تُعدُّ العولمةُ من العوامل الرئيسة التي ساعدت على نموِّ الإرهاب وانتشاره في العصر الحالي؛ فقد سهَّلت الاتصالات، وأتاحت تبادلَ المعلومات، ووفَّرت وسائلَ السفر والتنقُّل بين بلدان العالم. ومع انتشار شبكة الإنترنت استغلَّتها الجماعاتُ الإرهابية بما يخدُم أهدافها العدوانية؛ فانطلقت مواقعُ إلكترونية تتحدَّث بلسانها، وتُروِّج أفكارها. وقد توسَّع نشاطُ هذه الجماعات مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تستخدمُها في عمليات التجنيد وجذب الأتباع، والدعاية لما يُسمَّى كذبًا «دولة الخلافة».

وسائل التواصل
لوسائل التواصُل الاجتماعي بلا شكٍّ إيجابياتٌ غير خافية، منها أنها أتاحت آفاقًا واسعةً لتبادل الأفكار والآراء، وانتقلت بالقضايا من نطاقها المحلِّي إلى النطاق العالمي، ويسَّرت التواصلَ بين الأفراد والجماعات، ومكَّنت من إنشاء حوارات جماعية تضمُّ أعدادًا كبيرة من المشاركين من أرجاء العالم. غير أنها لم تَخلُ من جوانبَ سلبية فرضَت نفسها، لعلَّ أخطرها أن تلك الوسائلَ أصبحت مِنصَّةً تستغلُّها التنظيماتُ الإرهابية بما يُهدِّد السِّلم والأمن الدَّوليَّين، وينشر الاضطرابَ بين مكوِّنات المجتمع، ويعرِّض العيش المشترَك بين أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة للخطَر.

وأصبحت وسائلُ التواصل أيضًا مِنصَّةً لغسل أدمغة الشباب، وبثِّ كثير من المقاطع المصوَّرة التي تروِّج دولةَ الخلافة المزعومة، والتي أُنتجَت بجودة عالية، وتأثيرات جذَّابة؛ لاستمالة النَّشء، وإقناعهم بالهجرة إليها والدفاع عنها. مما يعني أن هذه التنظيماتِ نقلت حروبَها من الميدان العسكري إلى الفضاء السيبراني الأكثر أمنًا، والأوسع انتشارًا، والأرحب تفاعلًا. 

عمليات التجنيد
إن المتتبِّع لتحقيقات الجرائم الإرهابية يكتشفُ أن هذه الجماعاتِ نجحت في استغلال وسائل التواصل؛ لتجنيد عناصرَ جديدةٍ على نطاق واسع، والتخطيط لعمليات إرهابية وتنفيذها، ونشر تفاصيل الجريمة. وعلى سبيل المثال: استطاعت «حركةُ الشباب الصومالية» في عام 2013م استقطابَ عناصرَ عبر هذه الشبكات؛ لمهاجمة مركز تجاريٍّ في العاصمة الكينية نيروبي، أسفرت عن 62 قتيلًا و200 جريح، وكشفت التحقيقاتُ أن ثلاثة من المهاجمين من الولايات المتحدة، واثنين من الصومال، وواحدًا من كلٍّ من كندا وفنلندا وكينيا وبريطانيا. 

واستغلَّت الحركة موقع (تويتر) للتغريد المباشر عن تفاصيل الهجوم الدموي، وكانت مصدرًا لأخبار وسائل الإعلام، ووكالات الأنباء العالمية. وفي نيوزلندا سجَّل إرهابي من أصل أسترالي بثًّا مباشرًا في (فيسبوك) يوثِّق هجومه الإرهابي المروِّع على مسجدَين في مدينة كرايست تشيرش عام 2019م، وإطلاقه الرصاص الحيَّ على المصلِّين، مما أسفر عن مقتل 49 منهم، فضلًا عن الذُّعر الشديد الذي أثاره بين المواطنين. 

تغيير المعتقَدات
ولعلَّ أشرس هذه التنظيمات وأكثرَها دموية هو تنظيمُ داعش الإرهابي العابر للحدود والقارَّات؛ إذ يمتلك أدوات المعرفة والتقنيَّة التي تمكِّنه من اختراق العالم الافتراضي، ونشر دعايته المتطرفة. ويشير بعضُ الباحثين إلى أن الانطلاقة الإعلامية الحقيقة لتنظيم داعش الإرهابي كانت في الفضاء السيبراني عمومًا، ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصًا، فقد أطلق على مِنصَّاتها المختلفة كثيرًا من الحمَلات الإعلامية باحتراف تقنيٍّ عالٍ.

وتُثبت داعش وقريناتها من الجماعات الإرهابية كفاءتها في استغلال الإعلام الرَّقْمي، ولا سيَّما مواقع التواصل الاجتماعي في ترويج دولة الخلافة، وغسل أدمغة الشباب، وجذب المتعاطفين، والبحث عن المجنَّدين المحتمَلين في مختلِف البلدان، وقد انتهجت إستراتيجيةَ (تغيير المعتقَدات)؛ لأنها الأساسُ الديني والاجتماعي والمرجعي للأشخاص، وبتغييرها يسهُل تغيير الأفكار والصور الذهنية عن الأفراد والأشياء، وما يتبعه من تغيير للسلوك. على سبيل المثال: إن الصورة الذهنية الراسخة في عقولنا تجاه رجال الشرطة، أنهم يجتهدون في حفظ الأمن، ويسهرون على راحة المواطنين، لكنَّ تنظيم داعش الإرهابي اجتهد بأدواته لتغيير هذا المعتقَد؛ بتكفير رجال الشرطة، واستباحة دمائهم، واستهداف العاملين في المؤسسات الأمنية؛ لنشر الفوضى وزعزعة الاستقرار.

 ويُعَدُّ الدِّينُ المدخلَ الرئيس لعبور التنظيم إلى قلوب الشباب والمراهقين، والتأثير فيهم، ودفعهم إلى تنفيذ العمليات الانتحارية، وغالبًا ما يُوهم أتباعَه بإقامة مشروع الخلافة وتطبيق الشريعة.

ووَفقًا لمقطع مصوَّر بثَّه التنظيم في وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان: «صرح الخلافة» أكَّد أن دولته تتكوَّن من 35 ولاية، منها 19 ولايةً في العراق وسوريا، والباقي موزَّع على دول أخرى، مما يعني وجودَ خلايا تابعة للتنظيم في تلك الدول.

الحشد النفسي
وبتأمُّل حمَلات تنظيم داعش يمكننا أن نفهمَ الطريقة التي يحشُد بها أعضاءه، ويشحنهم نفسيًّا للإقدام بحماسة لتنفيذ الجرائم الإرهابية والانتحارية، ومنها غرسُ الكراهية، وتكفير الأنظمة، وتأكيد أن عدم تطبيق الشريعة هو السببُ في تخلُّف المسلمين، وضعف شوكتهم، والمعيشة الضَّنْك التي يحياها الملايينُ منهم، ومن ثَمَّ وجب الفِرارُ إلى دولة الخلافة التي تُطبَّق فيها الشريعة، ويكثُر فيها الخير.

ويُلاحَظ أن تنظيم داعش يستغلُّ بعض المصطلحات التي تستخدمها الحكوماتُ وأجهزة الإعلام لوصف التنظيمات الإرهابية، مثل: الإرهابيين الإسلاميين، والجماعات الإرهابية الإسلامية، والمسلمين المتطرفين والمتشدِّدين؛ لإقناع جمهوره أن المستهدَف هو الإسلام، وأنها حربٌ صليبية على الدِّين، مما يُثير النفوس، ويزيد التعاطفَ مع هذه الجماعات.

لذا كان من المهمِّ عدمُ استخدام الحكومات لهذه الأوصاف التي تربط داعش وأشباهها بدين الإسلام، واستخدام المؤسسات الإعلامية عند تناولها لهذه القضايا مصطلحاتٍ موضوعية، تربطها بالعنف وليس بالأديان؛ الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، مثل: الجماعات الإرهابية، والجماعات المتطرفة. ومن المهمِّ أيضًا دراسةُ المقاطع الصوتية والمرئية؛ للوصول إلى فهم شامل لهذه الرسائل، وأثرها في تحقيق أهداف التنظيمات. ولأن معظم الحمَلات التي يقيمها تنظيمُ داعش تتميَّز بجودتها العالية، وتأثيرها القوي، فإن الحكومات ومؤسساتها مسؤولةٌ عن إقامة حمَلات قصيرة بجَودة عالية؛ لدحض الأفكار المتطرفة والإرهابية والردِّ عليها، تُبَثُّ في وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام الجماهيرية.

حذف المحتويات
ولخطَر استغلال التنظيمات الإرهابية لوسائل التواصل، وتأثيرها في الأمن الوطني، برزت مطالبُ في عام 2015م بضرورة حذف المحتويات المتطرفة من صفَحاتها، سواءٌ بواسطة شركات التقنية الكبرى، أو بواسطة الدول. وقد مضَت سنواتٌ على هذه المطالب، وحُذفت محتوياتٌ إرهابية كثيرة جدًّا، ومع ذلك لم تنجح الوسائلُ المتَّبعة في إزالة جميع الحسابات الإرهابية والمحتويات العنيفة؛ لأن هذه التنظيماتِ تعود بحسابات أخرى باستمرار، لتواصلَ نشر دعايتها المضلِّلة. والأكثر خطرًا أنها اتجهت إلى استخدام الإنترنت المظلم -  «Dark Web»  في تخطيط عملياتها، وتنفيذها؛ مما يزيدُ صعوبةَ تتبُّعها ومكافحتها.

ولا ينبغي الغفلةُ عن الأثر الإعلامي الكبير للمحتويات الإرهابية في وسائل التواصل الاجتماعي، وقدرتها على جذب الأتباع وإقناعهم بالفكر المتطرف، ممَّا يتطلَّب تضافر الجهود المحلِّية والدَّولية للتصدِّي لهذه الحمَلات الدعائية، وتحصين الأفراد من الانضمام إليها أو الاقتناع بها. مع ضرورة إطلاق حمَلات إعلامية، تستند إلى إستراتيجية إقناع منطقية ومنظَّمة، تشتمل على سلسلة من الأنشطة المتواصلة للتأثير في الرأي العام. فضلًا عن أهمية المجتمع الدَّولي في تحديد سِمات الإرهاب وخصائصه على اختلاف أنواعه، بوصفٍ دقيق لا يحتمل التخمين، وتشريع القوانين المطلوبة للقضاء على هذه الآفة الخطِرة.