​​من المهمِّ عند تناول عُنف حركات اليمين المتطرف وتنظيماتها في الدول الغربية، دراسةُ ما وراء إنشاء تلك التنظيمات؛ فخلفَ ستارة هذا المشهد العنيف يجلس رجالٌ مثقَّفون محسوبون على العلم والفلسفة، يطرحون أفكارهم المتطرفة تحت مِظلَّة حرية الرأي والفكر، وبعضُهم يعتلي مناصبَ علمية تخصُّصية، ويُسمَح له بتكوين عقول أجيال قادمة في الجامعات والمعاهد التعليمية.

في فكر هؤلاء وكتاباتهم يكمن الخطرُ وتبرز العنصرية، بحُجَج تبدو علميةً وقانونية، وفي خُطَبهم وأحاديثهم تظهر العباراتُ المنمَّقة والهادئة المرتدية ثوبَ التحضُّر، ولكنَّها في واقع الأمر هي الأساسُ الفكري والمسوِّغ لكثير من عمليات العنف والقتل والازدراء التي يرتكبها اليمينُ المتطرف تجاه مدنيين مسالمين من أبناء الأعراق والهُويَّات الأُخرى من غير البِيض، في دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

السياق الثقافي

 في خِضَمِّ الإقبال الزائد على الأفكار اليمينية المتطرفة والعنيفة تجاه قِيَم المساواة والتسامح والتعايش والاندماج، يظهر من جديد مصطلحُ العنصرية العلمية Scientific racism تلك العنصريةُ التي شهدت ذروتها في عام 1920م، وخَفَتَ صوتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وما خلَّفَته من دمار. ويبدو أن الجدل في هذا الشأن يطفو على السطح من جديد؛ مع عودة مثقَّفين غربيين إلى قَبول وجود جماعات وتنظيمات «بيضاء»، وتسويغ فكرها وأعمالها، تحت عباءة الدفاع عن الهُويَّة البيضاء وليس العنصرية كما يدَّعون.

وما زال تيَّار آخرُ يطرح فكرةَ عدم المساواة الطبيعية بين الأعراق المختلفة، باعتبارها حقيقةً علمية مؤكَّدة! فمجلَّة «البشرية» الفصلية الإنجليزية (Mankind Quarterly) على رأس المجلَّات العلمية المتخصِّصة الداعمة للعنصرية العلمية، حتى وُصِفت بأنها «مجلَّة تفوُّق الجنس الأبيض»، وهي تصدُر من إسكتلندا منذ 1960م.  ويدير اليمينيون المتطرفون مجموعةً من مراكز الفكر والمواقع الإلكترونية والصُّحف ودور النشر ومنتديات العلوم، ومن الأمثلة على ذلك إضافة إلى فصلية «البشرية»: مجلَّة «عصر النهضة الأمريكي» American Renaissance، التي أُسِّسَت عام 1990م، ومنتدى سكاندزا Scandza Forum، الذي يُقام سنويًّا في الدول الإسكندنافية (الدنمارك، والنرويج، والسويد، وفنلندا) ليكون تجمُّعًا للقوميين البيض من جميع أنحاء العالم.

المنظِّرون والمفكِّرون

1.   رينو كامو: منظِّر الاستبدال العظيم

هو كاتبٌ ومؤرِّخ وسياسي فرنسي، ظهرت أفكارُه وتصريحاته المناوئة للمهاجرين الأفارقة والمسلمين مع بداية القرن الحادي والعشرين، في عدَّة مناسبات ومؤتمرات لليمين المتطرف في فرنسا. وفي 2011م أصدر كتابه الشهير «الاستبدال العظيم» Le Grand Remplacement، واستعرض فيه أفكاره التي طالما ردَّدها عن مزاعم تعرُّض فرنسا وأوروبا لخطر الاستعمار الاستيطاني من قِبَل المهاجرين.

وتتلخَّص أفكارُ كامو في ثلاثة موضوعات؛ أوَّلها: أن المجتمع الفرنسي التقليدي سيُستبدَل به شعبٌ قادم من المغرب ومن جنوب الصحراء. وثانيها: أن المجتمع الفرنسي المسيحي المعجون بالقِيَم العَلمانية سيُستبدَل به مجتمعٌ من المسلمين، لا يلبث أن يسيطرَ عليهم مع مرور الوقت مسلمون متطرفون. وآخرها: أن الحكوماتِ الفرنسيةَ الحالية تقبل بهذا التحوُّل بالسماح للمسلمين بالتكاثُر على أرضها.

وتقوم نظريةُ الاستبدال العظيم على أساس أن الثقافة الفرنسية هي ثقافةُ البِيض المسيحيين فقط، وأن أيَّ هجرة من خارج هذه الثقافة خطرٌ كبير يصل إلى حدِّ وصفه بـ «الغزو». ووَفقًا لكامو فإن الهُوية الإسلامية القادمة تتعارض مع العَلمانية والهُوية الفرنسية كلَّ التعارض. ولا يؤمن كامو بالدراسات الإحصائية والسكَّانية؛ فهو يعتقد أنها كلَّها مضلِّلة وغيرُ حقيقية.

ويرى أن المشكلة تكمُن في زيادة المواليد لدى الأُسَر المهاجرة أو الأُسَر الفرنسية من أصول مهاجرة. يقول كامو: «نحن مستعمَرون بوضوح من قِبَل الأفارقة، ونشهد نزوحًا كبيرًا من قارَّة إلى أُخرى، وليست المسألة محصورةً في الإسلام فقط، ولكن في الهجرة الإفريقية قبل كلِّ شيء». ويرى «أن الاحتلال الفرنسي لدول خارجية أقلُّ خطرًا من الاستعمار السكَّاني الذي يقوم به المهاجرون الأفارقة والمسلمون في فرنسا، تحت سمع الحكومات المتعاقبة وتأييدها؛ لأنه استعمارٌ لا يمكن الرجوع عن نتائجه».

وفي 2014م دان القضاءُ الفرنسي رينو كامو بتهمة التحريض على الكراهية والعنف؛ بسبب أقوال أطلقها في أواخر 2010م تسيء للمسلمين، في لقاءٍ عامٍّ في باريس وصفَ فيه المسلمين في فرنسا بأنهم: «الذِّراع المسلَّحة للغزو، وأنهم مستعمِرون يسعَون إلى جعل حياة السكَّان الأصليين مستحيلةً، وإجبارهم على الفرار وإخلاء الأرض أو الخضوع لهم».

ومع أن كامو نفى مسؤوليتَه عن أيِّ عنف يُرتكَب باسم نظريته المزعومة من قِبَل المتطرفين اليمينيين العنيفين، نجد أن منفِّذَ الهجوم على مسجدَي مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا في مارس 2019م، الذي أسفرَ عن قتل 51 مصلِّيًا وجَرْح العشَرات، عنون بيانَه الشهير الذي كتبه في 80 صفحةً ونشره على الإنترنت قبل تنفيذ عمليَّته، بـ «الاستبدال الكبير».

2.   جيمس ماسون: منظِّر التسارعية

هو سياسي نازي أمريكي، ورائدُ فكرة التسارعية Accelerationism. ظهرت أفكارُه في نشرة إخبارية منذ عام 1980م، ثم في عام 1992م جمعَها في كتاب بعنوان «الحصار: الكتابات الكاملة لجيمس ماسون» Siege: The Collected Writings of James Mason، الذي عُرف اختصارًا باسم «الحصار» Siege، وروَّج ماسون فيه فكرةً تقول: إنه عَقِبَ انهيار الدول والمجتمعات سيكون أنصارُ التفوُّق الأبيض هم الناجين الوحيدين في هذه الحرب الشاملة.

وتقوم أفكارُ الكاتب على حثِّ أصحاب العِرق الأبيض، ولا سيَّما المنتمين منهم إلى جماعاتٍ متطرفة، إلى ضرورة القيام بثورة دامية، وإحداث حربٍ عِرقية تُعيد للرجل الأبيض مكانتَه وتحميه، ويكون ذلك في التخلُّص من أعدائه من الأعراق الأُخرى، خاصَّة اليهود الذين يؤمن ماسون أنهم أساسُ الشرِّ والإفساد في أيِّ مجتمع. لذا يجب القضاءُ على اليهود، بل يجب القضاء قبل ذلك على النظام السياسي العالمي الذي يدعمهم. وتحقيقًا لتلك الأهداف يجب اللجوءُ إلى الثورة والإرهاب والحروب الدامية.

أُلقي القبضُ على ماسون عدَّة مرَّات بين عامي 1994 و1999م؛ لأسبابٍ مختلفة، وفي عام 2015م أُنشِئ تنظيمُ Atomwaffen النازي المسلَّح، الذي يؤمن بفكرة استخدام العنف والأعمال الإرهابية، وأُعلن رسميًّا أن ماسون هو مستشار التنظيم، وأصبح كتاب Siege هو المنهجَ الفكري له.

3.   ويليام لوثر بيرس: الإرهاب النووي

يعود الربطُ بين أحلام الفوضى الخلَّاقة لدى أنصار الإرهاب الأبيض وخيال الإرهاب النووي، بصورة كبيرة إلى رواية (مذكِّرات ترنر The Turner Diaries)، الصادرة عام 1978م، للكاتب والفيزيائي النازي الأمريكي ويليام لوثر بيرس (1933 - 2002م).

وانتهت دراسةٌ للمركز الدَّولي لمكافحة الإرهاب، إلى أن هناك ارتباطًا بين تلك الرواية وبين ما لا يقلُّ عن 200 جريمة قتل و40 هجومًا إرهابيًّا في الأربعين عامًا الماضية. وتتناول الروايةُ أحداثًا خيالية، تستعرض مذكِّرات بطل الرواية إيرل تيرنر، العضو في منظَّمة سرِّية متعصِّبة للعِرق الأبيض، وهو يسعى للإطاحة بالحكومة الأمريكية والمؤسسات الاجتماعية والإعلامية التي يُهيمن عليها اليهودُ والأمريكيون الأفارقة والأقلِّيات الأُخرى. ويؤسِّس وَحدته الخاصَّة التي تعمل بالتنسيق مع الخلايا الأُخرى في «التنظيم»، بتنفيذ أعمال حربِ العصابات وأعمال إرهابية، تؤدِّي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالنظام وإسقاطه.

تُعَدُّ الروايةُ مصدرَ إلهام لموجة الجريمة التي شهدتها حِقبة الثمانينيَّات، حين أُنشِئت مجموعةٌ أطلقَت على نفسها اسم The Order، كان من أبرز أعضائها الإرهابيُّ تيموثي ماكفي، الذي فجَّر شاحنةً ملأى بمتفجِّرات الأمونيوم -تشبه تلك التي كانت موصوفةً في الرواية- أمام مبنى ألفريد مورا الفيدرالي في ولاية أوكلاهوما، بتاريخ 19 أبريل 1995م، وهي العمليةُ التي أودت بحياة قرابة 168 شخصًا. وعندما أُلقيَ القبضُ على ماكفي، عُثر على صفَحات من الرواية في المقعد الأمامي لسيَّارته. وعدَّ كثيرٌ من الخبراء مشهدَ اقتحام الكابيتول، عقِبَ خسارة دونالد ترامب للانتخابات الرئاسية الأخيرة، مُحاكاةً لمشهدٍ في الرواية.

4.   ريتشارد سبنسر: مؤسِّس اليمين البديل

هو أوَّلُ من صاغَ مفهوم (اليمين البديل Alt Right) في عام 2010م؛ لوصف التيَّار القائم على فكرة القومية البيضاء، وكان هذا المصطلحُ محلَّ جدل كبير ومناقشات إعلامية وفكرية في أثناء الانتخابات الأمريكية التي فاز فيها دونالد ترامب عام 2016م. وقد وجَّه سبنسر تحيةَ النازية لترامب في 21 نوفمبر 2016م، ممَّا أدَّى إلى انشقاق بعض المجموعات من تيَّار اليمين البديل، وإنشاء ما عُرف بـ (Light Right).

وتتلخَّص أفكارُ سبنسر بمسألة «الهُويَّة البيضاء»، وإيمانه بتفوُّق العِرق الأبيض تفوُّقًا مطلقًا لا لَبْسَ فيه في كلِّ المجالات، ويقول: إن العِرق هو أساس هُويتنا، وهو يدعو إلى مناهضة اللاجئين والحركات النسوية، ويطالب ببناء مجتمع جديد، و«دولة عِرقية» للبِيض تجمع الأوروبيين؛ بإقامة حملة تطهير عِرقي لكن بطريقة سِلمية.

5.   مارتن سيلنر: بين العنصرية والتعدُّدية العِرقية

هو زعيمُ حركة «جيل الهُوية النمساوية» وحركة «دافعوا عن أوروبا»، بل هو الزعيمُ الفعلي لحركة الهُوية في أوروبا كلِّها؛ لتمكُّنه من اللغة الإنجليزية، ولشعبيَّته على مواقع التواصُل، وهنا مكمَن خطَره، فهو يبثُّ فيها أفكار التفوُّق العِرقي والعنصرية تجاه الأقلِّيات الأُخرى في أوروبا. وقد رصَدَت الأجهزةُ الأمنية تواصلًا بينه وبين الإرهابي تارانت منفِّذ عملية كرايستشيرش في نيوزلندا؛ إذ تبرَّع الأخيرُ لحركة سيلنر بمبلغ 1500 يورو في يناير 2018م.

يزعم سيلنر أنه ليس عنصريًّا، بل يؤمن بالتعدُّدية العِرقية «الإثنو تعدُّدية»، وبحقِّ كل حضارة في الحفاظ على هُويتها الخاصَّة والمنفصلة. وهذا المبدأُ يعني من الناحية العملية الفصلَ بين الأعراق المختلفة.

6.   نيك لاند: منظِّر التنوير الحالك

(التنويرُ الحالك) مدرسةٌ فلسفية معادية للديمقراطية وللمساواة، أسَّسها الأمريكيُّ كرتيس يارفن، أمَّا أهمُّ من طوَّرها وأذاعها فهو الفيلسوف الإنجليزي نيك لاند، وهي المرجعيةُ النظرية والفكرية لتيار اليمين البديل.

يستعرض لاند في كتابه «التنوير الحالك»​ The Dark Enlightenment، الصادر في عام 2013م، أفكاره التي تقوم على أساسٍ واضح هو عدمُ توافق الديمقراطية مع الحرية. وأن الديمقراطية قد انتهت صلاحيتُها، وعملية الانتخابات فقدَت الثقة بها والغاية منها. ويعتقد أن مسألة الاندماج العِرقي أكذوبةٌ، وأن الواقع الغربي أثبت أن البِيضَ ما زالوا متفوِّقين على السُّود في الولايات المتحدة وأوروبا، على الرغم من قوانين المساواة.

7.   آلان دو بنوا: منظِّر التفاضل العِرقي

هو صَحَفي وفيلسوف سياسي فرنسي وُلد عام 1943م، وعضو مؤسِّس في حركة اليمين الجديد السياسية، وزعيم مجمَّع التفكير القومي العِرقي «GRECE». معروفٌ بمعارضته لحقوق الإنسان والديمقراطية التمثيلية. وكتاباتُه ملهِمة لحركة اليمين البديل في الولايات المتحدة.

وتقوم فكرةُ «التفاضل العِرقي» على أنه يمكن لكلِّ شعب وثقافة أن تزدهرَ على أرضها الأصلية فقط، وأن الاختلاط العِرقي والثقافي من عوامل الانحطاط، وأن التعدُّدية الثقافية مشروع مُخفق لا يَنتُج عنه سوى فِقدان الاتجاهات، والعنف والجريمة، وإمكانية «الحرب العِرقية» في أوروبا بين الأوروبيين من أصول أوروبية وبين الأوروبيين من أصول عربية أو إسلامية.

رأس جبل الثلج!

يبدو أن ما يظهر لنا من عمليات إرهابية لليمين المتطرف، ما هو إلا رأسُ جبل الثلج، وأخطرُ منه قاعدةُ الجبل الراسخةُ في عقول بعض المثقَّفين والمتخصِّصين والعوام من الأوروبيين والأمريكيين، التي ستظلُّ المسوِّغَ والمشرِّعَ لرفض الآخَر، ولاستخدام كلِّ الطرق غير المشروعة للتخلُّص منه.

وهو مسوِّغ فكري مستمرٌّ، وقابل للاستغلال؛ لتنفيذ عمليات إرهابية قد تصل إلى حدِّ استخدام السلاح النووي لتحقيق الغاية السامية لدى هذا التيار، وهي سيادةُ العِرق الأبيض وتفرُّده في نطاقه الجغرافي، والتخلُّص التام من الآخَر؛ عِرقيًّا أو دينيًّا أو ثقافيًّا.