​​​​لا جديدَ في أن للإعلام أثرًا مهمًّا في تكوين اتجاهات الرأي العام، وتثبيت أفكار إيجابية أو سلبية لدى المجتمع، وإعلاء قِيَم أو تهميش أخرى. لكنَّ الجديد فيما شهده العالم في العِقدَين الماضيين، استحداثُ أدوات وتِقنيَّات جديدة عزَّزت قدُرات الإعلام ومجالات تأثيره، حتى أصبحت تلك الأدواتُ والتقنيات مسيطرةً على طبيعة العمل الإعلامي. فصار السائد حاليًّا هو ما يُعرف بـ (الإعلام الجديد) أو (إعلام المجتمع Social Media). وهو المفهوم الذي نَضِجَ بظهور مواقع التواصل في الفضاء الإلكتروني، وهيمنتها، وتفوُّقها على وسائل الإعلام التقليدية. فصارت تجمعُ بين الطبيعة التفاعلية في التواصل والاتصال بين المستخدِمين، والوظيفة القديمة المـُستقاة من الإعلام التقليدي. 

خصائص مُواتية للتطرف
للإعلام الجديد خصائصُ مميِّزة تجعله مرتبطًا بظاهرة التطرف، سواءٌ من جهة الانتشار واتساع نطاق التفاعل مع الأفكار المتطرفة؛ سلبًا وإيجابًا، أو من جهة الزخَم المعلوماتي، وسهولة تحصيل المعلومات، وإجراء المقارنات عن الطروحات المتطرفة، فضلًا عن الأثر الكبير في مواقف المتلقِّين، والإسهام في تكوين اتجاهات الرأي العام فرديًّا وجماعيًّا.

وهنا يمكن القولُ: إن طبيعة التنوُّع للوسائط المستخدَمة في الإعلام الجديد، تمنحها ميزةً نسبية عالية، مقارنةً بالإعلام التقليدي، ولا سيَّما القدرة على التأثير في فئة واسعة من المتلقِّين مختلفي التوجُّهات ومتنوِّعي الاهتمامات. فكثيرٌ من المتلقِّين تجذبهم الوسائطُ المصاحبة للأخبار، في حين تُعَدُّ سرعة نقل الخبر ميزةً كبرى لدى آخرين، ويشعر كثيرون بالرضا عن تلك الوسائل الإعلامية المستحدَثة؛ لما تُتيحه من ساحات للحوار وتبادل الأفكار. وإن التنوعَ والسرعة والقدرة العالية على استلاب اهتمام المستخدِمين بواسطة حُزمة وسائطَ جذَّابة (صور، ومقاطعَ صوتية ومرئية، وصفحاتٍ تفاعلية)، كلُّها باتت قوةَ جذب كبيرة يخضع المستخدم لتأثيرها الطاغي، وإن بدَت في الظاهر تعتمد على التفاعل المتبادَل، وتستند إلى معادلة المحرِّض والمستجيب. 

ولمـَّا كان التطرفُ ظاهرةً عاطفية لا عقلية، فإن شبكاتِ التواصل وغيرَها من وسائل الإعلام الجديد، نجحت في جذب أصحاب الأفكار المتطرفة إليها من مختلِف الاتجاهات؛ لأن الإنسان ينزع إلى التطرف والتشدُّد حين ينشأ أو يعيش في بيئة غير اجتماعية، تتَّسمُ بغياب مصادر الوعي أو تدنِّيها، وتراجع التفكير النقدي، فضلًا عن الانكفاء على الهُويَّات والتكوينات الاجتماعية الضيِّقة. فكان ظهورُ وسائل التواصل طوقَ نجاة لذوي الأفكار والنزَعات المتأثِّرة بتلك البيئات المتأزِّمة، حيث رحابةُ الفضاء الإلكتروني، واتساعُ نطاق التواصل والتفاعل مع أعداد غير محدودة من البشر، فضلًا عن الأمان بما يسمح بإطلاق الأفكار والآراء مهما بلغ شططُها أو انحرافها.

وإذا كان للإعلام الجديد أثرٌ في احتضان التطرف والمتطرفين، فإن له أثرًا لا يقلُّ أهمية في مواجهة التطرف بجميع أنماطه ومصادره. فهو أداةٌ ووسيط يؤثِّر حسبما يُوظَّف ويُوجَّه، ويمكن بسهولة رصدُ الارتباط بين الحالة النفسية والوِجدانية (كالاغتراب الاجتماعي، والاكتئاب، وفِقدان الثقة في الدوائر المحيطة) ومدى استعداد فرد أو مجموعة للوقوع في فخِّ التطرف. 

تدوير الأفكار المتطرفة
مع بدايات ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيَّما فيسبوك، كان الأثرَ الأبرز لها تعريفُ الأشخاص بأصدقاءَ جدُد، وتوسيعُ نطاق التواصل بين الأصدقاء. وكانت وسائلُ التواصل تقوم بمهمَّة التوصيل Connecting  والتشبيك Engagement بين مستخدِميها، دون شروط أو معاييرَ للتصفية والفرز؛ لذا كانت ساحةً لعرض الأفكار من كلِّ الاتجاهات والمشارب ومناقشتها.

ومع اتِّساع نطاق استخدام شبكات التواصل والزيادة الكبيرة في عدد المستخدِمين، ولا سيَّما مِنصَّات فيسبوك وتويتر ويوتيوب، أُدخلت تعديلاتٌ على قواعد التوصيل والتشبيك بين المستخدِمين، وذلك باستعمال خُوارِزْميات معقَّدة. فمثلًا: حدث تقليصٌ لما يظهر أمام مستخدِم فيسبوك من (كل) إلى (معظم) المنشورات التي يكتبها أصدقاؤه، ثم اقتصر الأمرُ الآن على فئة محدَّدة مُنتقاة من العدد الكبير من المنشورات المتداولة. 

والمعيارُ الأساسي في انتقاء تلك الفئة وتقديمها إلى المستخدم، أن أصحابها هم أولئك المستخدِمون الذين يتفاعلون معه، أو يتفاعلُ هو معهم بانتظام، سواءٌ بالتعليق أو المشاركة أو بتعبيرٍ ما «Emotion». وعلى التدريج تصير عمليةُ التواصل بين المستخدمين أشبهَ بحَلْقة مغلقة بين أولئك الذين يتفاعلون معًا، في حين يُستبعَد منها مَن لا يتفاعلون معًا، أو محدودو التفاعل. ونتجَ عن هذه التصفية أن وسائل التواصل الاجتماعي تحوَّلت إلى غُرف مغلقة على المتشابهين والمتَّفقين في الآراء، وذوي التوجُّهات والميول المتجانسة، مع نسبة قليلة من المختلفين معًا، شرطَ أن يكونوا على تواصُل وتفاعل دائمَين. 

فالمعيارُ ليس الاتفاق والتفاهم، وإنما التفاعل؛ وبحكم الطبيعة البشرية، غالبًا ما يتفاعل البشرُ أكثرَ مع موافقيهم في الرأي والفكر، فضلًا عن الطِّباع والخصائص النفسية. ولهذا تتردَّد في تلك التجمُّعات شبهِ المغلقة الآراءُ والأفكار، كما يتردَّد صدى الصوت في الكهف. ويسود انطباعٌ بأن المشاركين جميعًا على رأي واحد. 

والخطرُ هنا يتجاوز الانغلاقَ الذهني على أفكار مُحدَّدة يُعاد ترديدُها فيزداد الإيمان بها؛ إذ يصل الأمرُ أحيانًا إلى زيادة الأفكار المتطرفة جنوحًا وشططًا، بواسطة مستخدِمين عاديين لشبكات التواصل، يستقبلون أفكارًا تقليدية روَّجها في الأصل غُلاةُ المتطرفين، سواءٌ في الدِّين أو في أيِّ توجُّه فكري، فيتحوَّل أولئك المتلقُّون المستهلكون لهذه الأفكار إلى مُنتجين لها، بعد إضافة «لمساتهم» التي تزيدُها تطرفًا. ومع تعدُّد تلك التجمُّعات يصبح التقويمُ النهائي لوسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التفاعل الافتراضي أنها بدلًا من الإسهام في التقريب بين الشعوب والثقافات والأفكار، بالحوار ومعرفة الآخرين والتفهُّم المتبادل، إذا بها قوةٌ دافعة نحو الانعزال والتقوقع وتعميق الشَّطَط الفكري، فتتسع فجَواتُ التفرُّق الإنساني وتتجذَّر عوامل التناحر بين البشر. 

التطرف والتحوُّل المؤسَّسي
نتيجةً لتهيئة وسائل الإعلام الجديد بيئةً مشجِّعة على إقامة تجمُّعات تشترك في أفكارها وقناعاتها، يتطوَّر التوافقُ الفكري إلى حالة من الارتباط النفسي والاستقواء المتبادَل. مما يدفع إلى تحوُّل تلك الروابط من مجرَّد تجمُّع افتراضي، إلى كِيانات مؤسسية لها ملامحُ مميِّزة وقواعدُ منظمة، سواءٌ ظلَّت تعمل في العالم الافتراضي فقط، أو انتقلت إلى العالم المادِّي الفعلي. 

ومما يزيد قابليةَ تلك التجمُّعات الافتراضية للتحوُّل إلى تنظيمات واقعية، أنها بمجرَّد نُضجها الافتراضي سَرعان ما تبرز الحاجةُ إلى قيادةٍ وإدارة وغايات وأهداف وخُطط عمل وجدول أعمال. وهكذا تتكوَّن وتتراكم تلقائيًّا جميعُ مقوِّمات (التنظيم) مادِّيًّا، ربما باستثناء اللقاءات المباشرة، وإلى حدٍّ ما التمويل. لكنَّ غياب أيٍّ منهما لا يحدُّ من الأثر السلبي التراكمي لتداول المفاهيم المغلوطة والأفكار المتطرفة، وإعادة إنتاجها. ومع التحوُّل إلى الطبيعة التنظيمية الفعلية، فإن ذلك يعني الوقوفَ على حافَة الانتقال من التطرف إلى العنف.

ومن المفارقات أن سهولة التواصل والتفاعل في الفضاء الإلكتروني، لا تشجِّع على تقارب الأفراد ذوي الأفكار المتطرفة، أو ذوي الاستعداد لتقبُّلها فحسب؛ بل يتعدَّى ذلك إلى الجماعات، أي تنطبق فكرةُ التئام المتشابهين على المجموعات والكِيانات، فتصير فيما بينها عَلاقةُ تفاعل إيجابي قابلةٌ للتطوُّر إلى تنسيق أو اندماج، مثلما يحدث بين الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية في الواقع الفعلي.

التجنيد والاستقطاب 
في ظلِّ المزايا التي تفوَّقت بها وسائلُ الإعلام الجديد على الوسائل التقليدية، تغيَّرت وظائفُ الإعلام وواجباته، فلم تعُد تقتصر على الإعلام أحاديِّ الاتجاه، وإنما أُضيفَ إليها الأثر التفاعلي، ويُقصَد به (الإعلام المضاد)؛ إذ يقوم أفرادُ المجتمع، وهم المتلقُّون في الإعلام التقليدي، بوظيفة المرسِل، سواءٌ إلى متلقِّين آخرين أو إلى جهات رسمية، ردًّا على قرارات الدولة، أو عرضًا لمطالبهم.

ومع تطوُّر وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها، انتشر استخدامُ الوسائط المتعدِّدة في عرض المحتوى الإعلامي، بواسطة المؤسسات والأفراد. فأصبح بإمكان كلِّ مَن يحمل هاتفًا ذكيًّا بثُّ ما يشاء من أنباءٍ أو آراءٍ، أو عملُ تحقيقات استقصائية، أو عرضُ أفكار وقناعات شخصية. وكذلك توثيقُ وقائعَ يريد إظهارها أو ترويجها على نطاق واسع. وبتوافر هذه الأدوات المساعدة، أصبح التأثيرُ في المتلقِّين وتكوينُ مداركهم يسيرًا، ومُتاحًا لكلِّ ذي قدرات إقناعية متوسطة.

وهكذا بات للإعلام الجديد وظيفةٌ جوهرية، في تسهيل تجنيد المتلقِّين واستقطابهم إلى أيِّ توجُّه فكري؛ ديني أو إلحادي. وحين يتعلَّق الأمر بمفاهيمَ وقناعاتٍ غيبية، فلا حاجةَ إلى كثير من الجهد أو إلى أدلَّة واقعية أو منطقية. ويزداد الأمر خطرًا في ظلِّ توظيف التقدُّم التقني، وتعدُّد وسائط الاتصال والتأثير «بالصوت والصورة»، في التواصل المباشر بين الأفراد والمجموعات، مما يسمح بمجال واسع للتأثير والتأثُّر المباشر على الرغم من بُعد المسافات.

التطرف المضادُّ
يشيع في الكون ثنائياتٌ متلازمة، منها: الحقُّ والباطل، الخير والشرُّ، الاعتدال والتطرف. لذا يمكنُ بسهولة العثورُ على أفكار واتجاهات متطرفة في الفكر القومي والليبرالي والحداثي، وكذلك في كلِّ الأديان السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وغير السماوية. وكما أن الأشياء تُعرَف بأضدادها، فإن النقائض يُغذِّي بعضُها بعضًا. 

وأحدُ متطلَّبات هذه المعادلة، وجودُ وسائطَ وأدواتٍ تفاعلية موصلة بين النقيضين، ولمـَّا كان الإعلامُ الجيِّد أداةَ تفاعل وتغذية مرتدَّة تتَّسمُ بالحيوية والسرعة، فإنه يؤدِّي أيضًا عملَ الجسر الرابط والناقل للاتجاهات والأفكار المتطرفة المتقابلة. وذلك على مستويين: الأول جزئي، وهو المتعلِّقُ بزيادة تبادل التشدُّد المـُفضي إلى التطرف. والآخرُ كلِّي، وهو المتعلِّق بالدائرة الواسعة المقابلة بين التطرفين الديني والعَلماني.

وللإعلام الجديد، سواءٌ شبكاتُ التواصل الاجتماعي أو وسائطُ الإعلام الإلكترونية، أثرٌ رئيس في توسيع الفجوة والتناقض وتعميقهما بين حواضن التطرف وأقطابه، في مختلِف الجماعات والمكوِّنات الدينية والثقافية. وهو أثرٌ ربما يكون غيرَ ظاهر بوضوح؛ لأنه ينشأ داخلَ الدول ذات التنوُّع المجتمعي، والتعدُّد الديني والمذهبي.

فلولا شبكةُ الإنترنت وما أفرزته من مواقعَ إخبارية، وشبكات تواصل غنية بأنواع الأخبار والآراء والأفكار، مرئيةً ومسموعة ومقروءة، لظلَّت المواقفُ المتطرفة والأفكار الانعزالية أسيرةَ أصحابها، والدائرة الضيِّقة من معارفهم والمحيطين بهم، ولما كان لها هذا الأثرُ السلبي المضادُّ «المتطرف» في مكوِّنات المجتمع الأخرى التي تطولها تلك الأفكارُ، أو تضعها في موقع «الكفر أو الشِّرك»، ولانحسرَ إلى حدٍّ كبير نطاقُ انتشار الصورة الذهنية لمروِّجي تلك الأفكار ومُصدِّريها لدى الأطراف الأخرى. 

وبعيدًا عن تقويم مدى صحَّة إطلاق تلك الأحكام والأوصاف من الجانبين أو خطئها، إن قدرًا غيرَ يسير من التغذية المرتدَّة، يُعزى بامتياز إلى استخدام الإعلام الجديد من كلِّ الأطراف، وانتشارها وازديادها، فيصبح المشهد أقربَ إلى منافسة بين التطرف والتطرف المضاد.

معرفة التطرف والمتطرفين
المنطلَقُ الأساسي لوظيفة وسائل الإعلام الجديد في مواجهة التطرف، هو العملُ على مسارات أثرها السلبي في دعم التطرف، لكن في الاتجاه المضادِّ للتطرف. وأولُ ما يمكن أن تقدِّمَه هذه الوسائلُ لمكافحة التطرف، المساعدةُ على معرفة المتطرفين، وتحديدُ طبيعة التطرف لديهم. وهو إسهامٌ مهم في هذا السياق؛ إذ المعتادُ أن يخفيَ المتطرفون توجُّهاتهم في مواجهة أيِّ بيئة غير مواتية، سواءٌ لاعتبارات أمنية، أو لتجنُّب العُزلة والضغوط الاجتماعية. ونادرًا ما يُعلن المتطرفون أفكارَهم وتوجُّهاتهم، ولا سيَّما للمجتمع المحيط بهم، ما لم يكن متطرفًا، أو خاضعًا للمتطرفين.

وإن ما يُسمَّى (الاشتباك الافتراضي) معهم باستخدام الإعلام الجديد، يُشجِّعهم على الإفصاح عن أفكارهم ولو نسبيًّا، وهو ما يحدُث أحيانًا بمبادرةٍ منهم لاستدراج الآخرين إلى دائرة الاقتناع بالمفاهيم والأفكار المتطرفة. في حين يتأتَّى أحيانًا أخرى بالاستدراج المضادِّ؛ أي بإدخالهم في نقاش مفتوح وبأسلوب هادئ ومحايد لا يُظهر موقفًا مضادًّا أو حتى محايدًا بعيدًا عن التطرف، بشأن قضايا أو أحداثٍ محدَّدة. وأحيانًا يفضح المتطرفُ نفسه في الفضاء الإلكتروني، عن غير قصد، بتعامله مع المحتوى الإخباري على نحو يُظهر الرؤى والأحكام المتطرفة تجاهه، فيقوم المتطرف عفويًّا بالتعبير عن الغضب، أو انتقاد المحتوى المخالف لقناعاته، ويعدُّه خروجًا عن القِيَم العليا التي يؤمن بها.

الاشتباك الذكي
إذا كانت التياراتُ المتطرفة تنتظم بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي في مجموعات وكِيانات افتراضية شبه مغلقة، فمن الضروري أيضًا تكوينُ مجموعات شبابية على غِرارها، مهمَّتها الأساسية التوعية والتبصيرُ بالواقع. وذلك على مستويين: أولهما الأفرادُ المتطرفون؛ بتفنيد قناعاتهم، وتفكيك القوالب الفكرية الجامدة التي تنغلق عقولهم عليها. والآخَر أولئك الذين لم يقَعوا بعدُ في فخِّ التطرف، ممن لديهم قابليةٌ للاستدراج بسهولة. 

ويكون ذلك بمناقشة القضايا والموضوعات التي يستخدمها المتطرفون أنفسُهم؛ لاختراق النسَق الفكري والثقافي لأفراد المجتمع، والتصدِّي للأفكار والمفاهيم التي يحاولون بثَّها؛ بتوظيف هذه القضايا الخلافية، وبعضها مسكوتٌ عنه عادةً في الإعلام التقليدي. ومن أهمِّ هذه القضايا: تكفيرُ المجتمع، وحرِّية الفكر والاعتقاد، والتعامل مع أصحاب الديانات والعقائد الأخرى، وحدودُ الحريات في السلوك الفردي والجماعي.

تأثير مزدوج للخُوارِزميَّات
بعد أن باتت الخُوارِزْميَّات تؤدِّي وظيفةً سلبية في حصر الأفكار بين المؤمنين بها، وتُدوير القناعاتِ والاهتمامات الشخصية بين المتشابهين فيها، من الضروريِّ الاستعانةُ بعلم البرمجيات، وتحديث الخُوارِزميَّات استنادًا إلى تِقنيَّات الذكاء الاصطناعي، للحدِّ من سلبيات التضييق والجمود في دوائر التفاعل بين مستخدِمي وسائل التواصل. وقد ظهرت حقًّا بوادرُ يمكن الانطلاقُ منها وتطويرها في هذا الاتجاه، مع أنها لا تزال مقصورةً على ما تحتاج إليه أجهزةُ الأمن لمعرفة الإرهابيين، سواءٌ الحاليون أو المحتمَلون. 

ففي حين تخضع حساباتٌ معيَّنة للمراقبة والشكِّ في احتمال صلتها بتوجُّهات إرهابية، أو تعبِّر عن شخصيات قابلة للتحوُّل في هذا الاتجاه، ترصد الخُوارِزميَّات رصدًا دقيقًا أنشطةَ الأفراد والجماعات ذات الميول الإرهابية على شبكات التواصل، ولا سيَّما الحسابات المستهدَفة لحشد الأنصار وتجنيد المقاتلين، ثم تُحلِّل العَلاقاتِ بين الخلايا الناشطة والخاملة، وأي عناصرَ جديدة ربما تنضمُّ إليهما، وتتنبَّأ بأي عمليات إرهابية محتملة. 

وقد حقَّقت بعضُ الدول نجاحاتٍ في هذا الاتجاه، منها روسيا التي تمكَّنت باستخدام تلك الخُوارِزميَّات على شبكة التواصل الاجتماعي (Vkontakte/​ﭪي كونتاكت) من ضبط عددٍ كبير من المجموعات الداعمة لتنظيمَي داعش والقاعدة، وتحديد نحو 180 ألف حساب شخصي يمكن تصنيفُها ذات محتوًى متطرف.

مواجهة التطرف المضاد
كما يجدُ التطرف مُغذِّياتٍ وعواملَ محرِّضةً في التطرف المضاد، سيكون لكبح ذلك الأخير أثرٌ في تخفيف منابع التطرف، استنادًا إلى انتفاء أحد الروافد الرئيسة لتسويغ التطرف والإرهاب. ومطلوبٌ من الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي بذلُ جهد للحدِّ من التطرف، ونشر الاعتدال والوسطية في مختلِف التوجُّهات الفكرية، سواءٌ كانت وضعيةً أو دينية، لئلَّا يتحوَّلَ الأمر إلى العمل في اتجاه واحد، كما لو كانت كلُّ الشرور مرتبطةً بالتطرف ذي المرجعية الدينية فقط، ولا سيَّما الإسلامية. 

وهناك من الأدلَّة في السلوك الفعلي لبعض الحكومات والمجتمعات الغربية ما يؤيِّد هذا، مما يتذرَّع به المتطرفون الدينيون للانغماس أكثرَ في الأفكار المتطرفة الانعزالية، بحُجَّة أن الأزمة الحقيقية ليست في أنهم متشدِّدون دينيًّا، وإنما في «التربُّص» بهم و«الاضطهاد» الذي تمارسُه تجاههم المجتمعاتُ الأخرى المعاديةُ للإسلام والمسلمين. ومن هنا فإن صعودَ التيَّارات اليمينية، وغيرها من التيَّارات المتطرفة في الغرب، يُتيح للتطرف والمتطرفين مسوِّغًا لوجودهم، وحجة لتشدُّدهم وانغلاقهم على تلك الدائرة الجامدة من الأفكار المعادية لكلِّ مخالف لها.

وكما يمكنُ للإعلام الجديد أن يواجهَ التطرف الديني، هو مطالَبٌ أيضًا بمواجهة مختلِف أنواع التطرف الأخرى، ولا سيَّما المضادَّة. وربما تكون مهمةُ الإعلام الجديد وشبكات التواصل أسهلَ في هذا الصَّدَد؛ فإن الأفكار العَلمانية والتوجهاتِ القوميةَ واليمينية، على ما فيها من تشدُّد وعنصرية وميول إقصائية، أكثرُ قابلية للتفكيك والترشيد، مقارنةً بالتطرف الديني. إن ثمَّةَ مهمَّات للإعلام الجديد لا تقتصر على مستوًى معيَّن، أو نمط واحد من أنماط التطرف؛ بل تمثِّل إطارًا شاملًا لجهد توعوي و«احتوائي»، يضع مقدِّمات أساسيةً لتجفيف منابع التطرف، واستئصال اتجاهاته من جذورها. 

ومن أبرز تلك المهمَّات أن يعزِّزَ الإعلام الجديد التفكيرَ النقدي لدى فئات المجتمع المختلفة، ولا سيَّما في مراحل التشكُّل العقلي والوِجداني، بدءًا من الطفولة وصولًا إلى مرحلة الشباب؛ لإنشاء جيل غير قابل للانقياد للأفكار المتطرفة دون تمحيص. وهناك ضرورةٌ مُلحَّة لاستخدام وسائل التواصل والإعلام الجديد في المؤسسات الرسمية والدينية، ولا سيَّما فيما يتصل بإصدار الفتاوى وتوضيح تعاليم الدِّين والأحكام الفقهية في القضايا الخلافية. فالمتطرفون يستخدمون وسائلَ التواصل لبثِّ الأفكار الضالَّة المتشدِّدة، ولا بدَّ من الاستفادة من الإمكانات التقنية المتاحة للحكومات في اتجاه توضيح الفكر المعتدل، ونشر الوسطية لدى المستخدِمين. 

ومن الضروري أيضًا الاهتمامُ برفع مستوى الوعي، واكتساب المهارات الخاصَّة بتقويم المحتوى والرسائل المضمَّنة في الموادِّ المتداولة في الإعلام الجديد. ومن أهمِّ تلك المهارات تحرِّي صدق المحتوى وتتبُّع مصادره، والتمييز بين الخبر والرأي، وبين المحتوى الأصلي والمصطَنع، والشمول والتنوع في عرض الآراء والمواقف، دون انتقاء ولا اجتزاء.