أضحى صعودُ تيَّار اليمين المتطرف في أوروبا اتجاهًا عامًّا في السنوات الأخيرة، في ظلِّ ارتفاع التأييد للأحزاب اليمينية المتطرفة في عدد من البلدان الأوروبية، وما تتبنَّاه من أفكار شعبوية متشدِّدة. وقد برز ذلك جليًّا في نتائج عدد من الانتخابات العامَّة التي جرت في بعض البلدان الأوروبية، مثل: إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، والمجر، وغيرها. ممَّا يعزِّز المخاوف من عواقب انتشار أفكار اليمين المتطرف في أوروبا كلِّها، وما يسبِّبه ذلك من مخاطرَ على المجتمعات الأوروبية الديمقراطية، وصعود النشاط الإرهابي اليميني الذي يستهدف الأجانب والمسلمين خصوصًا في أوروبا.

سياقات اليمين المتطرف

يعتمد تيَّارُ اليمين المتطرف في أوروبا على نزعة متطرفة تجاه عدد من القضايا على رأسها العَداء للأجانب، فهو يتمسَّك تمسُّكًا حادًّا متطرفًا بالقِيَم الوطنية والهُوية السياسية والثقافية واللغوية، ويتَّسم بميل شديد إلى التطرف الديني. وفي الغالب يوصَف اليمينُ المتطرف بأنه حركةٌ أو عقيدة فكرية، فيما ينظرُ إليه آخَرون على أنه كتلةٌ سياسية تسعى إلى توحيد أنشطة حركات أو عقائدَ متطرفة.

ويشير مصطلحُ اليمين المتطرف إلى القوميين الأوروبيين من الجنس الأبيض، الذين يؤمنون بتفوُّق هذا الجنس على غيره من الأجناس، والتعصُّب القومي له، إضافةً إلى التعصُّب الديني ومعاداة المهاجرين الأجانب ولا سيَّما المسلمين. ويُطلَق أيضًا على الأحزاب المعارضة للهجرة؛ نظرًا إلى الموقف الموحَّد الذي تتبنَّاه الأحزاب اليمينية تجاه المهاجرين الذين تعدُّهم تهديدًا للهُوية العِرقية والوطنية للقوميات الأوروبية، وسببًا رئيسًا في ارتفاع معدَّلات البَطالة والجريمة في المجتمعات الأوروبية.

وهناك خلطٌ بين اليمين المتطرف والأحزاب اليمينية، فإن الصِّلة بينهما تبدو شكلية فقط؛ إذ إن حركة اليمين المتطرف تمثِّل إعادةَ تسويق فكر الكراهية وتفوُّق الجنس الأبيض. أمَّا الأحزابُ اليمينية فهي أحزابٌ سياسية تحمل أفكارًا رأسماليةً وخُطَّتها السياسية تقليدية في مقابل الأحزاب اليسارية ذات التوجُّهات الاقتصادية الاشتراكية.

وتنقسم الأحزابُ اليمينية أيضًا إلى أحزاب يمين تقليدي؛ تسعى إلى الحفاظ على التقاليد وحماية الأعراف داخل المجتمع، وتتَّسم بقدر من الواقعية السياسية. وأحزاب يمين متطرف؛ تسعى إلى التدخُّل القَسري واستخدام العنف للحفاظ على التقاليد والأعراف، مع تعصُّبها القومي والديني ومعاداتها للمهاجرين.

وبذلك يتَّضحُ غيابُ الاتفاق على تعريف محدَّد دقيق وشامل لليمين المتطرف. ولكن ثَمَّة توافقٌ على خصائصه وصفاته المشتركة، أبرزُها نموُّ العَداء للأجانب ورفض الأقلِّيات، والدفاع عن الهُوية الوطنية والتقاليد، والدعوة إلى الحدِّ من الهجرة، إضافةً إلى رفض كلِّ أنماط الاندماج الإقليمي حتى الاندماجُ الأوروبي، بحُجَّة حماية السيادة الوطنية، والدعوة إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، والخروج من مِنطَقة اليورو.

أبرز الجماعات الأوروبية

وفيما يأتي نذكر أبرزَ الجماعات والتنظيمات لليمين المتطرف في أوروبا:

في بريطانيا: جماعةُ «الملائكة التسعة» التي تنشر أفكارها في مواقع الإنترنت، وجماعة «ناشيونال أكشن»، وجماعة «أتوموافن»، وجماعة «البديل الوطني» التي تدعو إلى طرد السكَّان غير البيض من المملكة المتحدة، وحركة «بريطانيا أوَّلًا» التي أضحت أكبرَ تجمُّع لليمين المتطرف في البلاد، على الرغم من حداثة تأسيسها عام 2011م. و«حزب الاستقلال البريطاني» الذي كان من أكبر الأحزاب المعارضة للاتحاد الأوروبي وسياساته.

في فرنسا: جماعةُ «القوَّات العملية» قبل تفكُّكها عام 2018م، وجماعة «لي بارجول» التي حُلَّت في العام نفسه؛ بسبب اتِّهامها بالتخطيط لاغتيال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. إضافةً إلى جماعات أُخرى مثل: جيل الهُوية، وباستيون سوسيال، وكومبات 18، ومنظمة الجيش السرِّي.

في ألمانيا: حركةُ «كويردينكن»، وحركة «التفكير الجانبي»، وحركة «بيغيدا»، و«لواء العاصفة 44»، و«نسر الشَّمال» التي حُظِرت في يونيو 2020م، و«مواطنو الريخ»، و«عصابة الذئاب البيضاء الإرهابية»، و«ألترميديا».

في بلجيكا: «الحزبُ القومي الفلامنكي»، وحزب «المصلحة الفلامنكية»، وجماعة «الدروع والأصدقاء»، و«الياقات البيضاء»، ومنظمة «شيلد آند فريندز».

عوامل الصعود

أسهمت جملةٌ من العوامل في صعود اليمين المتطرف في أوروبا في السنوات الأخيرة، وأهمُّها العوامل الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها. وقد باتت الهجرةُ إحدى القضايا الرئيسة التي أثَّرت أثرًا بالغًا في صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا. وتتَّفقُ جميع قوى اليمين المتطرف على أن الهجرةَ هي السبب الأوَّل للمشكلات التي تواجهها المجتمعاتُ الأوروبية، وأن الهُوية الوطنية الأوروبية في خطر، ويجب حمايتها من الغزو الأجنبي المتمثِّل في المهاجرين؛ لما يسبِّبونه من تهديد لتلك الهُوية.

وقد وظَّفت تلك الأحزابُ قضية الهجرة في التسويق لليمين المتطرف؛ بهدف إضفاء شرعية على خطابه العنصري المعادي للأجانب، وتعزيز عملية الحشد والجذب لقِطاعات واسعة من الأوروبيين إلى الأحزاب اليمينية في الانتخابات التشريعية ببلدانهم.

ومن الأسباب الرئيسة لظهور تيَّار اليمين المتطرف، وصعود نجمه في مراحل الاضطراب: العاملُ الاقتصادي، وأشارت التقديراتُ إلى أن الأحزاب اليمينية المتطرفة في 20 دولةً ديمقراطية في العالم كانت هي المستفيدَ الأوَّلَ من الاضطرابات بعد الأزَمات؛ إذ تجاوزت نسبةُ الأصوات المؤيِّدة لها %30 من إجماليِّ الأصوات. وأحدثت الأَزْمةُ الاقتصادية العالمية عام 2008م اضطرابًا ملحوظًا أسهم في ارتفاع الموجة الجديدة من المدِّ اليميني المتطرف في أوروبا، وأدَّت السياساتُ الاقتصادية إلى ازدياد الاستياء لدى قطاع عريض من المواطنين، بإيعاز من التيارات اليمينية المتطرفة. وتفاقمَ الوضع بسبب التغيُّرات الاجتماعية التي قلَّصت الطبقةَ العاملة الصناعية التي تُعدُّ الداعمَ الرئيس للأحزاب اليسارية.

وارتبط صعودُ اليمين المتطرف أيضًا بارتفاع معدَّلات البَطالة ارتفاعًا غيرَ مسبوق في البلدان الأوروبية في العقد الماضي، فقد شهدت أوروبا زُهاء 20 مليون عاطل من العمل. وأرجعَ اليمين المتطرف هذه البَطالة إلى المهاجرين؛ لأنهم يتقاضَون أجورًا أقلَّ من نظرائهم الأوروبيين، فضلًا عن التكلِفة التي تتحمَّلها الدولُ المضيفة للَّاجئين في عدد من المجالات، مثل: المرافق العامَّة والتعليم والصحَّة. ومع أن معدَّلات البطالة في بلدان الاتحاد الأوروبي انخفضت في عام 2022م إلى %6.6 من إجماليِّ السكَّان، بواقع 12.93 مليون عاطل في الكتلة الأوروبية، لا يزال اليمين المتطرف الأوروبي في ارتفاع وصعود.

وقد وافقَ صعودُ تيار اليمين المتطرف في أوروبا صعودَ ظاهرة رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) التي تروِّج عَداءَ المسلمين وتربطهم بالإرهاب، ولا سيَّما في ظلِّ ما شهدَته أوروبا من زيادة عدد الهجَمات الإرهابية في السنوات الأخيرة في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها. وقد دفع هذا الصعودُ بعض الحكومات والأحزاب الأوروبية إلى غضِّ الطرف عمَّا تطرحه أحزابُ اليمين المتطرف؛ بهدف الحفاظ على الكتلة التصويتية في الانتخابات. ففي أكتوبر 2020م، أشار الرئيسُ الفرنسي ماكرون إلى أن مسلمي فرنسا يمكنهم تكوينُ مجتمع موازٍ في البلاد، وأن الإسلام يواجه أزمةً في جميع أنحاء العالم.

ويعتمد اليمين المتطرف كذلك على استخدامه الواسع لمنصَّات التواصُل الاجتماعي في ترويج أفكاره، واستقطاب العديد من مناصريه؛ إذ توجِّه قوى اليمين خطابها إلى الشباب للانضمام إلى صفوفها، مستغلَّةً حالة الغضب والإحباط التي تستحوذُ عليهم تجاه سياسات حكوماتهم وتعاملها مع الأزَمات الاقتصادية. وتضغط هذه القُوى أيضًا على المعتدلين من أجل تبنِّي خطاب اليمين المتطرف؛ للحفاظ على مكتسباتها السياسية الانتخابية.

مؤشِّرات الصعود 

إن صعود اليمين المتطرف على الساحة السياسية الأوروبية أحدُ أبرز الظواهر السياسية في العقد الأخير في أوروبا. وارتفع الدعمُ للأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) في عام 2016م، وفوز الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية في عام 2017م.

ويمكن الإشارةُ إلى أبرز مؤشِّرات صعود اليمين المتطرف في أوروبا في السنوات الأخيرة على النحو الآتي:

1. توسُّع الكتلة التصويتية المؤيِّدة لليمين المتطرف: شهد العقد الماضي تحقيقَ الأحزاب اليمينية المتطرفة بعضَ النجاحات في عدد من الانتخابات العامَّة الرئاسية والتشريعية في بعض البلدان الأوروبية، مثل: النمسا والسويد والنرويج والدنمارك وهولندا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا والمجر وبريطانيا وغيرها. وأبرزُ هذه الأحزاب: حزبُ القانون والعدالة ببولندا، وحزب الشعب الدنماركي، وحزبا فيداس وجوبيك بالمجر، وحزبُ الحرية بالنمسا، والحزب الديمقراطي بالسويد، وحزب الحرية بهولندا، وحزب الفجر الذهبي باليونان، وحزب الاستقلال البريطاني.

2. الصعود السياسي لليمين المتطرف: تتقدَّم الأحزابُ اليمينية في المشهد السياسي الأوروبي بمعدَّل منخفض في الوقت الراهن، لكنَّ ذلك مقلقٌ على المدى البعيد؛ لما حقَّقته أحزاب اليمين المتشدِّد من مواقعَ متقدِّمة، وما أحرزه مرشَّحوها من مكاسبَ في الانتخابات الرئاسية بلَّغَتهم المرتبة الثانية في عدد من البلدان الأوروبية، مثل: فرنسا والنمسا، وما حصَدته بعضُ الأحزاب اليمينية القومية من نسبة تصويت غير منخفضة في بعض البرلمانات الأوروبية؛ إذ وصلت إلى مستويات تاريخية بأكثرَ من %20 من إجماليِّ الأصوات في النمسا والسويد والدنمارك.

وفي انتخابات الرئاسة الفرنسية في أبريل 2022م، حصل اليمينُ المتطرف بقيادة زعيمة حزب التجمُّع الوطني مارين لوبان على %41.45 من أصوات الناخبين، في مقابل %34 في الانتخابات السابقة عام 2017م. وتضاعف عددُ مقاعد الحزب في البرلمان الفرنسي في انتخابات يونيو 2022م إلى 89 مقعدًا، وهذا لم يشهده اليمينُ المتطرف في فرنسا على مدار العقود الثلاثة الماضية.

وفي إيطاليا استطاعت جورجا مِلوني، زعيمةُ حزب «إخوة إيطاليا» اليميني المتطرف، الفوزَ بالانتخابات التشريعية الإيطالية التي جرت في 25 سبتمبر 2022م، وبلوغَ سُدَّة السُّلطة رئيسةً للوزراء للمرَّة الأولى منذ عام 1945م، بعدما حصل حزبها على 237 مقعدًا من إجماليِّ مقاعد البرلمان البالغة 400 مقعد.

وفي المجر أُعيد انتخاب فيكتور أوربان رئيسًا للوزراء لولاية رابعة على التوالي، بعد حصول حزبه «فيداس» في الانتخابات التي جرت في أبريل 2022م على %53 من إجماليِّ الأصوات، بواقع 135 مقعدًا من إجماليِّ مقاعد البرلمان البالغة 199 مقعدًا.

وشهدت انتخاباتُ السويد التي جرت في سبتمبر 2022م حصولَ حزب «ديمقراطيُّو السويد» على ثاني أعلى نسبة تصويت بين الأحزاب السويدية، وأعلى نسبة تصويت بين ائتلاف اليمين بعد حصوله على 72 مقعدًا من 349 مقعدًا، بنسبة %20.95.

3. اختراق اليمين المتطرف للبرلمان الأوروبي: نتجَ عن انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019م صعودٌ ملحوظ للأحزاب اليمينية المتطرفة، بعد حصولها على 105 مقاعد تعادل ثلثَ مقاعده تقريبًا.

4. انتشار خطاب الكراهية في أوروبا: أشار تقريرٌ لحركة مناهضة التعصُّب إلى أن دول الاتحاد الأوروبي تشهد موجةً من انتشار خطاب الكراهية في مِنصَّات التواصُل الاجتماعي. فقد سُجِّلت نحو 850 حالة كراهية في إسبانيا عام 2021م، مع تقديرات تشير إلى أن العدد الفعلي وصل إلى ستة آلاف واقعة كراهية، وهناك أكثر من ألف موقع إلكتروني متورِّط في نشر كراهية الأجانب وزيادة التعصُّب.

وكشفت الاستخباراتُ الألمانية في 13 مايو 2022م عن أدلَّة ملموسة على التطرف اليميني، في أكثرَ من 300 حالة داخل الأجهزة الألمانية. وتشير التقديرات إلى تورُّط المتطرفين اليمينيين في أكثرَ من 65 ألف جريمة ذات دوافع سياسية في ألمانيا.

مستقبل اليمين المتطرف

أصبح صعودُ اليمين المتطرف ظاهرةً عالمية نامية، وأضحى الصُّعود اللافت للأحزاب اليمينية في أوروبا مقلِقًا، فلم تَعُد مجرَّدَ أحزاب صغيرة تتبنَّى بعض الأفكار الشعبوية. ومن المتوقَّع أن يؤثِّر ذلك في المشهد السياسي والاجتماعي الأوروبي، وقد تلجأ القُوى السياسية التقليدية في بعض بلدان أوروبا إلى تبنِّي إجراءات متشدِّدة للحدِّ من نفوذ اليمين المتطرف، والحفاظ على كتلتها التصويتية في الانتخابات، وقد يؤثِّر ذلك في عدد من السياسات الأوروبية تجاه بعض القضايا المحورية.

ومن المتوقَّع أن تزدادَ المخاوف من تهديدٍ أكبرَ للأقلِّيات في أوروبا؛ نتيجةَ انتشار خطاب اليمين المتطرف، ممَّا يجعل مستقبل أوروبا مهدَّدًا؛ بسبب الصعود المطَّرد لقُوى التيار اليميني المتشدِّد، ومساعيها في تكوين تحالفات سياسية؛ لتمرير برامجها وسياساتها المتشدِّدة الهادفة إلى السيطرة الكاملة على المشهد السياسي الأوروبي. وهذا يفرضُ على الحكومات الأوروبية البحثَ عن مخرج سياسي ناجح لحالة الاستقطاب التي تشهدها بعضُ البلدان الأوروبية.