تنظر الجماعاتُ الإرهابية إلى مناطق النزاع على أنها فرصةٌ ذهبية لزيادة أنشطتها غير المشروعة، وضمان الموارد الاقتصادية التي تساعدها في الاستمرار، وكلما كانت الجماعة أكثر قوةً في منطقة النزاع في ظل دولة هشَّة لا تُحكِم السيطرة على أراضيها؛ كانت أكثر قدرةً على التوسُّع في ممارسة أنشطتها الاقتصادية، حيث تزداد أنشطتها الإجرامية، مثل تجارة الأسلحة، وتهريب المخدرات، وفرض الإتاوات، والاتِّجار بالبشر، وغير ذلك من الجرائم الإرهابية.

إشعال الصراعات

في الدول المستقرَّة أمنيًّا؛ تلجأ الجماعات الإرهابية إلى اعتماد أساليب تمويل سرِّية يصعُب اكتشافها. أما المناطق المضطربة أمنيًّا مثل: العراق وسوريا واليمن، أو المناطق التي يصعُب الوصول إليها مثل: الشريط الصحراوي الساحلي، أو المناطق التي تواجه فيها سلطة الدولة المركزية تحديًا في البناء الاجتماعي والسياسي مثل: كولومبيا ونيجيريا؛ فإن الجماعات المسلحة تمارس نشاطات اقتصادية متنوعة، وتسعى إلى توسيع الصراعات، وإضعاف شرعية السلطة القائمة، وإشعال الحروب؛ لتبسط أنشطتها المحرمة بعيدًا عن القبضة الأمنية. وثمة ثلاثة نماذج لاستغلال النزاعات في عمليات تمويل الإرهاب يمكن الإشارة إليها على النحو الآتي:

النموذج الأول: الإتاوات

يعتمد هذا النموذج على قدرة الجماعات على استغلال رقعة جغرافية معينة بعيدة عن سلطة الدولة المركزية، والهيمنة على المجتمعات المحلية؛ ودفعها للمشاركة في عمليات التهريب، وفرض أنشطتها التجارية غير الشرعية.

ومن أمثلة هذا النموذج: القوات المسلحة الثورية الكولومبية، وأعضاء الجماعات الإجرامية المنظَّمة الناشطة في منطقة الدلتا جنوب نيجيريا؛ فقد تمكَّن كلاهما من تطوير اقتصاد إجرامي محلي يتحدَّى سلطةَ الدولة. ففي ستينيات القرن الماضي كانت القوات المسلحة الثورية الكولومبية تعدُّ إنتاج المخدرات والاتجار بها جريمة، لكنها أعادت النظر في موقفها في أوائل الثمانينيات؛ لأن زراعة أوراق الكوكا مصدرٌ أساسي لعيش الفلاحين الذين تصدَّت للدفاع عنهم. وفي مؤتمرها السابع عام 1982، عدَّت أرباح المخدرات ضرورية لنجاح الثورة وتولِّي مقاليد السلطة، ففرضت ضريبة على إنتاج أوراق الكوكا. وبلغ مدى التعاون بين تجار المخدرات والقوات المسلحة الثورية الكولومبية ذروته مع مضاعفة الأخيرة لجبهاتها وتوسُّع هيمنتها الإقليمية، بينما سمحت لتجار المخدرات بالاستمرار في إنتاج سمومهم وتهريبها بواسطة العصابات الإرهابية. وهذا ما حدا بالإدارة الأمريكية لابتكار مصطلحي: "عصابات المخدرات"، و"إرهاب المخدرات".

وبينما فشلت مفاوضات السلام عام 2002،  أكَّد الرئيس الكولومبي أن ما تقوم به القوات المسلحة الثورية الكولومبية التي أدرجتها الولايات المتحدة ضمن قائمة المنظمات الإرهابية؛ عبر تجارة المخدرات هو عمل إرهابي. وعلى الرغم من جهود كولومبيا لمكافحة المخدرات لم تحقق نجاحًا كبيرًا، حيث لم يتراجع إنتاجها إلا قليلاً؛ غير أنها أضعفت قدرة القوات المسلحة الثورية الكولومبية على البقاء لاعبًا رئيسًا في البلاد، فضلًا عن أنها أحبطت معنويات جنودها، وشوهت سمعتها لدى السكان الذين لا يعدُّون هذه الجماعة إلا تُجّار مخدرات.

دلتا النيجر

تشهد منطقة دلتا النيجر منذ تسعينيات القرن الماضي اضطراباتٍ تستهدف السيطرة على الثروات النفطية هناك، حيث نشطت العصابات الإجرامية المصنَّفة ضمن الجماعات الإرهابية. وقد شكَّل أفراد هذه الجماعات مجموعاتٍ مسلَّحة لتنفيذ أعمال إجرامية، فمارست الاختطاف وسرقة النفط من خطوط الأنابيب العابرة لأراضي هذه المجتمعات، ومن تلك المنظمات حركة تحرير دلتا النيجر التي تأسَّست عام 2006، ونفَّذت أنشطتها في المناطق المهمَّشة جغرافيًّا، واستطاعت أن تتضامن مع المجتمعات المحلية وبعض الوجهاء مقابل حمايتهم وإعادة توزيع المكاسب من عملياتها. واستولت بأعمالها التخريبية التي طالت خطوط الأنابيب على كثير من نفط البلاد، وتولَّت تكريره بعيدًا عن الرقابة؛ لإعادة توزيعه وبيعه في السوق السوداء المحلية والإقليمية. ومع ذلك، فإن انخفاض أسعار النفط دفع هذه الجماعات إلى البحث عن مصادر أخرى أكثر ربحية، فتحولت إلى ممارسة الخطف مقابل الفدية للحصول على المركبات والمعدات البحرية الحديثة، ومواجهة القوات النيجيرية والشركات العسكرية الأجنبية الخاصة التي تحمي شركات النفط الكبرى في الدلتا. 

النموذج الثاني: الدمج

ويتمثَّل هذا النموذج في جماعات مسلَّحة منظَّمة أو إرهابية، تسعى إلى الاندماج في دوائر التمويل غير المشروع؛ للحصول على بعض المنافع، وتسخير نفسها في خدمة الكيانات الإجرامية، فتقدِّم الخدمات الأمنية واللوجستية؛ لتأمين أنشطة الإنتاج، وحماية البضائع، وغير ذلك من أعمالها غير المشروعة.

ففي منطقة الساحل، يُعدُّ الاختطاف للحصول على فدية من أكثر الأنشطة الرابحة للجماعات الإجرامية، حيث وصل ريعها إلى نحو 125 مليون دولار بين عامي 2008 و2014 وهو نهج تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وأحد مصادر تمويله الرئيسة، إلى جانب تهريب الأسلحة وتجارة المخدرات، وممارسة الأساليب الإجرامية كلّها بغية تحقيق أهدافها. ويظهر ذلك جليًّا من سيرة أعضائها الذين انخرطوا في عالم الجريمة والتهريب قبل أن يصبحوا مطلوبين إرهابيين.

ومن هؤلاء المهربين والمجرمين المحترفين الجزائري "مختار بلمختار" زعيم جماعة المرابطين، وصاحب الصِّلات التاريخية مع تنظيم القاعدة، وقد منحته شهرته في عالم التهريب اسم "السيد مالبورو" لنشاطه المستمر في تهريب هذا النوع من السجائر، وتنقله بين دول منطقة الساحل الإفريقية، وقد يسَّرت له اتصالاتُه مع القبائل المحلية ممارسةَ أنشطته الإجرامية لتمويل الأعمال الإرهابية. وقد أدانته محكمة جزائرية غيابيًّا بتهمة تشكيل جماعة إرهابية، واختطاف أجانب، والاتجار بالأسلحة. وفي ديسمبر 2008 شاركت مجموعته في اختطاف دبلوماسيَّين اثنين من الأمم المتحدة. وقد اندمجت مجموعة "مختار بلمختار" مع غيرها من شبكات التهريب، في منطقة يصعُب ارتيادها والسيطرة عليها من قِبل الدولة، بغيةَ الاستفادة من المكاسب المالية الكبيرة التي تدرُّها هذه الأنشطة المحرَّمة، ومن أشهر جرائم الإرهابي "بلمختار" حادث احتجاز رهائن في "عين أميناس" بالجزائر عام 2013، حيث أسفر عن مقتل 37 أجنبيًّا، وهذا ما جعله أخطر إرهابي في المنطقة، ولا سيَّما أنه كان زعيمَ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

إنتاج الكبتاجون

قُدِّمَ الكبتاجون تاريخيًّا على أنه مخدِّرٌ مرتبط بالمتطرفين والإرهابيين، وقد أنتج في يوغوسلافيا السابقة بكميات كبيرة في التسعينيات. راجت تجارته حديثًا في سوريا حيث تنشط المليشيات المسلحة، ففي عام 2020، بلغت قيمة تهريب الكبتاجون من سوريا 3.46 مليار دولار أمريكي، وفي عام 2021 وصلت القيمة - بحسب معهد نيو لاينز للإستراتيجية والسياسة - إلى 5.7 مليار دولار؛ حيث صودر نحو 420 مليون حبة كبتاجون.

وإذ دخل تنظيمُ داعش الإرهابي في أثناء الصراع الدائر في سوريا في عمليات تهريب الكبتاجون؛ إلا أن المليشيات المتعاونة مع السلطة كحزب الله والجماعات المسلَّحة الأجنبية كانت الأكثر اعتمادًا على هذا الجانب من التمويل، سواء لجهة التصنيع أو التهريب، فانتشرت معامل الكبتاجون وغدا لأصغر هذه الجماعات معاملها الخاصة لإنتاجه وتهريبه! ومما يذكر في هذا الباب أنه في عام 2021، حوكم في لبنان أحد رجال الأعمال بعد مصادرة شحنة ضخمة من المخدرات في ماليزيا. وكانت تضمّ نحو 100 مليون حبة كانت متجهة إلى المملكة العربية السعودية، وقد قدرت قيمتها بحسب الاستخدام المباشر بما يتراوح بين مليار إلى ملياري دولار.

ومن الناحية اللوجستية، يُصنع الكبتاجون في مناطق النزاع السوري، ويُهرب بطرق متنوعة عبر الأراضي التي تسيطر عليها مجموعات مسلحة ومليشيات ذات انتماءات مختلفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمخطط تجارة المخدرات إقليميًّا ودوليًّا، وهدفها التمويل غير المشروع لأعمالها الإجرامية؛ ليُصدَّر بعد ذلك بشتى السُّبل برًّا وجوًّا وبحرًا إلى دول الخليج والدول المجاورة، مثل: لبنان والأردن، وقد بذلت المملكة الأردنية الهاشمية جهودًا كبيرة في محاربة تلك الشبكات الإجرامية لمنع وصول هذه السموم عبر أراضيها إلى وجهاتها.

النموذج الثالث: احتلال الأرض

ويتمثل هذا النموذج في احتلال جماعة إرهابية منطقة معينة، وإدارة اقتصادها ومواردها عُنوةً، واستغلال هذه الموارد لصالحها على حساب السكان المحليين. وعلى سبيل المثال: لما احتل تنظيمُ داعش الإرهابي أجزاءً واسعةً من سوريا والعراق، وضع نظامًا معقَّدًا لمصادرة الموارد في المناطق التي سيطر عليها؛ حيث فرض إتاوات على مستثمري الآبار النفطية في الشمال الشرقي، وهدَّد بقتل مَن يرفض الدفع، وفرض الضرائب على المركبات والمدارس، متذرعًا بتوفير «الحماية». وبلغت مواردُ التنظيم وعائدات الابتزاز واستغلال الموارد الموجودة في الأراضي المحتلة في نهاية عام 2014، نحو نصف مليار دولار بحسب تقديرات الولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن الأصول التي وضع يدَه عليها من البنوك والموارد الهيدروكربونية والفوسفات والزراعة والآثار. وكانت المواد الهيدروكربونية وإعادة بيع المنتجات الخام طريقة مفضَّلة للتمويل، حيث أعاد بيع المنتج إلى الوسطاء والمهربين، ليُصدَّر فيما بعد إلى البلدان المجاورة. وقد بِيع برميل النفط بنحو 20-35 دولارًا مقابل 60-100 دولار في الأسواق المحلية. إضافة إلى استخدام النقد في المعاملات؛ ليتسنى غسله وجعله غير قابل للكشف من قِبل النظام المصرفي الدولي. وشكَّل الدخل العائد من العمليات الزراعية فرصةً لثراء تنظيم داعش الإرهابي، الذي قام بعمليات الحصاد، ومصادرة الآلات والمعدات ليجري تأجيرها لاحقًا، فضلاً عن الاستيلاء على المحاصيل ومراقبة إنتاجها وتخزينها للتحكُّم في توزيعها وتسويقها محليًّا. كل ذلك كان التنظيم المجرم يمارسه للسيطرة على السكان المحليين، وسرقة مقدراتهم، وتمويل عملياته الإرهابية.

ومارس تنظيمُ داعش الإرهابي أيضًا الاتِّجار بالآثار على نطاق واسع، وليس ثمة إحصائية دقيقة لحجم الثروات المنهوبة التي استولى عليها، حيث تشير بعض التقديرات إلى وجود آثار مسروقة من سوريا تزيد قيمتها عن 10 ملايين دولار، معظمها من مناطق النزاع النشطة. وقد وجد التنظيم الإرهابي فرصتين للاستفادة من آثار سوريا: أولهما: النهب وإعادة البيع المباشر. وثانيهما: السماح للصوص بالوصول إلى الأماكن الأثرية ونهبها مقابل مبالغ مالية كبيرة. 

وشكَّل الاتِّجار بالبشر مصدرًا مهمًّا لدخل تنظيم داعش، وقد سلَّطت مجلة «دابق» الداعشية الضوءَ على هذا الأسلوب وأكَّدته روايات الناجين؛ حيث كان التنظيم يبتزُّ ضحاياه ويطلب مبالغَ مالية لافتدائهم، ومعظمهم من الرعايا الأجانب. ومن المختطفين مَن جرى عرضه للبيع أو الاستغلال الجنسي. وتُقدَّر قيمةُ الاتِّجار بالبشر من قِبل داعش من 20 إلى 45 مليون دولار، إلا أن هذه الأرقام تبقى مجرد إشارات؛ نظرًا للسرِّية التي تحيط بالفدى التي يتلقَّاها التنظيم الإرهابي جراء أنشطة الاختطاف التي يمارسها.

ختامًا:

تجدر الإشارة بعد استعراض الأساليب الإرهابية لعمل هذه الجماعات المختلفة، والفرص التي تغتنمها في مناطق النزاع حينما تضعف قدرات الدولة المركزية على بسط سيادتها على مناطق النزاع، إلى أن مخططات التمويل وأساليب التشغيل هذه لا تنشط ولا تنفَّذ ما لم تكن مبنيةً على تنسيقٍ بين الجماعات المسلَّحة والجماعات الإجرامية المنظَّمة؛ إذ إنه تحالفُ الظروف والمصالح الذي يحقِّق الربح لفئات معينة، ويخدم الأجندة السياسية لفئات أخرى. ومن ثَم فإن الحلول لا تكمن تحديدًا في استعادة الأراضي بالقوة العسكرية بقدر ما تكمن في تحييد الشبكات الإجرامية بمقاربة استباقية في تلك المناطق غير المستقرة.