تمكَّنت الدولةُ الفرنسية من تكوين إمبراطورية عظيمة مترامية الأطراف في أرجاء المعمورة، جعلت منها الثانيةَ من حيث القوةُ والاتساعُ بعد الإمبراطورية البريطانية التي قيل: إنها لا تغيبُ الشمس عن أراضيها، فكانت تنافسها دائمًا، وتسعى إلى زيادة مُستعمراتها في آسيا وإفريقيا، باذلةً من أجل تحقيق مطامحها كلَّ إمكاناتها المادِّية والعسكرية، ساعيةً نحو الحفاظ على أمجادها الاستعمارية، وإرثها النفيس في مُستعمراتها القديمة.

أزمة بارخان والرأي العام
تعلو في فرنسا أصواتٌ شعبية ورسمية تطالب باريس بإنهاء عملية «بارخان» العسكرية، الحاضرة في الساحل الإفريقي منذ ما يزيد على سبع سنوات، وإعادة الجنود الفرنسيين إلى ديارهم؛ بسبب الخسائر الكبيرة المادِّية والبشرية التي تتكبَّدها، في سلسلة صراعاتها مع الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل. 

وفي الوقت الذي تزداد فيه التهديداتُ الإرهابية في إقليم الساحل وغربي إفريقيا، وتُودي بالمزيد من الضحايا في صفوف المدنيين والقوات العسكرية على السواء؛ إذ تتناسلُ الجماعات الإرهابية المسلَّحة، وتزداد بفعل التدخل الخارجي، تجدُ فرنسا نفسها في أزمة أمام الرأي العام الداخلي، من دون أن تكونَ قادرةً على تنفيذ وعدها للدول الإفريقية عام 2013م، بقطع دابر الجماعات المسلَّحة، حين قرَّرت إنشاء قوة عسكرية محلِّية تحت اسم «سيرفال»، ثم غُيِّر اسمُها في العام التالي ليصير «بارخان»، بمشاركة البلدان الخمسة في المنطقة الأكثر تعرُّضًا لهجوم الجماعات الإرهابية، وهي: تشاد، والنيجر، وبوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا.

ونشرت صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية، في عددها الجديد لشهر أبريل 2021م، تقريرًا قالت فيه: «إن فرنسا تُنفق ما يزيد على مليار يورو سنويًّا، على الحاجات المتعلِّقة بعملية بارخان في الساحل، سواءٌ تعلَّق الأمر بالجوانب الخِدْمية، أو الجوانب البشرية؛ من جنودٍ وخبراءَ تقنيين، وعاملين وأطبَّاء. وإن البلدان الأوروبية الأخرى المشاركةَ في العملية بقوات رمزية تحت رعاية الأمم المتحدة، ترفضُ القيام ببعض العمليات العسكرية في ملاحقة الجماعات الإرهابية؛ خوفًا من الخسائر البشرية التي قد تؤدِّي إلى أزمة سياسية، وتأليب للرأي العامِّ الداخلي، مثل بريطانيا التي لا تزال ترفضُ مشاركة مِروحيَّاتها في العمليات العسكرية، مما يجعل فرنسا وحدَها في الواجهة، متحمِّلةً كلَّ الاستحقاقات التي تخصُّ عمليات مطاردة فلول الإرهابيين المسلَّحين».

وقد أدَّى ذلك إلى تراجع نسبة مؤيِّدي التدخُّل العسكري في الساحل، لدى الرأي العام الفرنسي؛ إذ تراجعت النسبةُ من %73 في عام 2013م إلى %49 قبل أسابيع، وبات الرئيسُ الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي كان يمنِّي الفرنسيين بتمدُّد أمني واقتصادي أكبر في القارَّة الإفريقية، يواجه مصيرَ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في حرب فيتنام في النصف الثاني من القرن الماضي، حين أرسل  مزيدًا من الجنود إلى فيتنام؛ لتعزيز الوجود العسكري الأمريكي، وهذا ما فعله ماكرون الذي تعهَّد بتعزيز قوات بلاده في الساحل؛ برفع عدد الجنود من 5300  إلى 5900 جندي.

القوات الفرنسية في الساحل
لم يعُد سرًّا أن فرنسا تُدرك اليوم فِقدانها زِمام المبادرة في بلدان الساحل، وقد حصل لها ذلك عمليًّا عقب الانقلاب على حكم «إبراهيم أبو بكر كيتا» في شهر أغسطس عام 2020م، ذلك أن باريس فوجئت بالانقلاب الذي كان يحمل نوعًا من التبرُّم من الوجود الفرنسي؛ لأن الرئيس الذي أُطيح به كان محسوبًا على باريس، وقد وافق انتخابه إنشاءَ قوة «سيرفال» في مالي عام 2013م. وكان بَرنامجه الانتخابي مقصورًا على أمرين هما: اجتثاثُ العنف، وإعادة الأمن. ولم يتحقَّق أيٌّ منهما، بخلاف ما كان يحصُل في الماضي في تاريخ الانقلابات الإفريقية. 

ووَفقًا لخبراءَ ومحلِّلين فرنسيين، فإن حصولَ ذلك الانقلاب من دون التنسيق مع فرنسا يدلُّ على أن بعض الدول الإفريقية باتت قادرةً على التمرُّد على الوصاية الفرنسية. ودفعت هذه الوقائعُ باريس دفعًا إلى إحداث نوع من التعديلات الخَجلى على سياستها الأولى، فبدلًا من التوغُّل كان التراجع! وبدلًا من قرار زيادة عدد جنود قوة «بارخان» كان الحدُّ منه؛ إذ بات الرأي العام الفرنسي أكثرَ ميلًا إلى الانسحاب الفرنسي من الساحل الإفريقي، مما دفع ماكرون إلى أن يفتحَ الباب أمام تقليص القوات العسكرية الفرنسية في المنطقة شيئًا فشيئًا، عقب قمَّة «بريست» في الأسبوع الثالث من شهر يناير الماضي 2021م، ملقيًا مسؤوليةَ مواجهة الجماعات المسلَّحة على كاهل البلدان الإفريقية الخمسة.

الحضور الإرهابي في الساحل
لم يتراجع خطَرُ الإرهابيين بعد سبعة أعوام من حضور القوات الفرنسية، والحضور الرمزي لبعض البلدان الأوروبية الأخرى، مثل: بريطانيا وبلجيكا وهولندا؛ بل ازداد اتساعًا. ووَفقًا لآخر الأرقام الواردة في التقارير الفرنسية، فإن العملياتِ الإرهابيةَ ازدادت بنسبة %60 عام 2020م مقارنةً بعام 2019م، وهي نسبة تُنذر بالخطَر. كما خلَّفت عشَرات الآلاف من القتلى، أكثر من %56 منهم من المدنيين، مما يُفضي إلى مشكلات جانبية على قدر كبير من الخطَر على بلدان المنطقة، مثل هجرات السكَّان الفارِّين من الإرهاب، سواءٌ كانت الهجرة داخليةً أو خارجية. 

ولم تسلَم القواتُ التابعة للأمم المتحدة من التعرُّض لعمليات بين حين وآخرَ، تستهدف قواتها العسكرية، محاولةً زرع اليأس في نفوس المجنَّدين الذين ينحدرون من بلدان المنطقة، وهزِّ الثقة بصدق الأمم المتحدة، والتشكيك في قدرتها على أداء مهامِّها؛ إذ لقي قرابةُ 160 من أصحاب القبَّعات الزُّرق مصرعهم على يد الجماعات الإرهابية المسلَّحة، مما يجعل هذا الملفَّ أكثرَ مهامِّ الأمم المتحدة صعوبةً في مناطق النزاع العام؛ إذ يقول مراقبون أوروبيون: «إن القواتِ الأمميةَ في مالي ليست سوى قواتٍ رمزية، لا تستطيع أن تصنعَ سلامًا، ولا أن تُطفئَ حربًا؛ لأنها لم تنجَح في فرض السلام في البلاد، بعد مرور خمس سنوات».

آثار التراجع الفرنسي
تعرَّضت فرنسا إلى ضغط شعبي ورسمي دفعها إلى التفكير الجادِّ في مراجعة سياساتها العسكرية في المنطقة، وسحب قواتها شيئًا فشيئًا. ويقوم النقاشُ الصاخب الذي شهده البرلمانُ الفرنسي قبل أسابيع، بين المعارضة من جانب ووزيرَي الخارجية والدفاع من جانب آخر، بشأن موضوع الحضور العسكري الفرنسي في منطقة الساحل وآفاقه، دليلًا على ذلك. ولا تكتفي المعارضةُ بسماع تصريحات المسؤولين الفرنسيين بإمكان إجراء مراجعة جذرية وشاملة للانتشار العسكري في الساحل؛ بل تُطالب ببرنامج زمني محدَّد لسحب القوات الفرنسية من هناك.  ولكنَّ مشهد الانسحاب من الساحل في هذه الظروف بالذات، ستكون نتائجُه سلبية وربما وخيمة، سواءٌ على فرنسا أو على بلدان المنطقة؛ إذ سيُفسَّر بأنه هزيمة أمام هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية، وسيُعَدُّ انتصارًا لها، مما يؤدِّي إلى توظيف ذلك الانسحاب في رصيدها أمام شعوب المنطقة، وهو ما تبحثُ عنه هذه الجماعات.

أما ما يتعلَّق ببلدان المنطقة، فإن الانسحاب الفرنسي سوف يترك صَدعًا كبيرًا في الجدار الأمني في الساحل، ويجعل حكوماتها عاريةً أمام الجماعات الإرهابية التي ستنفرد بالجهد الرئيس في المعركة، في وقتٍ تبحث فيه تلك البلدانُ عن أحسن الخِيارات لمواجهة التحدِّيات الإرهابية، وتحاول جاهدةً تقوية صفوفها؛ استعدادًا لما بعد رحيل الجنود الفرنسيين المشاركين في عملية «بارخان».

وقد عبَّر تقريرٌ صدر حديثًا عن لجنة الدفاع في البرلمان الفرنسي، في أعقاب النقاشات في موضوع الانسحاب من عدمه، عن تأييده خِيارَ الإبقاء على عملية «بارخان» إلى أن تؤتيَ ثمارها، وتُعطيَ نتائجها التي وُضعت من أجلها قبل سبع سنوات، وتصبحَ بلدان المنطقة قادرةً على أن تتحمَّل كُلفةَ مواجهة الإرهابيين. ووَفقًا لهذا التقرير فإن فرنسا «لا تغرق في الساحل»؛ بل هي حاضرةٌ هنالك لمواجهة الإرهابيين حتى القضاء عليهم، كما أنه «لا يوجد حلٌّ بديل لبارخان». 

إن العملية المشار إليها ستتطوَّر مستقبلًا؛ بفضل الشركاء الغربيين والأفارقة الذين اتفقوا على وضع خطة أمنية إقليمية تحلُّ محلَّ عملية «بارخان» على مراحلَ، وهذه المخاوفُ هي مخاوف الاتحاد الأوروبي أيضًا. ذلك أن من الأوروبيين مَن ينظر إلى ما يجري في منطقة الساحل على أنه تحدٍّ أوروبي قبل أن يكون إفريقيًّا، ومِحَكًّا للقوة العسكرية الأوروبية ذاتها في منطقة البحر الأبيض المتوسط. 

الحضور الأوروبي في الساحل
تتكوَّن القواتُ العسكرية الجديدة عن الجانب الأوروبي من قوات رمزية تابعة لتسعة بلدان أوروبية، أبرزُها فرنسا التي تشارك فيها بخمس مئة جندي، وتشيكيا بمئة وسبعين جنديًّا، وإستونيا بأربعين جنديًّا. ومهمَّتها مواجهةُ الجماعات الإرهابية المسلَّحة، وملاحقة الإرهابيين في منطقة الساحل، وتعزيز القوات المحلِّية للبلدان الخمسة في المنطقة. 

بَيدَ أن عدد هذه القوات غيرُ كافٍ وَفقًا لمراقبين، مما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون إلى المطالبة بإرسال ألفَي جندي آخرين لمساندة القوات المقيمة، وهي إشارةٌ إلى ألمانيا التي لا تزال تستنكفُ عن تعزيز مشاركتها العملية في المخطَّطات والمشاريع العسكرية الأوروبية في إقليم الساحل، وفي عمليات التمويل والتنفيذ. 

وقد جاء تكوينُ هذه القوة العسكرية الأوروبية المشتركة نتيجةً للاتفاق الذي كان في اجتماع افتراضي بواسطة الإنترنت، في شهر مارس من عام 2020م في فرنسا، بمشاركة ألمانيا وبلجيكا والدانمارك وإستونيا والنرويج وهولندا والبرتغال وجمهورية التشيك والسويد وبريطانيا ومالي والنيجر، وقد اتفقوا على إرسال قوة عسكرية أوروبية مشتركة إلى المنطقة.

وعدَّت باريس الاتفاقَ في ذاك الاجتماع على تكوين قوة عسكرية مشتركة لمحاربة الإرهاب انتصارًا لسياستها الإفريقية، لكنَّ حُزمةَ الآمال تلك قد لا تتحقَّق وَفقًا لما تسعى إليه حكومةُ ماكرون؛ لأن بعض الدول الأوروبية تتردَّد في المشاركة العسكرية على النحو المطلوب، وتريد أن تكونَ مشاركتها رمزيةً بقوات قليلة فقط، في حين هناك بلدانٌ أخرى مثل السويد تعلِّق مشاركتها على تصويت برلمانها لصالح القرار.

موقف الدول الإفريقية
ما تقدَّم كان موقفَ الدولة الفرنسية ودول الاتحاد الأوروبي، لكن ماذا عن الدول الإفريقية، التي هي الضحيةُ الأولى للإرهاب في الساحل وغربي إفريقيا؟

يتطلَّب هذا الواقعُ من الدول الإفريقية التفكيرَ في عقد شراكة جماعية لمواجهة الإرهاب والإرهابيين، وتنسيق جهود هذه البلدان في مواجهة الجماعات المسلَّحة التي قد يزداد خطرها في حال شَرَعت فرنسا في سحب قواتها رُوَيدًا رُوَيدًا في الشهور المقبلة، أو على الأقلِّ قامت بتقليص عددها. 

من هنا كانت ضرورةُ التفكير في إنشاء قوة عسكرية موحَّدة مشتركة بين البلدان الإفريقية، وهو الاقتراحُ الذي سبق أن تقدَّمت به دولتا المغرب ومِصر؛ لأنه من دون هذه القوة العسكرية المشتركة، التي سيكون من مهامِّها ملاحقةُ فلول الإرهابيين، ومراقبةُ الحدود بصرامة، ومطاردةُ جماعات الجريمة المنظمة والمهرِّبين الذين باتوا في الواقع سندًا وعونًا للتنظيمات الإرهابية، من دون هذه القوة العسكرية الموحَّدة سوف تزدادُ التحدِّيات أمام عواصم الدول الإفريقية في المستقبل القريب.