​الإنسانُ هو الكائن الوحيد الذي يطمح بشغَف إلى الأمن والسلام، والسعادة والرفاهية، ويسعى بقوة إلى الثروة والسُّلطة، وأهمُّ من ذلك، حرصه على الحياة التي ترتبط بكلِّ هذه المعاني. بيدَ أن في داخل هذا الإنسان طاقاتٍ عُدوانيةً تدفعه إلى استخدام القوة في إيذاء الآخرين، كشأن الكائنات الأخرى. ولعلَّ هذا مما يُفضي إلى النزاع والصِّراع بين البشر، وقد ظهرت تجلِّياتُ هذه الطاقة في أكبر واقعة للعَداء والعنف في الحربين العالميَّتين، وامتدَّت إلى ما نراه اليوم من صور القتل والإرهاب.

رؤًى لمواجهة التطرُّف
إن هناك ضرورةً تقتضي البحثَ في هذا الموضوع؛ لمعرفة ما إذا كان الإنسانُ يعي التناقضَ بين السعي إلى السعادة والرفاهية من جهة، ومآل هذا السعي نحو الصراع والعنف من جهة أخرى، وكيف تدفعُ به المؤثِّراتُ المختلفة إلى إضفاء الشرعية على أنواع العنف والإرهاب؟ 

وأصبح من المهمِّ دراسةُ الأسباب التي تدفع إلى الانتماء لجماعات متطرفة، وصفات الأفراد المنتمين إليها، وطُرق هذه الجماعات في جذب عناصرها وتجنيدها؛ بهدف إنشاء قاعدة بيانات أمنية، تضع حلولًا تحدُّ من تفشِّي ظاهرة الإرهاب، وتتصدَّى لأثر العقائد الفكرية المتشدِّدة، وتعيد تأهيلَ المتطرفين السابقين، وتَثنيهِم عن فكرهم المدمِّر.

 وعلى الرغم من أهمية الجانب الأمني في مكافحة التطرف والإرهاب، لا يمكن اختزالُ القضية في هذا الجانب فقط، فهي ليست أُحاديةَ البُعد من حيثُ أسبابها، وطرقُ علاجها، وإن تصدِّيَ أجهزة الدولة لها لا ينبغي أن يقتصرَ على الجانب الأمني وحدَه؛ لأنه قد يُفضي إلى مزيد من العنف. وإن دراسة ظاهرة العنف والتطرف وتفسيرها تنطوي على رُؤًى فلسفيةٍ واجتماعية تختلف عن الرؤى الأمنية، ويجب أن تُؤخذَ في الحُسبان؛ لأنها تغوصُ في عقل المتطرف، وتهتمُّ بتحليل الدوافع والمؤثِّرات في سلوكه؛ للوصول إلى البواعث الدافعة إلى ارتكاب جرائمه، وتلك هي الخطوةُ الأولى في مواجهة المشكلة، واقتلاع جذور الإرهاب. 

فِكر الجماعات المتطرفة
أما فكرُ الجماعات أو التنظيمات المتطرفة عمومًا، فإنه ينطلق من الأشخاص المؤثِّرين فيها، وأنماط تفكيرهم، ومدى انخراطهم في الجماعة. وتتداخل مجموعةٌ من العوامل المؤثِّرة، كقوة القائد، ودرجة ارتباط عناصر التنظيم به؛ لتحويل مبادئ الجماعة إلى عقيدةٍ فكرية يعتمدها التنظيم، ومن ثَمَّ يمكن اعتناقُها، وتطبيق مبادئها في الواقع.  وتستغلُّ تلك الجماعاتُ الظروف الاجتماعية الصعبة التي يعيشها كثيرٌ من الناس في استقطاب عناصرها؛ إذ إن الشخص الذي يكون ناقمًا على مجتمعه وحاقدًا عليه، يصبح فريسةً سهلة لتلك الجماعات، وبعد عمليات غسل المخِّ في معسكرات التدريب التابعة للتنظيمات، التي تنمِّي لديه الشعور بالاغتراب، وتُشعره بعظمة الانتماء، وتوهمه بالقتال من أجل النعيم، يصبح الإرهابي الجديد شديدَ الحماسة لتنفيذ كلِّ ما يُؤمَر به.

من أنواع التطرُّف
يمكن الاكتفاءُ بذكر نوعَين من التطرُّف؛ أولهما: عقيدي فكري، ينشأ لدى الفرد بسبب وسائل الإعلام، وشبكات الإنترنت، التي تبثُّ فكر الجماعة. والآخر: عاطفي وِجداني، يعبِّر فيه المتطرِّف عن غضبه وإرادته التغييرَ بسلوك طريق العنف. كأولئك الذين يرَون وجوبَ عودة الخلافة حتى تسودَ العالم بأسره، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية فإن استخدام العنف يصبح مشروعًا لديهم، وغالبًا ما يجني في طريقه على كثير من الأبرياء.

ويصبح «الآخَر» غير المنتمي لفكر الجماعة ضحيةً مشروعةً لهذا العنف، الذي قد يسبِّبه حبُّ السيطرة والتملك، أي سيطرة المتطرف على (الآخر) وفكره، لصالح فكر الجماعة الخاصِّ المتشدِّد. وإذا كانت الدولةُ بحسَب «ماكس فيبر» تمتلك العنفَ المشروع، فإن ذلك لم يعُد حِكرًا عليها، ولا سيَّما العنف الرمزي الذي أصبح منتشرًا في كلِّ مكان، بعد أن تكفَّلت بنشره التقنيةُ عبر الهواتف الذكية والحواسيب وغيرها. 

وهناك ينتشر الخطابُ شبه الدِّيني «المقروء، والمسموع، والمرئي»، الممزوج بالكراهية والعنصرية والعصبية والعنف، ومجموعة من الظواهر التي قد تؤدِّي إلى نوع من أنواع الإرهاب المختارة بعناية، والمرتبطة بالهُويَّة الوطنية أحيانًا، بعيدًا عن أيِّ رقابة تكشف هذه «الفيروسات» المنتشرة، التي أصبحت تحملُ العنف بأنواعه.

المتطرف واستغلال الدِّين
شخصية المتطرف الإرهابي وعَلاقته بالدِّين تجعله يرى نفسَه أكثر فهمًا، وأنضج عقلًا، وأكثر وعيًا؛ بل إنه يمثل مشروعًا دينيًّا متكاملًا، ويرى أن الآخرين قد استهوتهم الشياطين، وهم في طريقهم إلى الجحيم، ولذلك يمكن أن يضحِّيَ بحياته في محاربة هؤلاء الكفَرة في زعمه! موقنًا أنه ذاهبٌ إلى جنَّات النعيم؛ لأنه يعمل في سبيل إرضاء ربِّ العالمين. 

لا شكَّ إن هذا الإرهابي يعيش أزمةَ وعي وفكر، تجعله إنسانًا غيرَ سوي، يعيش في عالمٍ خاص، بعيدًا عن واقعه، منغلقًا على نفسه، لا يؤمن بالقِيَم القائمة على الحرية، والتعايش، والمساواة، والحقوق. 

إن الدعوة إلى العنف اليوم تصلُ إلى أقصى درجاتها مع هذا الإرهاب الممتد، وعند البحث في المؤثِّرات والأسباب الدافعة إلى هذا العنف، نجدها كثيرةً ومتنوعة، ومن أهمِّها: استغلالُ الدِّين أداةً لتسويغ العنف، فهذه التنظيماتُ ترفعُ شعارَ الدِّين دومًا، لتغطِّيَ ممارساتها الإجرامية، ولتسوِّغ مجازرها الوحشية المستهدِفة للمسلمين وغير المسلمين. فالفردُ في تلك التنظيمات يعتقد أنه على الحقِّ، وأن جماعته وحدَها من تمتلك اليقين، وأن الآخرين في ضلال، وهم فاسقون ومنافقون ومفسدون، ومعاقبتهم أمرٌ مشروع، واستخدام العنف من أجل ردعهم أمرٌ مفروض. ولترويج هذا الفكر المسموم، يستدلُّون بنصوص دينية، يفسِّرونها بما يخدم أهواءهم الشخصية.

ولا شكَّ أن هذه النظرةَ المنغلقة، التي لا تتجاوز حدودَ الذات، هي انحرافٌ فكري وتطرُّف يخالفُ الدِّين الإسلامي في عقيدته الصحيحة، وشريعته السَّمحة، وتعاليمه السامية، وأخلاقه العالية، وتُعَدُّ تشويهًا لصورة الإسلام والمسلمين. 

ولو أن هذا الإنسانَ تعلَّم أُسُسَ البحث في المراجع الصحيحة، وعرَف مقاصد الدِّين الحنيف؛ لما وقع فريسةً لتلك الأفكار الضالَّة التي تقودُ إلى الهدم والتدمير، لا إلى البناء والتعمير، ولكان الدِّينُ عنده مجالًا سلوكيًّا وروحيًّا لتحبيبه إلى جميع البشَر. 

الأسباب ومبدأ التعزيز 
للتطرف أسباب شتَّى؛ فهناك أسبابٌ سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية، تؤثِّر في تفكير الفرد وتقودُه نحو التطرف، ومن هذه الأسباب المرتبطة بالسياسة: ردُّ الاعتبار، ومحاولة الانتقام، ومحاربة العدوِّ المحتل، وعودة الخلافة، وعدم الثقة بالسُّلطة السياسية. ومن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية: الفقر، وارتفاع معدَّلات البطالة، والجهل، والأمِّية، والتذمُّر، والمعاناة، وغياب الحوار الواعي. كلُّ هذه أسبابٌ لها أثرٌ بارز في ظهور العنف وازدياده، حتى يصلَ في مرحلته الأخيرة إلى الإرهاب.

وإن حوادث القتل والإرهاب هي تصرُّفات مكتسَبة تقوم على مبدأ التعزيز، وهذا ما تضطلعُ به مُعظم القنوات التابعة للتنظيمات الإرهابية، التي تروِّج العنفَ ضمن قاعدة خطاباتها الفكرية، وتسوِّغها بتأويلات دينية؛ لتُضفيَ عليها الشرعية. وعلى الرغم من أن الأفرادَ قد يملكون مناعةً قوية تجاه أيِّ تحريض لممارسة العنف، لا تترك الأدواتُ التي يقوم عليها الخطابُ العنيف مساحةً للتفكير العقلي والنقدي، فعملياتُ غسل المخِّ التي تنتهجُها تلك الجماعات مع عناصرها، تجعل الفردَ يصل إلى مرحلة يؤمن فيها بكلِّ ما يُقال له دون أدنى تفكير. 

إن هذه الجماعاتِ تعمل على قتل مِنطَقة التفكير في عقول العناصر المنضمَّة إليها، وهذا يخالف جوهرَ الدِّين الحنيف، ويجعله بعيدًا عمَّا يُميزه من جوانبَ روحيَّة وإيمانية، تدعو إلى السِّلم والعدل والتعايش مع الآخرين، وإبعاد النفس البشرية عن الشرِّ والظلم. وإذا كانت غايةُ الدِّين في المقام الأول هي التربيةَ الأخلاقية، وحفظَ النفس البشرية، فإن الممارساتِ العنيفةَ التي نعيشها اليوم، هي دخيلةٌ على الدِّين، وبعيدةٌ عن مقاصده. 

وإذا كانت هناك بعضُ الممارسات التي يستند إليها المتطرفون في تسويغ أعمالهم، كالغزَوات والحروب التي استخدم فيها المسلمون القوة، فإنها تقوم على تأويلات وتفسيرات خاطئة؛ إذ إن تلك الممارسات تعبِّر عن مرحلة تاريخية محدَّدة، وظروف اقتضَتها ضرورة الدفاع ليحميَ الدِّينُ نفسه من جبروت أعدائه. أما ما نشاهدُه اليوم، فما هو إلا تسييسٌ للدِّين، يُحمِّله ما لا يحتمل؛ بتأويلٍ للنصوص خاطئ، وبإسقاطٍ خبيث ماكر؛ واستغلالٍ لجهل الناس بأصول الدِّين الحنيف وحقائقه.

وقد تعرَّض الدِّين الإسلامي في السنوات الأخيرة، في هذا الجانب تحديدًا، لاتهامات باطلة؛ تهدِفُ إلى هدم أُسُسه القويمة في إصلاح النفس وتهذيبها، والدعوة إلى التآخي الإنساني، ونشر مكارم الأخلاق، وهذه أمور يكثُر ذكرُها في القرآن الكريم، وفي سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالدِّين ينبغي أن يكونَ مرجعًا للخير، ولتطهير النفس البشرية من الشرِّ والعنف المدفون.

ختامًا
ما ينبغي تأكيدُه أن الجانب الأمني، وإن كان وسيلةً مهمَّة في مواجهة التطرُّف والإرهاب، يجب ألا يكونَ الطريقَ الوحيدة في التصدِّي لهذه المهمَّة الشاقَّة؛ إذ ينبغي أن نأخذَ في الحُسبان محاولة فهم الجوانب النفسية والفكرية؛ خطوةً أولى في مواجهة الإرهاب واجتثاثه من جذوره، ثم تضطَلِعُ مؤسساتُ الدولة بمسؤوليتها في تصحيح الأفكار المتطرفة، ولا سيَّما المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية، وإعادة تأهيل المتطرفين السابقين، ودمجهم في المجتمع من جديد.