تُثير قضيةُ الكراهية المتصاعدة وما تؤدِّي إليه من صراعاتٍ وعنف، مجموعةً من الأسئلة المقلقة عمَّا يستطيع عموم الناس فعلَه في تلك الأوضاع الصعبة والظروف الحرجة، ومن هذه الأسئلة: لماذا يستعدُّ الناسُ للموت في سبيل الجماعة الدينية أو الطائفة أو العِرق؟ وما الذي يدفع الناسَ إلى محاربة أهلهم، أو معارفهم، أو أبناء بلدهم لأجل عَصَبيَّة عِرقية أو دينية؟ ولماذا يتحوَّل الجيران إلى أعداء؟ وماذا يطرأ على الناس فيحمِلَهم على ارتكاب الأفعال الشنيعة معَ من عاشوا معهم بسلام على مدار عُقود؟ وكيف تلجأ جماعةٌ ما إلى الكراهية والعنف، ولماذا تفعلُ ذلك؟ وهل من السَّهل تحليلُ خطاب الكراهية، والوقوفُ على جذور المشكلة؟

​بنية الجماعة
قوةُ الترابط العاطفي للجماعة وكراهيتُها للجماعات الأخرى حافزٌ للصِّراع العنيف غالبًا، وإن مكائدَ النُّخبة، ومصالح السُّلطة، والحرمانَ من الحقوق، من الأمور المهمَّة لفهم تفشِّي الكراهية وما ينتُج عنها من صراعات، إلا أنها لا تمثِّل القضيةَ كاملة، فثَمَّة جوانبُ أُخرى لظاهرة الكراهية والصِّراع الجماعي، منها: حاجةُ الناس الأساسيةُ إلى الانتماء إلى الجماعة؛ للشُّعور بالرضا عن أنفسهم، وهو ما يُسمَّى (الإيجابية الداخلية). وقد تصبح الكراهيةُ والعنف الجماعيُّ أمرًا محتمَلًا إذا شعر أعضاءُ الجماعة بعجزهم عن تحقيق هذه الإيجابية إلا بالاعتداء على الجماعات الأخرى. فتعرُّضُ هُويَّتهم للخطر يُولِّد الكراهيةَ للآخر، والاستعدادَ لاستعمال العنف في مواجهته.

ولا يمكن فهمُ الظواهر الجماعية؛ كالكراهية والعنف، باختزالها في دوافع الفرد أو غرائزه أو سِماته الشخصية فقط؛ بل لا بدَّ من دراستها بوصفها ناتجةً عن عضوية الفرد في جماعة، والانتباه إلى أن القوى الاجتماعية هي التي تكوِّن الفعلَ الفردي؛ إذ يسعى الأفرادُ إلى تحقيق شعورٍ إيجابيٍّ آمنٍ للذات بانتمائهم إلى الجماعة.

الطائفية والكراهية 
الطائفيةُ العِرقية أو الدينية هي قوةٌ تصعيدية للكراهية والعَداء والعنف بين الجماعات، فكلُّ جماعة تُغذِّي كبرياءها وغرورها، وتتباهى بتفوُّقها، وتنظر بازدراء إلى الجماعات الأُخرى. ولدينا أربعةُ مبادئَ تتعلَّق بالمركزية الطائفية، هي العَمودُ الفِقْري لكثير من النظريات التي تعالج الكراهيةَ والصِّراع العنيف بين الجماعات، وهي:
  • مبدأ التصنيف الاجتماعي: لدى البشر حاجةٌ عامَّة وأساسية لتصنيف عالمهم الاجتماعي، ويجري تصنيفُ الجماعات في فئاتٍ منفصلة داخلَ الجماعة أو خارجها.
  • مبدأ الإيجابية داخل الجماعة: يقدِّر الأفرادُ جماعاتهم إيجابيًّا، ويحافظون على عَلاقاتٍ حسنة وتعاونية مع أعضائها.
  • مبدأ المقارنة بين الجماعات: تُعزَّز الإيجابيةُ داخل الجماعة عبر المقارنة بالجماعات الأُخرى، وبتقويم سِمات الجماعة على أنها أفضلُ من سِمات الجماعات الأُخرى.
  • مبدأ العَداء للجماعة الأُخرى: تتميَّز عَلاقاتُ الجماعة بمَن هم خارجها بالعَداء والصِّراع والازدراء المتبادَل.
هذه المبادئُ الأربعة مترابطةٌ في نمط خاصٍّ من العَلاقات بين الجماعات، قائمة على حاجة البشر الطبيعية إلى الهُوية والانتماء والتقدير الإيجابي للذات، التي يُعبَّر عنها في ارتباطات الجماعة. ويُنظَر إلى المبدأين الأوَّلَين على أنهما أساسيَّان وشاملان، أمَّا المبدآن الأخيران (الثالثُ والرابع) ففيهما نقاشٌ واسع؛ فإن مقارنةَ الجماعة نفسَها بالجماعات الأخرى، وعَداءَها لتلك الجماعات، إمَّا متأصِّلٌ في عملية تكوين الجماعة، أو يتطلَّب شروطًا محدَّدةً إضافيةً لتفسير التحوُّل إلى الكراهية والعنف الجماعي.

نرجسية الاختلاف 
التفكيرُ في الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التي تُثيرها المقارنةُ ونرجسيةُ الاختلاف، فرصةٌ كبيرة للوصول إلى حلولٍ لبناء السلام، ومن تلك الأسئلة: لماذا تتفشَّى الكراهيةُ والصِّراع بين هُويَّات جماعية معيَّنة، ومتى يحدُث ذلك؟ وكيف تهيمن بعضُ أنماط الهُوية الأُحادية على الآخرين؟ وكيف ينزِعُ الناس الطابعَ الشخصي عن جيرانهم على أسُس طائفية، ولماذا؟ وكيف تتحوَّل الصداقةُ إلى عَداء بين أبناء البلدة الواحدة؟ وكيف ينقلب أولئك الأشخاصُ الذين لديهم كثيرٌ من القواسم المشتركة إلى أعداء؟ 

كثيرًا ما ينقلب بعضُ المواطنين على بعض في الصِّراعات العِرقية أو الطائفية، وهم يقفون على جانبَي خطِّ المواجهة؛ مُستدبرينَ ذكرياتهم عن العَلاقات المشتركة، والصَّداقات السابقة، وروابط الجوار القديمة، ولا يتواصلون فيما بينهم إلا وَفقًا لانتمائهم إلى جماعاتهم حصرًا. وأظهرُ مثالٍ على ذلك ما آلَ إليه الحالُ في حِقبة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، أو ما بعد تيتو في يوغسلافيا، وانتشار التعامل وَفقَ الهُوية الطائفية بين الجماعات. 

ومما يساعد على فهم سعي البشر إلى تحقيق هُوية جماعية رصدُ ما يُعرَف بعملية نزع الإنسانية من أعضاء الجماعة الأُخرى. وتتحوَّل عَلاقاتُهم في مُجرَيات هذه العملية بوصفها سلسلةً متصلة من العَلاقات الشخصية، يتفاعل فيها الناسُ بحسَب خصائصهم الفردية، تتحوَّل إلى عَلاقات بين الجماعات المختلفة، ويُحدِّد سلوكَ بعض الأفراد تجاه بعض عضويتُهم في تلك الجماعات. وهناك عددٌ من العوامل قد تؤدِّي إلى تفاقُم كراهية الجماعات الأُخرى أيضًا، مثل: إثارة النُّخبة السياسية للعَداء الجماعي، وثقافة الجماعة، ومستوى التعقيد البِنيوي الاجتماعي لمجتمع معيَّن.

فِقدان اليقين
أصبح فهمُ سبب لجوء الناس إلى أنماط التطرف العنيف هدفًا مهمًّا في علم النفس المرَضي؛ لتفسير ظاهرة الإرهاب. وقد كان الإرهابيون يُصنَّفون في صِنف المنحرفين والمرضى، لكنَّ المقابلاتِ مع إرهابيين سابقين كشفت أنه ليس هناك اختلافاتٌ جوهرية بينهم وبين الأشخاص الطبيعيين استنادًا إلى علم الأمراض النفسية. 

والعَلاقةُ بين فِقدان اليقين والتطرف وثيقة، ففِقدانُ اليقين حافزٌ للسلوك البشري. ويلجأ بعضُ الأفراد لتخفيف آثار فِقدان اليقين إلى الانتماء لجماعة ذات كِيان واحد، متميِّز بصفته الاعتبارية عن أعضائه بصفاتهم الفردية الشخصية. ولا تكوِّن المجموعةُ البشرية من الأفراد جماعةً إلا بتحقيق أهمِّ خصائص الجماعة؛ من وجود حدود واضحة لها، وتجانُس وِفاقَ بِنية داخلية جليَّة، وتفاعل اجتماعي، وأهداف مشتركة، ومصير واحد. 

وقد يساعد هذا التحليلُ ونتائجه، في ظلِّ ارتفاع مستوى فِقدان اليقين، على تفسير الكراهية والتعصُّب والتطرف. وقد تجسِّد أنظمةُ المعتقدات الأرثوذكسية في أقصى حدودها المتطرفة، وما يرتبط بها من رؤية للعالم، وممارسات عملية، واستقطاب طائفي عميق، وبِنية هرمية، وقيادة معيَّنة- مثالًا حيًّا لما يُلجِئ الناسَ من فاقدي اليقين العميق، وأصحاب القدرة المحدودة على المعالجة المعرفية، إلى تبنِّي خُطط للإصلاح السريع التي تقدِّمها العقائدُ الطائفية، وأنظمة المعتقدات الأصولية، وتُسهم في تفشِّي الكراهية وانتشار العنف.

الأسباب والأساليب
السلوكُ البشري قابل للتنبُّؤ؛ لأن الناس يتصرَّفون وَفقًا لمجموعة من القوانين النفسية. واتجاهُ العناية إلى الأفراد يساعد على توضيح المشاعر العاطفية العميقة التي ترافق أعمالَ العنف بين الجماعات. والشغَفُ بمتابعة ظاهرة الكراهية والصِّراع الطائفي يستدعي تفسيرًا يعترف بالمشاعر. فليسَ المتخلِّفون و(السيكوباتيون) المصابون باضطراب الشخصية الناقمة على المجتمع، ليسوا وحدَهم مَن ينتهي بهم الأمرُ بعدَ سلسلة من الممارسات التصعيدية، إلى تعزيز الكراهية وارتكاب العنف، أو دعمه لدى جماعات أُخرى غير جماعتهم؛ بل قد يحدُث هذا مع الناس الطبيعيين إلى حدٍّ كبير.

وتبدو المجتمعاتُ التي تعاني انقساماتٍ عميقةً وتصنيفاتٍ حادَّةً بحسَب الدِّين أو العِرق، عُرضةً لممارسات التحيُّز والمحاباة والمحسوبية لمن هم داخل الجماعة، والعَداء لمن هم خارجها. ويؤدِّي هذا التقسيمُ ولا سيَّما إذا كان ثنائيًّا (بجعل المجتمع جماعتين)، إلى المقارنة الاجتماعية، وتجاذبات المصالح المتضاربة، حتى ينتهيَ إلى الكراهية والصِّراع. وعند ظهور العنف الجماعي وقتل الناس بسبب هُويَّاتهم، تؤدِّي القوى التصعيديةُ إلى زيادة الانقسامات فيما بينها، وزيادة مستوى الكراهية، ممَّا يعطِّل أيَّ فرصة لاستعادة الهُوية الآمنة. ومن المستبعَد أن ينتُجَ عن الكراهية والصراع العنيف بين الجماعات توازنٌ جماعي جديد. ومع ذلك، إذا أردنا استخلاصَ دروسٍ في مجال حلِّ الصِّراع، فإن مركزية الحاجة النفسية إلى إعادة تأسيس هُويَّات جماعية آمنة وشرعية ومستقرَّة تبدو أكثرَ أهمية وبروزًا.

وقد تنتهي الكراهيةُ والعنف بين الجماعات عندما يُدرك الأفراد أن احتياجات هُويَّتهم الاجتماعية تحقَّقَت، وعندما يُنظَر إلى الاختلافات في المكانة على أنها مشروعة ومستقرَّة، وعندما تُلبَّى احتياجاتُ الناس إلى الدمج والتمايز الآمنَين. 

وكما يزداد التماسكُ داخل الجماعة الواحدة في مواجهة التهديدات أو التحدِّيات المشتركة، تزداد فرصُ جمع الجماعات المختلفة معًا، وفتح أبواب التعاون، وتقليل الصِّراعات، عند وجود أهداف أو تهديدات مشتركة. ويتجلَّى هذا الأمرُ في خطاب السياسيين لـلشعب عندما يواجهون تهديداتٍ خارجيةً حقيقية أو متخيَّلة. وإن العباراتِ التي تتحدَّث عن صفٍّ متماسك، وترك الخلافات وراء الظهور معروفة جيِّدًا، وتُستخدَم أيضًا في مناقشات بناء السلام والمصالحة. وإن إصلاح عَلاقات الجماعة العَدائية في بيئة ما بعد الصراع، باستحضار الهُويَّات والأهداف والمشروعات الشاملة لمنع الصراع بين الجماعات، يتمثَّل في عدَّة خُطط إستراتيجية، أهمُّها اثنتان: 
الإستراتيجية الأولى: وضعُ أحكام لتحويل حالة فِقدان اليقين التي تُعَدُّ تهديدًا مخيفًا إلى حالة يُنظَر إليها إيجابيًّا على أنها تحدٍّ ووسيلةٌ رئيسة لجعل الناس يعتقدون أن لديهم القدرةَ اللازمة للتخلُّص من مشاعر فِقدان اليقين. 
والإستراتيجية الثانية: إقامةُ حاجزٍ لصدِّ الكراهية والتطرف والصراع العنيف؛ بجعل الهُويَّة الاجتماعية للناس غنيَّةً ومعقَّدة. فقد تكشف المجتمعاتُ الأكثر تعقيدًا وتمايزًا عن جوانبَ مختلفة من قدرتها على الصمود أمام الكراهية والصِّراع والعنف.

استنتاج وخُلاصة
يدخلُ في صميم البحث عن الدوافع النفسية والهُويَّة الاجتماعية اكتشافُ سبب اختلاف عوامِّ الناس فيما بينهم، ومعارضة بعضهم بعضًا. ويمنحنا هذا الاكتشافُ معرفةَ الأسباب والوسائل التي تجعل ارتباطات أفراد الجماعات تؤدِّي إلى ممارسات عُدوانية في بعض الأحيان، وتجعل أعضاءَ الجماعة يقبلون العنف تجاه الآخر ويدعمونه. ولا يمكن تجاهلُ أثر الاستغلال الاقتصادي أو الأساطير العِرقية الرمزية، ولكن من غير المرجَّح أن يتطوَّر الصِّراع العنيفُ دون دعم عوامِّ الناس الذين يتصرَّفون بناءً على سلسلة من الضَّرورات أو الإلزامات الإدراكية العميقة الجذور. 

الحربُ ليست حتميةً أو حالة طبيعية بأيِّ حال من الأحوال، والعالم الاجتماعي هو ما يصنعه الناس، وعلى دارسي الكراهية والصِّراع العنيف أن يبحثوا في هذا الموقف التفسيري عن معنى الفعل. ولمـَّا كانت الأفعال تستمدُّ معناها من الأفكار المشتركة وقواعد الحياة الاجتماعية، فنحن بحاجة إلى رؤيتها من الداخل بواسطة فهم الفاعلين. وإن العَلاقة بين الهُوية الاجتماعية والعنف بين الجماعات عَلاقة شرطية عرَضية وليست حتمية، مبنيَّة على افتراض أن مصادر العنف الجماعي تقع موائمةً لإدراكات الأفراد. والاهتمامُ بدراسة الصِّراع بوصفه نتيجةً لقوانينَ نفسيةٍ يمكن التنبُّؤ بها إلى حدٍّ ما، واكتشافها بدراسة التماثلات في سلوك أعضاء الجماعات ومواقفهم، خطوةٌ مهمَّة في الطريق نحو الحلِّ الناجح والمـُجدي.