهو حزبٌ يميني متطرف، أُنشئ في عام 1972م، ويتبنَّى أفكارًا شعبوية ومناهضة للهجرة والإسلام.
  3. حركة النهضة الفاشية (Forza Nuova): وهو حزبٌ يميني متطرف في إيطاليا، أُنشئ في عام 1997م، ويؤمن بالقومية الإيطالية ويعارض الهجرة غيرَ الشرعية.
  4. حزب الحرية النمساوي (FPÖ): وهو حزبٌ يميني متطرف، أُنشئ في عام 1956م، ويناهض الهجرة غيرَ الشرعية والإسلام.
  5. حزب الشعب الدنماركي (DPP): وهو حزبٌ يميني متطرف، أُنشئ في عام 1995م، ويرفع شعاراتٍ مناوئةً للمسلمين والمهاجرين.
  6. الحزب الشعبي السويسري (SVP): وهو حزبٌ يميني متطرف، أُنشئ في عام 1971م.
  7. حزب الحرية الهولندي (PVV): وهو حزبٌ يميني متطرف في هولندا، أنشأه في عام 2006م السياسيُّ الهولندي خيرت فيلدرز، ويعارض الإسلام ويطالب بإغلاق الحدود الهولندية أمام الهجرة غير الشرعية، وترحيل المهاجرين المخالفين.

ومن اللافت أن اختيار بعض هذه الأحزاب شعارَ (الحرية) في أسمائها وفي خطاباتها؛ رمزًا لمعارضة التدخُّلات الحكومية، وللدفاع عن الحريات الفردية والحقوق المدنية، وإعلاء قِيَم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الاقتصادية- يسقطُ أمام ممارساتها تجاه الآخرين، ولا سيَّما المسلمين والمهاجرين؛ إذ تتهاوى حقوقُ الإنسان أمام اختبار العنصرية والتحيُّز العِرقي والثقافي. أمَّا الأحزابُ التي وسَمَت نفسَها بالوطنية، أو أرجعت أصلها إلى الشعب، فقد حصرت كِياناتها في التعصُّب القومي، والدعوة إلى المحافظة على الهُوية الوطنية، وحماية الحدود ومنع الهجرة غير الشرعية، فضلًا عن رغبتها بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

وفي المجمل تجسِّد انقساماتُ تنظيمات اليمين المتطرف مآلاتِ التطرف وتشظِّيه، بفعل عوامل الغلوِّ في مشاعر العَداء والكراهية تجاه الآخرين المختلفين في الأجناس والأعراق والثقافات، ثم تجاه المخالفين في الرأي والتوجُّه من أبناء التيار ذاته؛ ممَّا يسهم في نثر بذور الشقاق والانقسام، وتقويض قدُراتها على تحقيق أهدافها، وقد يُفضي في بعض الأحيان إلى استخدام العنف بين هذه التنظيمات أنفسها.