أقرَّ الإسلامُ ثقافةَ التسامح بتأكيده مبادئ الإخاء الإنساني القائمة على الاعتراف بالآخر واحترامه، وحقَّق مبدأ المساواة بين الناس جميعًا، وأرسى دعائم العدل في التعامل معهم، دون النظر إلى انتماءاتهم الدينية والعرقية واللسانية، فالتسامحُ هو صورةُ التكيف التي بمقتضاها يتحقَّق الانسجام المتبادل بين الأفراد والمؤسسات والدول؛ ما يدفعهم إلى تجنُّب الصراع من أجل التوصل إلى حلٍّ عملي في ظلِّ مبدأ عدم التدخل في معتقدات الآخرين وتصرفاتهم التي لا يحبِّذها المرء ويتجنَّبها.

بناء ثقافة السلام

تُبنى ثقافةُ التسامح على «الحق» الذي لا تفريط فيه، وترتبط أيضًا بالمواطَنة التي تعني عدمَ التمييز بين الناس على خلفياتٍ تتعلَّق بالدِّين أو المذهَب أو العِرق أو اللغة أو الوضع الطبقي. وقد اعتمد المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في دورته الثامنة والعشرين التي استضافتها العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر عام 1995، تعريفًا شاملًا للتسامح يرى أن التسامح هو: «الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير، وللصفات الإنسانية، ويتعزَّز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال، وحرية الفكر والضمير والمعتقد، والوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبًا أخلاقيًّا فحسب؛ وإنما واجبٌ سياسي وقانوني أيضًا، والتسامحُ هو الفضيلةُ التي تُيسر قيِمَ السلام، وتُسهم في إحلال ثقافة السلام محلَّ ثقافة الحرب».

 وبهذا المعنى يُعدُّ التسامحُ ممارسةً يجب أن يأخذ بها الأفرادُ والجماعات والدول، وفي الوقت نفسه لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل؛ بل هو قبل كلِّ شيء اتخاذُ موقف إيجابي، فيه إقرارٌ بحقِّ الآخرين في التمتُّع بحقوق الإنسان وحرياته المعترف بها عالميًّا، ويرتبط بالمسؤولية التي تشكِّل عمادَ حقوق الإنسان والتعددية، بما في ذلك التعددية الثقافية، والديمقراطية وحكم القانون، وتؤكِّد تلك المفاهيم أن التسامح يعني في دلالاته أن البشر المختلفين بطباعِهم في مظاهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحقُّ في العيش معًا بسلام، وفي أن يطابق مظهرهم مخبَرهم، وهو يعني أيضًا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تُفرض على غيره.

محتويات تعزيز التسامح

مع هذا التنوع المتزايد باستمرار للمستخدمين ووجهات نظرهم في البيئة الرقمية، يصبح من الضروري أن نتبنَّى التسامح مبدأً إرشاديًّا لضمان الشمولية والإنصاف والممارسات الأخلاقية في المحتوى الرقمي. وبينما نتنقل عبر محيط المعلومات الواسع، يصبح من الضروري التمييز بين المحتوى الذي يعزز التسامح، وبين المحتوى الذي يديم التعصب، والتأكُّد من أن المحتوى الذي نشاركه متاح للأفراد ذوي القدرات واللغات والخلفيات الثقافية المختلفة.

   ويُعدُّ بناءُ محتوى متسامح في المنصات الرقمية أمرًا في غاية الأهمية؛ لأنه يُعزِّز الشعور بالانتماء إلى المجتمع. وعلى مستوى الممارسة والتطبيق توفِّر المنتدياتُ عبر الإنترنت ولوحاتُ المناقشة ومجموعاتُ الدعم الافتراضية للأفراد منصةً للتواصل مع الآخرين الذين يشاركونهم الاهتمامات أو الخبرات نفسها. وتعمل مؤشرات بناء المحتوى المتسامح كبوصلة توجِّهنا نحو مجتمعٍ أكثر شمولًا وتفهمًا، وتهدف إلى تعزيز الممارسة المهنية في إنتاج محتوى إيجابي في المشهد الرقمي، ومن بين تلك المؤشرات ما يأتي:

أولًا: وجود وجهات نظر متنوعة: وهو مؤشرٌ رئيس لبناء محتوى متسامح، فطريقةُ عرض كلِّ الآراء ووجهات النظر حتى لو ظهر بينها الاختلاف يُمكن دمجها بطريقة متوازنة أحيانًا، حيث يضمنُ ذلك تمثيل شرائح ثقافية وعرقية وجنسية ودينية مختلفة، عبر احتضان التنوع، وتعزيز التعاطف والتفاهم، وكسر الصور النمطية.

ثانيًا: استخدام لغة شاملة: للغة تأثيرٌ قويٌّ في تشكيل تصوراتنا ومعتقداتنا؛ إذ يتجنَّب المحتوى المتسامح اللغةَ التمييزية أو المهينة التي تهمِّش مجموعاتٍ معينة، أو تُعزِّز الأحكام السابقة؛ فهي تتبنَّى لغةً شاملة تحترم جميع الأفراد، بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو هُوياتهم. وهذا له أثرٌ كبير في تهيئة بيئة ترحيبية يشعر فيها الجميع بالتقدير لوجهات نظرهم وحسن الاستماع لآرائهم.

ثالثًا: الدقة والمصداقية: وهذا مؤشرٌ مهم أيضًا؛ إذ يتطلَّب بناءُ محتوى متسامح الالتزامَ بالدِّقة والمصداقية؛ لأن المعلومات المضللة والصور النمطية عواملُ خطرة تُسهم في زيادة التعصب. ويسعى هذا المحتوى إلى تقديم معلوماتٍ دقيقة، مدعومةٍ بمصادرَ موثوقة، وعمليات التثبُّت من الحقائق قبل مشاركة أيِّ محتوى، حيث يساعد الالتزامُ بالحقيقة في وقف انتشار الأكاذيب، ويُعزِّز ثقافةَ الحوار والتفاهم المستنير.

رابعًا: تعزيز التعاطف: وهو مؤشرٌ حاسم لبناء محتوى متسامح، ويتحقَّق ذلك بتسليط الضوء على القصص الشخصية وتجارب الأفراد من انتماءات ومشارب مختلفة ونضالاتهم، ومشاركة هذه الروايات. إذ يضفي هذا الطرح طابعًا إنسانيّا على «الآخر»، ويُؤكِّد التعاطف والتفاهم، ويُضيِّق الفجوةَ بين الثقافات المختلفة، ويُعزز الشعور بالإنسانية المشتركة.

خامسًا: تعزيز الحوار القائم على الاحترام: يُشجِّع المحتوى المتسامح المناقشاتِ المفتوحةَ والمحترمة، حيث يمكن التعبير عن وجهات نظر متنوعة دون خوفٍ من السخرية أو العدوان، ويوفِّر ذلك مساحةً آمنة للأفراد للمشاركة في محادثات بنَّاءة، وتعلُّم بعضهم من وجهات نظر بعضهم الآخر، ويساعد الحوار المحترم في رعاية مجتمعٍ متسامح يحتضنُ الاختلافات، ويقدِّر تبادلَ الأفكار.

ختامًا:

يتطلَّب بناءُ محتوى متسامح جهودًا متَّسقة لمعالجة ومواجهة أيِّ تحيزات محتملة، كما أن توفُّرَ مؤشرات بناءِ المحتوى المتسامح يُعدُّ خارطةَ طريق للأفراد والمنظمات للإسهام في بناء مجتمعٍ أكثر شمولًا وتفهُّمًا، عبر دمج وجهاتِ نظر متنوعة، واستخدام لغة شاملة، وتعزيز الدِّقة والصدق، وترسيخ التعاطف، وتشجيع الحوار المحترم، والتصدِّي للتحيُّزات، حيث يمكن للمعلومات تشكيل المواقف والمعتقدات، ويصبح من الضروري إعطاء الأولوية لإنشاء محتوى يشمل جميع الأفراد ويحترمهم.