عرف التاريخُ البشري صراعاتٍ وحروبًا كثيرة بين المجموعات البشرية داخل الدولة الواحدة وخارجها، واتخذ ذلك السلوك أشكالًا وأبعادًا جديدةً مع بروز الممالك والإمبراطوريات التي سعت إلى التمدد جغرافيًّا عبر عمليات الغزو المنظَّم؛ لتحقيق غايات وأهداف متنوعة (اقتصادية وسياسية ودينية واجتماعية... إلخ).

وكان لخطاب الكراهية أثرٌ سلبي في تلك المجموعات المتنافرة؛ أسهم في تبدل المشاعر المـُهيئة إلى ممارسات غير إنسانية كعمليات الإبعاد والطرد والنفي والتجويع والسلب والنهب، وصولًا إلى المذابح والإبادات الجماعية في بعض البلدان، حيث تنتعش خطابات الذمِّ والقدح والتشهير والتخوين، في سياق الاستقطابات والانقسامات الداخلية في الدول، فكلما زادت أوجه الانهيارات على مستويات عدة، تمدّدت تلك الخطابات وتشعَّبت من الفضاء الواقعي «قديمًا» إلى الفضاء الافتراضي «حديثًا» لِتُحدث في النهاية جملةً من التداعيات والآثار غير الحميدة.

وكذلك الانتشار السريع والفائق لهذا النوع من المحتوى بين الأوساط الجماهيرية المـُستهدفة في واقعنا المعاصر، أوجد تحديات ومعوقات كبيرة على كلِّ المستويات؛ لتحجيمه ومحاولة احتوائه وإبعاده. مما يوجب تحليله، وكشف مسارات ذلك الخطاب بين المجموعات البشرية بالتركيز على البعدين الاجتماعي والسياسي وتحليلهما من منظور سوسيولوجي بوصفهما محركين أساسيين للعنف في الكثير من الحالات قديمًا وحديثًا.

الكراهية والخطاب

الكراهية عاطفة بشرية قد تكون ثابتة أو عابرة، لذلك يمكن أن نميِّز بين الغضب الشديد المؤقت، وبين الكراهية الدائمة أو المتقطعة، أما خطاب الكراهية فهو شكلٌ من أشكال التعبير عن فكرة أو رأي أمام جمهور على نحو خطي أو لفظي أو مرئي. ويتجسَّد لفظًا أو ممارسةً تجاه الآخر عن طريق الغضب والوصم، والازدراء والاشمئزاز، وإطلاق اتهامات دون سند أو تبرير، والشتم والقذف، والإهانة والاستعلاء، والاستهجان والتحقير.

ويمتد مضمون تلك اللهجة ليشمل إبراز التميُّز عن الآخر على أساس هوياتي كالجنس والعرق والدِّين والمعتقد والانتماء الفكري أو غيرها، ويدعو خطاب الكراهية صراحةً أو ضمنًا إلى التهديد الرمزي، والتحريض، والاعتداء المادي، ضدَّ فرد أو فئة أو شريحة معينة، ويحمل في ثناياه ديناميات تبريرية تُسوِّغ للعنف بشقيه المادي والرمزي.

ويكمن خطر الكراهية عندما تتحول إلى عاملٍ من عوامل التوترات الاجتماعية أو الأيديولوجية أو الدينية أو السياسية أو جميعها، تجاه المحددات ذات العلاقة بالهُوية، مما يؤدِّي إلى ممارسة العنف بأشكاله المختلفة، عبر ممارسة فردية أو جماعية، تتخذ أشكالًا مختلفة ومتباينة، تصل في حدِّها الأقصى إلى الرغبة في تصفية الآخر وإبادته جسديًّا أو رمزيًّا.

وتنشأ الكراهية وتتوغل في المجتمعات المـُهيئة لجملة من العوامل المتنوعة والمتشابكة أيضًا، منها العوامل النفسية والاجتماعية، كالانغلاق وغياب ثقافة تقبُّل الآخر باختلافاته وآرائه. كما يقوم الخطاب السياسي السائد بدور مهمّ في نشر هذا الخطاب؛ وذلك عندما يسعى إلى تحريض الأفراد على العنف تجاه مجموعات مهمشة.

 التمييز والتهميش

يتنامى الشعور بالتمييز العنصري والتهميش الاجتماعي، عندما لا تُعدُّ فئة ما جزءًا من المجتمع من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو المهنية أو غيرها، وهو شعورٌ مشابه إلى حدٍّ بعيد للمستبعدين اجتماعيًّا، حيث يُعبَّر عن ذلك بآليات ووسائط تطورت بمرور الزمن، من ضمنها وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي بمنصاتها المتعددة التي يجري استغلالها لنشر خطابات عنصرية وتمييزية موجهة، هدفها تهميش بعض الفئات وتزكية الكراهية باللون والعرق والشكل والدِّين والنوع، وتصويب السهام نحو بعض المكونات كالمرأة والأقليات والعمالة الوافدة واللاجئين والفارِّين من الحروب.

يشكِّل خطاب الكراهية القائم على التمييز والتهميش خطرًا كبيرًا على المجتمعات، ولا سيَّما إذا حرَّض على العنف تجاه مجموعات أخرى في المجتمع، إضافةً إلى أشكاله الأقل حدَّة، مثل: التحقير، وتقليل الشأن، والشتم المتكرر، والافتراء، أو الصور المؤذية، مما تُؤدِّي إلى مزيدٍ من التداعيات السلبية على تماسك المجتمع ووحدته. ولعل نموذج دولة "جنوب إفريقيا" ونظام الفصل العنصري القائم على الشكل واللون والهُوية بين البيض والسود والخلاسيين (مختلطي العرق) والهنود أقرب، أوضح مثال على ذلك.

وكذلك الحال في الخطاب التمييزي الموجه من بعض المكونات في القارة الأوروبية ضدَّ المهاجرين واللاجئين وبعض الأقليات، فإن شيوع مثل هذه الخطابات يُلحق نوعًا من الأذى النفسي، ويُسهم في تعزيز نطاق تهميش الفريق المستهدف، فضلاً عن ارتفاع عدد الهجمات ضدَّ المستهدفين، بما يهدِّد سلامةَ القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وصولًا إلى إلحاق الضرر بالمجتمعات، والعمل على التقسيم القائم على الهُوية، فقد وجدت دراسة أجريت في "السـويد" علاقةً كبيرة بين الخطابات التحريضية المنشورة المتعلقة باللاجئين في أثناء مدة معينـة، وبين تزايد الاعتداءات عليهم في المدة نفسها.

الاستبعاد والانعزالية

إن غيابَ علاقات الشخص مع أفراد مجتمعه المكملين له، وتنامي رغبته في التخلص من الأشخاص المغايرين لهُوياته، شعورٌ سلبي يُؤدِّي في النهاية - إذا جرى استغلاله بخطابات تحريضية - إلى نتائج كارثية على وحدة المجتمعات وتماسكها؛ إذ يشير الاستبعاد والانعزالية الاجتماعية إلى حرمان الأشخاص من حقوق المواطنة المتساوية على مختلف المستويات، كالمشاركة في الإنتاج والعمل والاستهلاك والإدارة والتفاعل الاجتماعي بما يؤدِّي إلى انعزاله.

ولا شك أن شعور بعض الفئات داخل أيِّ مجتمع باستبعادهم من التوزيع العادل للموارد وفرص العمل وغيرها، يُسهم في تقوية الميول الانعزالية لهم، ويتفاقم الوضع كلما كان موقف الحكومات المركزية متحيزًا إلى فئةٍ دون أخرى، حيث تنتشر خطابات الكراهية المندِّدة بالآخر المختلف في أوساط الفئات المستبعدة، وهناك من النماذج الواقعية في تاريخنا الحديث ما يُدلل على ذلك ويؤكده.

ومثال ذلك الشعور بالاستبعاد والانعزالية بين "الرعاة" مستوطني الشمال في دولة مالي وبين "المزارعين" مستوطني الجنوب، نتيجة لتركز الخدمات والتنمية والسلطة وتوزيع الموارد على فئة دون أخرى، مما أعطى انطباعًا لرعاة الشمال باستبعادهم وانعزالهم اجتماعيًّا، وأسهم بما لا يدع مجالًا للشك في تنامي خطابات الكراهية المتبادلة بين مواطني الإقليمين، وظهور فصائل مسلَّحة استغلتها التنظيمات الإرهابية وراح ضحيتها الآلاف من المواطنين.

على نحو عام، ونظرًا لأن الخطاب المبني على الكراهية والتمييز والعنصرية والإقصاء، يُمثِّل ظاهرة معقَّدة ومتعدِّدة الأوجه، يمكن فهمها وتحليلها من منظور اجتماعي بناءً على بعض الدراسات عبر الملامح الآتية:

السياق الاجتماعي والثقافي: يُؤثِّر السياق الاجتماعي والثقافي على نحو كبير في نشوء خطاب الكراهية وانتشاره. على سبيل المثال، تاريخ العلاقات بين مجموعات مختلفة والممارسات التاريخية يمكن أن تقوم بدور كبير في تشكيل هذا الخطاب.

الهُوية والانتماء: تتأثر الهُويات الاجتماعية والثقافية بالمجتمعات والمجموعات التي ينتمي إليها الأفراد؛ إذ يظهر خطاب الإقصاء عندما يشعر الأفراد بتهديد لهويتهم أو انتمائهم من قِبل مجموعة أخرى.

السلطة والهيمنة: قد يُتخذ خطاب الكراهية وسيلةً للحفاظ على السيطرة والهيمنة على مجموعة معينة عبر تحديد المجموعات الأخرى وتمييزهم كعدو أو تهديدهم.

السياسة والقانون: يمكن أن تُؤثِّر السياسات الحكومية والقوانين في تشجيع خطاب الكراهية أو تقييده. على سبيل المثال: تشريعات تحمي حقوق الإنسان وتجرِّم التمييز يمكن أن تقلِّل من انتشار هذا النوع من الخطاب.

وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات: لوسائل الإعلام ومواقع التواصل بمنصاتها المختلفة تأثيرٌ كبير في نشر خطاب الكراهية؛ إذ بيَّنت دراسةٌ منشورة عام 2017 عن علاقة الإنترنت بالاستقطاب السياسي للباحث "جينتسكو بوكسال" أن ظهور وسائط الإعلام الاجتماعي والإنترنت العامل الرئيس لزيادة الاستقطاب السياسي في المجتمع الأمريكي.

التفاعل الاجتماعي: التفاعلات بين الأفراد والمجموعات في المجتمع يمكن أن تؤدِّي إلى تعزيز خطاب الكراهية أو تقليله. على سبيل المثال: التواصل المنفتح والاحترام المتبادل قد يقلِّل من التوترات والصدامات.

الحركات الاجتماعية والنشاطات النقابية: يمكن أن تقوم الحركات الاجتماعية بدور في مكافحة خطاب الكراهية عبر نشر التوعية وتنمية الشعور بأهمية التعايش السلمي والاحترام المتبادل.

التغيرات الديموغرافية: التغيرات في تركيبة المجتمع يمكن أن تُؤثِّر في نظرة الناس تجاه الأمور المختلفة وتشجع على التسامح أو العداء.

 ووفقًا لتلك الملامح العامة التي تُؤثِّر في انتشار خطاب الكراهية أو الحدِّ من أضراره، فقد فرَّق التيار الرئيس في أدبيات النظم السياسية والعلاقات الدولية بين عدة خطابات للكراهية يجري استخدامها في مجتمعات متعددة، وفي ظروف وأوضاع مختلفة ومتباينة لضمان التفوق السياسي والاستقطاب الجماهيري من بينها:

الكراهية المضادة: ويظهر هذا الخطاب بين القوى السياسية والأحزاب الحاكمة في عدة مجتمعات عربية وأوروبية، كأحزاب اليمين واليسار، ويُستغل لحشد الدعم والتأييد لضمان الوصول إلى الحكم.

الكراهية الطائفية: وتستخدم لاعتبارات مذهبية أو دينية في مجتمعات متعددة. فالحالة المذهبية مُكرَّسة في اليمن والعراق، والحالة الدينية تظهر بخطابات سياسية في عدة دول غربية، وقد نتج عنها استهدافات متكررة للمسلمين في كندا والسويد والدنمارك وألمانيا والنمسا وفرنسا، فيما يعرف بالإسلاموفوبيا.

الكراهية المناطقية: ويظهر هذا الخطاب التهميشي بين ساكني المناطق التي تحظى بالاهتمام من قبل الحكومات والمناطق المحرومة من خدمات التنمية، وتعاني عدة دول في القارة الإفريقية من انتشار هذا النوع من الخطابات على المستويين الاجتماعي والسياسي.

الكراهية الحادة: وتظهر في متون خطابات بعض القوى المدنية والأحزاب السياسية في القارة الأوروبية لمعاداة المهاجرين واللاجئين، وتظهر أيضًا بين العمالة الوافدة وقطاعات مجتمعية من بعض الدول المستضيفة لها. وإذ يغلب على هذا النمط من الكراهية السمة العنصرية والعرقية تجاه اللون والعرق، إلا أنَ الأسباب الاقتصادية قد تضغط بنحو كبير على تصاعد وتيرة هذا الخطاب؛ إذ تزداد كراهية المهاجرين واللاجئين في بعض الدول بتأثير التجاذبات السياسية ومزايدات السياسيين، فينظر السكان المحليون إلى هذه الفئة بوصفها سببًا في ارتفاع معدلات بطالة المواطنين وعبئًا على الاقتصاد أو الرخاء الاقتصادي.

التوظيف السياسي

إنَّ ظاهرةَ توظيف خطاب الكراهية في الشؤون السياسية الداخلية أو الخارجية للدولة الواحدة، ليست وليدة للحظة الراهنة أو للتاريخ الحديث الذي شاع فيه إمكانية التوغل والانتشار بفضل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، إنما هي ظاهرةٌ قديمة قدم المجتمعات، وقد جرى عبر التاريخ الإنساني محو العشرات من الشعوب من الخريطة بطريقة منهجية، بفضل التعبئة والحشد التحريضي، ولم تقتصر هذه الممارسات على التدمير المنهجي لمجموعة عرقية أو دينية محددة؛ بل كانت إحدى الممارسات الأكثر دموية وشيوعًا تجاه الكثير من الفئات.

فلم تكن إستراتيجية الحرب لدى الإسكندر الأكبر (356-323 قبل الميلاد)، تعني له هزيمة العدو فحسب؛ بل إبادة جميع المقاتلين، وتدمير ثقافة الشعوب المستهدفة ذاتها التي تجرأت على معارضة هيمنته الإمبراطورية. وهو الأسلوب نفسه المتَّبع عند وصول المستكشف الإسباني "كريستوفر كولومبوس" للقارة الأمريكية؛ إذ ارتكب الأوروبيون الجدد جرائمَ إبادة وحشية ضدَّ السكان الأصليين "الهنود الحمر" بعد عدِّهم كائناتٍ منحطة بالوراثة وأقلَّ منزلة ويجب التخلص منهم.

  وفي تاريخنا الحديث اتخذ "أدولف هتلر" والنازيون في ألمانيا خطاب الكراهية نقطةَ انطلاق لحدوث الجرائم الجماعية، وهو أمر تجسَّد زمن التوترات الدولية بين الحربين العالميتين (1918-1939) وما بعدها عندما وظَّفت الدعاية لزرع الكراهية والخوف ضد الكثير من الجنسيات والفئات. وفي واقعنا المعاصر كشفت دراسة "بيازا 2020" أنَّ بعض السياسيين الحاليين يعمِّقون الانقسامات القائمة حين يستخدمون لغةً تحريضية في خطاباتهم بهدف حشد المؤيدين، ونزع الشرعية عن المعارضين، ممَّا يجعل مجتمعاتهم أكثر عرضةً لتجربة العنف السياسي والإرهاب.

وبناءً عليه، هناك أهميةٌ كبيرة للتصدي لخطاب الكراهية بتفكيك مسبباته وبيئاته الحاضنة، وزيادة الوعي، وتعميم ثقافة الحوار، وبثِّ قيم حقوق الإنسان، واحترام الآخر المختلف، فضلاً عن إيجاد إطار قانوني يُجرِّم الجهات والأفراد الذين يتخذون الكراهية ورفض الآخر أداةً لتحقيق الأهداف السياسية، وكذلك تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم إيجاد فوارق بين مكونات المجتمع الواحد، وفي الوقت نفسه ضمان حريات التعبير والمشاركة السياسية على نحو يضمن تعميم السِّلم الأهلي والتماسك الاجتماعي.