الاتزان في الأطروحات الفكرية هدفٌ يسعى إليه العقلاء، ونهجٌ يختطه العلماء والمبدعون في سيرهم نحو المعرفة بأقل الأخطاء وأفضل السبل، وهو السبيل إلى حماية المجتمع من الأفكار المتطرفة المؤدية إلى الإرهاب، إلا أنه من الصعب جدًا التعامل مع الفكر بوصفه كتلة متماسكة ذات بُعد أحادي؛ لأن هذه الرؤية لا تمكِّن من إدارة الفكر والتعامل الحسن مع أصحابه ومعطياته، ولا يمكن في ظل هذه النظرة تحقيق الاتزان في الأطروحات الفكرية أو التربية عليها وتمكين النشء من اكتسابها، ما لم يرتبط الفكر والتفكير بمنهجية علمية تمكِّن من التحكُّم بمصادره فتعزز الاتزان فيه، وتتوخَّى الحذر من مخرجاته السلبية التي ربما تظهر على صاحبها وعلى المجتمع جميعًا.

استنادًا إلى ما سبق، فإنه يمكن النظر إلى الفكر عبر أبعاده التي تتكامل في تكوينه وتنمية مصادره؛ لتحقيق الاتزان في الأطروحات الفكرية، فتثمر معطيات ثقافية، وحوارات ناضجة، وأطروحات متزنة، تتوافق مع قيم المجتمع وتحافظ على هويته، وتحقِّق التعايش والسلم الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد من جهة، والمجتمعات والثقافات الأخرى من جهة أخرى، بعيدًا عن أطروحات التطرف العنيف المؤدِّي إلى الإرهاب فكرًا وسلوكًا، ومن ثَمَّ فإنه يمكن تفكيك التفكير إلى المصادر المكوِّنة له، ووظيفة كلِّ مصدر منها، ولا يعني ذلك فصلًا يقلل من قيمة التكامل والتداخل المنطقي بين هذه المصادر والمكونات، وهذه المصادر هي:

يتجلى المصدر الأول في المصادر المعرفية التي يتلقَّى منها الفرد معارفه وخبراته وتجاربه؛ إذ يعتمد التفكير على المدخلات التي تُسهم في تكوين الشخصية وبناء الصور الذهنية عن الناس والأشياء. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية «أن طرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركَّب منهما كالخبر؛ فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر». ومصادر المعرفة تكون على وجهين: المعرفة الفطرية: وهي التي يولد بها الإنسان (الغريزة)، مثل معرفة الطفل كيف يرضع من ثدي أمه أو كيف يبكي وكيف يبتسم. والوجه الآخر هو: المعرفة المكتسبة التي يكتسبها الإنسان من بيئته الخارجية، إما بالإدراك أو المشاهدة والملاحظة، أو بتجارب بشرية لأجيال سابقة أو معاصرة، ومن ثَمَّ يكون لنوع هذه المدخلات ومصادرها أثرًا في الأطروحات الفكرية وفقًا لطبيعة الشخصية والصور الذهنية التي تكونت. وتتنوع مصادر المعرفة المكتسبة التي يتلقَّاها الفرد من المحيطين به كالأسرة، والأصدقاء، ومؤسسات التعليم والتدريب، وقد صح في الحديث: (المرء على دين خليله، فلينظرْ أحدُكم مَن يخالل)، فالمرء يشابه صديقه وجليسه في عاداته وطريقة تفكيره وسلوكه وتصرفاته، أو من المصادر التي تنقل له الصورة عن العالم خارج محيطه، وأهمها وسائل الاتصال والإعلام والكتب والمؤلفات بمختلف أنواعها، وهو ما يُؤثِّر في منهجية التعاطي مع الآخرين، والانتقائية في الاستشهاد والتداول، وتحديد الاتجاه الفكري والأحكام المسبقة، وهذا يتطلب الحرص الشديد على انتقاء المصادر في الحصول على المعارف وأنواعها للمحافظة على مدخلات سليمة تفضي إلى الاتزان الفكري.

ويتعلَّق المصدر الثاني الذي يحقِّق الاتزان في الأطروحات الفكرية بأدوات جمع المعلومات وطرقها؛ فالحكم على موضوع ما يستند إلى تصورٍ واضح عنه باستخدام أدوات لجمع المعلومات تتناسب مع الموضوع من جهة، ومع الشخص من جهة أخرى؛ إذ إن لكلِّ موضوع أدواته المناسبة، ولكلِّ شخص أداةً تناسبه؛ استنادًا إلى معايير تتعلَّق بدرجة أهمية الموضوع، والهدف من بناء تصور عنه، و«الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، وهذا يعني ضرورة اختيار أدوات جمع المعلومات المناسبة لبناء التصورات الصحيحة للأفكار والآراء التي تتفاوت وفقًا للفئات العمرية وقوى الإدراك للفرد، ومن ثَمَّ التمكُّن من إنتاج أطروحات فكرية ناضجة ومتَّزنة تتَّسم بالموضوعية والإقناع، وتبتعد عن الأحكام المندفعة والرؤى المبتسرة.

ويتصل المصدر الثالث بمهارات التفكير التي تعالج المعلومات بفكِّ رموزها والاستجابة لها، وعلى هذا، فإن المدخلات المعلوماتية والآراء والأفكار تخضع في هذه المرحلة لست عمليات ذهنية رئيسة تبدأ بالحفظ والاسترجاع، ومن ثَمَّ الفهم، والتحليل، والتركيب، والنقد، وتنتهي بالتطبيق والتجريب. وتمثِّل مهارة التفكير الناقد أسَّ هذه المهارات بوصفها المهارة التي يعتمد عليها التفكير في صوغ مجموعة من القواعد المنطقية التي تساعد على تحليل الفرضيات، ودراسة المعطيات المرتبطة بها؛ وذلك لإنتاج المحتوى وتوظيفه في مخرجات تتباين في طبيعتها بين التذكر، والوصف، والملاحظة، والاستنتاج، والتقييم، والبحث، وحلِّ المشكلات. وهو ما يتطلَّب عنايةً خاصة بمهارات التفكير والتدرب المستمر على إتقانها وتوظيفها، بما يُسهم في حسن التعامل مع المعطيات المعرفية التي يتلقَّاها الفرد من المصادر المختلفة لمعالجة معلوماتية رصينة وموضوعية تؤدِّي إلى الاتزان بالرأي والمشورة والقرار. 

ويختصُّ المصدر الرابع بطبيعة التفكير ونمط صاحبه، وينظر إليه باعتبارين: السبب والنتيجة؛ إذ إن طبيعة التفكير قد تكون نتيجة للمصادر المكوِّنة له، وقد تكون طبيعة التفكير المتأثرة بنمط الشخصية هي السبب المؤثِّر في مدى اتزان الأطروحات الفكرية، وفي هذا المقام يمكن التحدث عن طبيعة التفكير العقلانية التي تستند في طرحها وتلقيها إلى البراهين والاستشهادات، وطبيعة التفكير العاطفية التي تستند إلى الثواب والعقاب، وتتأثر بالمداخل ذات المنحى المشاعري في التعامل مع المعطيات الفكرية قبولًا ورفضًا، وطبيعة التفكير الاندفاعي التي تستند إلى الأهواء والانطباعات الشخصية المنقادة. وهي أنماط تفكيرية متعددة تتطلب فهمًا ودراسةً لتصحيح ما اعوجَّ منها، وتعزِّيز ما استقام، وصولًا إلى نهج فكري منتظم يتَّسم بالنضج والتأنِّي والتأمل لإنتاج أطروحات تتَّسم بالاتزان والموضوعية.

ويرتبط المصدر الخامس بالمنطلقات والانتماءات المذهبية أو الشخصية أو العرقية أو الجغرافية التي يعتنقها الفرد بصورة تجعل تفكيره متحيزًا إليها. قال ابن خلدون في مقدمته: «المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، وهذه الانتماءات تظهر في نمط تفكيره ورؤيته وقناعاته، وربما سلوكه وقراراته. وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الانتماءات الفكرية ونمط التفكير، ومن ثَمَّ ضعف التمكُّن من إدارة هذه العلاقة، والتقليل من انعكاساتها السلبية، يبقى من المهم تأكيد أن الحقَّ هو الهدف النهائي لكلِّ حوار فكري، واحترام أطروحات الآخرين والنظر إليها بعين الباحث عن الحق، والبعد عن التعصب للرأي المبني على تقديس الانتمائية، وتجاهل الدليل الصحيح لمخالفته تلك الانتماءات هو السبيل لإدارة هذه الانتماءات وتعزيز الحياد والموضوعية في الأطروحات الفكرية بما يحقِّق الاتِّزان فيها.

هذه المصادر وغيرها تتطلب جهدًا تربويًّا وتعليميًّا وتدريبيًّا للعناية بها معرفيًّا وقيميًّا ومهاريًّا. قال ابن الحاج المالكي: «اعلم أن الصبي أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسة خالية من كلِّ نقش وصورة، وهو قابلٌ لكلِّ نقش، وقابلٌ لكلِّ ما يمال به إليه، فإنْ عُوِّد الخيرَ وعُلِّمه نشأ عليه». وهذا يقع على عاتق الأسرة ومَن له سلطة على النشء، ومراكز المعرفة بمختلف أنواعها، بما يمكِّن الفرد من التفكير المتزن المفضي إلى إنتاج ثقافي وفكري وحضاري يأخذ في الحسبان قيم المجتمع وثقافته السائدة، ويحقِّق -في الوقت ذاته- لصاحبه ومجتمعه التعايش والاستقرار والسِّلم الاجتماعي الذي يؤدِّي إلى تحقيق التطور والتنمية المجتمعية المستدامة.