​ازداد الاهتمامُ العالمي بموضوع الإرهاب على أنه ظاهرةٌ اجتماعية معقَّدة تُلقي بظلالها على الحياة المعاصرة للمجتمعات، بتجلِّياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وراح العالم يفتِّش عن مكامن هذا الإرهاب ومَنشَئه: هل هو انتماءٌ سياسي أو إطار ثقافي؟ هل هو فعلٌ ناشئ ابتداءً أو ردَّة فعل يائس؟ هل هو نزعةٌ عِرقية متأصِّلة أو انحراف مؤقَّت؟ ثم بعد ذلك كلِّه هل له أطُرٌ مرجعية ومناهجُ مدرسية تولِّده وترعاه وتحتضنه حتى يؤتيَ ثماره السامَّة؟

تدنِّي التعليم والإرهاب

تؤكِّد بعضُ الدراسات وجودَ ارتباط بين تدنِّي مستوى التعليم والعمليات الإرهابية، وأن المناهجَ الدراسية الجيِّدة دِرعٌ واقٍ من التطرف والإرهاب، وحِصنٌ حصين من الغلوِّ الفكري والتشدُّد، وأن القصورَ في بعض المناهج والنظُم التعليمية، في كثير من الأحيان كان سببًا رئيسًا وراء ظهور مشكلة التطرف والإرهاب في عدد من المجتمعات الإسلامية. فإن غالبية المقرَّرات الدراسية التي تُقدَّم للطلَّاب لا تحصِّن التلاميذ بالاعتدال والوسطية، ولا سيَّما في التعامل مع الآخَر المختلف دينيًّا وثقافيًّا، ولم تُمنَح قضيَّةُ التعاطف مع الإرهابيين عنايةً كافية تقيهم التردِّيَ في حضيض العنف والإرهاب. وفي المقابل نجدُ دراساتٍ تنفي هذه الصِّلةَ بين ضعف مستوى التعليم والخلل فيه، وبين الجنوح إلى التطرف والإرهاب، وتجعل لذلك أسبابًا شتَّى نائيةً عن تلك الصِّلة.

وكلُّ ذلك قابلٌ للإثبات والنفي، ولكلِّ وجهةِ نظرٍ حُجَجها وأدلَّتها وشواهدها، وبين هذا وذاك قد تغيب الحقيقة، وتتلاشى الموضوعية، ويصبح النقاشُ تدافعًا عقيمًا أبعدَ ما يكون عن الرؤية الواضحة والمعرفة الحقَّة البصيرة.

وبغضِّ النظر عن دوافع الإرهاب وبواعثه، وبالنظر إلى أن بعضَ الدراسات والأقلام تشير بأصابع الاتِّهام إلى المناهج الدراسية في هذا البلد أو ذاك، محمِّلةً لها تبِعات هذه الظاهرة، متجاهلةً كلَّ التداخُلات التي تكتنِفُها والملابسات التي تحيط بها؛ فإنه من المشروع طرحُ سؤال مهمٍّ وهو: هل المناهجُ الدراسية مصدرٌ للإرهاب؟.

حقيقة المنهَج

يتَّسع مفهوم النَّهْج والمِنهاج والمَنهَج ليشملَ الطريقَ السَّهل الواضح الذي يعمل فيه الإنسان، ومن ذلك ما جاء في مُحكَم التنزيل: (لِكُلٍّ جَعَلنا مِنكُم شِرْعةً ومِنهاجًا) أي: طريقةً واضحةً تهتدون بها. وهو بهذا المعنى كلُّ طريق موصِل إلى غاية مَنشودة.

ويتَّخذ لفظُ المَنهَج في لغة التربويين معنًى اصطلاحيًّا أكثر تحديدًا وأقرب إلى الممارسة العملية، مع المرونة وقابلية التغيير والتطوير، وهو: مجموعةُ الخبرات والأنشطة والممارسات التي تقدِّمها المدرسةُ لبناء الطلَّاب والمتعلِّمين بناءً عقليًّا ونفسيًّا وجسديًّا، وإعدادهم للحياة العملية؛ لتحقيق مجموعة من الأهداف التعليمية والتربوية المقصودة، وتحصيل أفضل النتائج بحسَب قدُراتهم وإمكاناتهم ومواهبهم.

وما أبعدَ هذا المعنى الفسيحَ عن التعريف التقليديِّ المجتزَأ، الذي يقتصر على أن المنهَج هو المقرَّراتُ المدرسية المتضمِّنة للمحتوى المعرفي في مرحلة دراسية معيَّنة. وإذا نظرنا إلى المنهَج بهذه الرؤية الشاملة أمكننا أن نستوعبَ مدى اتِّساع مفهومه، وخروجه عن المفهوم التقليديِّ الضيِّق إلى المفهوم الحديث الأرحب. وتنطلق التربيةُ الحديثة من مُسلَّمة أساسية، تؤكِّد أن بناء الإنسان لا يمكن أن ينشأ من محتوًى معرفي فقط، وأن التعقيد الذي تتكوَّن به شخصيةُ التلميذ لا يمكن أن يُختزَل في كتاب مدرسي أو عدَّة كتب، بغضِّ النظر عن محتواها المعرفي. فإن شخصية الإنسان تكوينٌ متداخل من مجالات ومستويات متعدِّدة ومختلفة، تبدأ بالمعرفي مرورًا بالنفسي فالحركي، وصولًا إلى الوِجداني؛ ولهذا تقف المقرَّراتُ النظرية عاجزةً عن إحداث التغيير وبناء النشْء السَّويِّ، لتشاركَها أو لتزاحمَها في ذلك مؤسَّساتٌ تربوية أُخرى نظامية أو غير نظامية؛ تُكمِل النقص وتملأ الفراغ.

وعلى حين تُغرِقُ مؤسساتُ التربية في محاولات تعريف المنهَج، تغفُل عمَّا يُعرَف بالمنهج الخفيِّ أو المنهج المستتر، الذي يُعبَّر عنه بأنه: جميعُ الخبرات أو الأنشطة التي يمرُّ بها التلاميذُ خارج المنهج الرسميِّ، دون إشراف المعلِّم أو اطِّلاعه في كثير من الأحيان. ويعمل هذا المنهجُ بالتوازي مع المنهج الرسمي، وقد يكون أوسعَ أثرًا (إيجابيًّا أو سلبيًّا)، مع صعوبات رصده وتقويم أثره في التلاميذ، وهو بطبيعته نتاجُ كثيرٍ من مؤثِّرات البيئة وقِيَمها، ويحتاج إلى وعي عميق من المعلِّمين والمربِّين.

أدلَّة الإثبات

تَسُوق الدراساتُ والبحوث التي تثبِتُ أن ضعف المناهج الدراسية وما تحتويه من معلومات وأفكار أحدُ أهمِّ أسباب نشوء ظاهرة التطرف، مجموعةً من الحُجَج والأدلَّة التي تؤكِّد بها وجهةَ نظرها، ويمكننا أن نجملَها فيما يأتي:

  • لا تعمل المناهج الدراسية على الحماية من الانحراف، أو نشر الوسطية والاعتدال في التعامل مع المخالفين لعقيدتها، ولا تؤكِّد للتلاميذ حقوقَ الأقلِّيات بالعيش الآمن الكريم، وضرورةَ معاملتهم بالحُسنى.
  • لا تمنح المناهجُ الدراسية قضيَّةَ التعاطف مع الإرهابيين عنايةً كافية؛ لحثِّهم على نبذ العنف والإرهاب، ولم تعطِ إشارةً واضحة للتلاميذ المسلمين مثلًا عن موقف الإسلام من تحريم قتل الأبرياء من المسلمين وأهل الذمَّة، أو الاعتداء على أعراضهم وأموالهم.
  • لا تمنح المناهجُ الدراسية العنايةَ المطلوبة لقِيَم السلام، ممَّا يجعل حضورها غيرَ مُجدٍ، ولا يوظَّفُ توظيفًا يدعم السلامَ المستدام على المدى الطويل.
  • لا تخلو بعضُ المناهج من أفكار تعزِّز تقسيم أبناء الثقافات قسمَين: صالحين وطالحين، ولا تخلو من تناقضاتٍ واضحة، فبعضُ الأحزاب الهندوسية المتطرفة مثلًا تعلن في خطاباتها تمسُّكَها بالتسامح مع المخالفين، ثم لا تلبثُ أن تواجهَهم بظُلم وجَور وطُغيان.

والمشكلة التي تواجه كثيرًا من الدراسات المثبِتة لوجهة النظر هذه، أنها صادرةٌ عن باحثين غير متخصِّصين في الإطار الثقافي لهذه المناهج، ولذلك يحصُل لديهم لَبْس في فهم النصوص وَفقَ سياقها الثقافي. وكذلك كثيرٌ من هذه الدراسات أُجريت عقِبَ أحداث إرهابية كبيرة صدمت العالم وهزَّت وِجدانَه، وكان البحثُ على أشُدِّه عن أيِّ مسوِّغ يفسِّر هذا الجنونَ غير المسبوق، ممَّا خرج ببعضها عن الموضوعية العلمية وعن حِياد التحليل المنطقي.

أدلَّة النفي

وعلى الضفَّة الأُخرى نجد دراساتٍ تنفي عَلاقةَ ضعف المناهج الدراسية بظاهرة التطرف والإرهاب، أو تنفي أن تكونَ سببًا رئيسًا في نشوئها في بعض المجتمعات. ومن هذه الدراسات دراسةُ بابيكير تحت عنوان «المناهج الدينية الإسلامية والإرهاب: دراسةُ حالة للمدارس الأزهرية في مصر»، وهي أطروحةُ دكتوراه مقدَّمة في جامعة دنفر الأمريكية، وقد اعتمدَت على تحليل دقيق لمحتوى هذه المناهج، مع العناية بموضوع الجهاد، وانتهت الدراسةُ إلى نتائجَ، من أهمِّها:

  • تتَّجه المناهجُ الدراسية عمومًا إلى السِّلم في اتجاهها الرئيس؛ لأنها تدعو إلى جهاد الدَّفع وليس إلى جهاد الطلب والعُدوان، وتناولت مفاهيمَ أعمَّ وأشمل لمعنى الجهاد؛ كجهاد النفس وتطهير الروح وهو الجهادُ الأكبر.
  • تضمَّنت بعضُ المناهج دروسًا عن «السلام في الإسلام»، وأكَّدت حقيقةَ أن السلام هو أصلُ الشريعة الإسلامية السَّمحة، وأن الحرب هي الاستثناء.
  • أكَّدت بعضُ المناهج مفهومَ التعايش السِّلمي بين المسلمين وغير المسلمين، والاعترافَ بالأديان الأُخرى، مع تأكيد أن من قتل مسيحيًّا أو يهوديًّا مسالمًا (ذمِّيًّا) ظلمًا؛ لن يجدَ رائحة الجنَّة.

وقد بُذِلت كثيرٌ من الجهود في تحليل محتوى المناهج الدراسية؛ لمعرفة عَلاقتها بالإرهاب، وفي العديد من البلدان، ولا سيَّما التي وُجِّهَت إليها أصابعُ الاتِّهام في إنتاج الفكر الإرهابي ورعايته، وقد بيَّنَت هذه الدراساتُ علميًّا خلوَّ هذه المناهج ممَّا يدعو إلى التطرف والإرهاب أو يؤسِّس للغلوِّ والعنف.

وممَّا يسوقه أصحابُ هذا الرأي من حُجَج أيضًا، أن كثيرًا من المتورِّطين في الأعمال الإرهابية ليسوا خرِّيجي مدارسَ دينية، بل لم يدرسوا هذه المناهجَ أصلًا، وهذا ما أوضحَته دراسةُ بيرغن وباندي اللذَين فحصا عيِّنةً من 79 إرهابيًّا متورِّطين في خمس هجَمات من أكبر الهجَمات الإرهابية (تفجير نيروبي، وتفجير مركز التجارة 93، وهجوم 11 سبتمبر، وتفجيرات بالي، وتفجيرات لندن)، وقد تبيَّن أن نسبة خرِّيجي المدارس الدينية بينهم لم تتجاوز %11 فقط، لكنَّ الغريب أن ما نسبته %48 منهم كان خرِّيجَ مدارسَ غربية!.

وهذا ما دعا الباحثَ الباكستاني ممتاز أحمد في دراسته عن المدارس الدينية في باكستان للسؤال قائلًا: «إذا كانت المدارسُ الدينية هي السببَ الوحيد أو الرئيس للتشدُّد والتطرف والعَداء لأمريكا، فلماذا لم تظهر هذه الاتجاهاتُ إلا في التسعينيَّات مع أن مناهجَ هذه المدارس تُدرَّس كما هي منذ 150 عامًا تقريبًا؟». وهو سؤالٌ منطقي يمكن تعميمُه على كثير من الدول والمدارس والمناهج.

ولا يعني هذا بأيِّ حال من الأحوال أن المناهج الدراسية في كثير من البلدان في أحسن أحوالها، أو أنها غيرُ قابلة للنقد، بل إن كثيرًا منها ضعيفُ التأثير في بناء شخصيات التلاميذ أو التأثير فيهم سلبًا أو إيجابًا؛ بسبب تقادُمها وعدم مواكبتها لتغيُّرات العصر، وتبايُن الأجيال وتطوُّرها، أو بسبب أسلوب عرضها وترابط موضوعاتها، وهذا ما يجعل كثيرًا من البلدان تُخضِع هذه المناهجَ للمراجعة الدائمة، والتعديل بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو المطالبات المشبوهة.

بين الرأيين

يمكننا ختامًا أن نوجزَ ما يمكن أن نستخلصَه من هذا العرض لوجهتَي النظر؛ بأن حسمَ الرأي في ظاهرة من أكثر ظواهر هذا العصر تعقيدًا وتشعُّبًا هو أقربُ لطلب المُحال، وتبقى دائمًا وجهاتُ النظر مفتوحةً للنقاش والتداول على كلِّ المستويات والمنابر. وإن محاولة اختزال ظاهرة الإرهاب في سببٍ واحد إنما هو تحيُّز غير منطقي وغير سائغ، وقد أظهرت نتائجُ بعض الدراسات واستنتاجاتُ بعض الخبراء في هذا المجال أن الإرهابَ غيرُ محصور في سببٍ واحد، بل هو نتيجةٌ لعواملَ شتَّى؛ سياسيةٍ واقتصادية وثقافية ودينية واجتماعية.

وكذلك إن حصر الإرهاب في نطاق معيَّن هو مغالطة شائعة، وربما تكون مقصودةً، يُراد بها تحقيقُ مكاسبَ سياسيةٍ وفكرية معيَّنة، وفي هذا المعنى يقرِّر أرثور باييشت أنه: «ليس هناك سببٌ واحد وراء الأعمال الإرهابية، بل هناك عدَّة أسباب متباعدة وغير متناسقة، تشملُ حقائقَ لا يمكن حصرُها». حتى مع وجود قواسمَ مشتركة بين الإرهابيين اجتماعيًّا ونفسيًّا؛ إن ذلك لا يعني أن الظاهرة الإرهابية نتيجةُ عواملَ ثقافية محدَّدة، ولا سيَّما المناهج الدراسية، بل يتعدَّى ذلك إلى مجموعة من الأسباب الظاهرة والخفية، والمتشابكة بين السياسي والاقتصادي والعِرقي والفكري والثقافي والديني والاجتماعي والنفسي.