​​​غالبًا ما تُعنى دراساتُ الإرهاب بصعود التطرف، ونموِّ خطر التنظيمات الإرهابية، غيرَ أن مسارًا معاكسًا يتعلَّق بكيفية اندثار الجماعات المتطرفة وانحسار خطرها، لا يجد حظَّه في تلك الدراسات على أهميَّته؛ فالتاريخُ شاهد على جماعاتٍ وتنظيمات عاثت في الأرض فسادًا، لكنَّها في النهاية لقيت مصيرها المحتوم بطرق شتَّى، مثل: قتل زعمائها، أو خسارتها لبُقعة جغرافية كانت تمارس فيها نشاطها، أو إعلانها التوبةَ ومراجعة أفكارها، أو إلقاء سلاحها والاندماج في المجتمع.

موت الزعماء
يحظى استهدافُ زعماء الجماعات الإرهابية بأهميةٍ كبيرة في إستراتيجيات مكافحة الإرهاب؛ فلكلِّ تنظيم إرهابي «مركز ثِقَل» يبدأ بالفئة الواسعة، وهي: فئة المتعاطفين، ثم المؤيِّدين السلبيين، ثم المؤيِّدين النشيطين، ثم الأعضاء الناشطين، وأخيرًا القادة الذين يتربَّعون على رأس الهرم في التنظيم. وكلَّما ازداد العددُ في كلِّ مستوًى كان في ذلك دلالةٌ على قوة التنظيم، ومدى انتشاره أفقيًّا وعموديًّا. ومن أهمِّ العوامل الذاتية التي تُسهم في تمكين التنظيم، وزيادة نفوذه، وجودُ القائد ذي الشخصية القوية والحضور المؤثِّر الجاذب، الذي يمتلك خصائصَ ذاتية ومكتسَبة يستطيع بها التأثيرُ في المحيطين به، فضلًا عن القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة، وتوحيد الرؤى والتطلُّعات.

ويساعد الارتباطُ المتين بين القادة والأتباع على تجاوز مشكلات العمل الجماعي؛ فهم يُبادرون إلى طاعة القائد طاعةً عمياء، والإيمان بكلِّ ما يقوله؛ بسبب قوة شخصيَّته، والجاذبية التي يتمتَّع بها. ويستطيع هذا القائدُ أن يصوغَ الرؤية الفكرية للجماعة، وأن يُقنعَ بها أتباعه، وهو ما يُسهم في إنشاء هُويَّة جماعية، وفهم مشتركٍ للقضايا التي تتناولها العقيدة الفكرية.

لكنَّ السؤالَ الذي يطرح نفسه، هل استهدافُ القادة يكون وسيلةً ناجحة في القضاء على التنظيمات الإرهابية؟ باستقراء التاريخ نجدُ أنه كلَّما كانت الجماعةُ تعتمد على قائدٍ صاحب شخصية قوية وحضور طاغ، فإن غيابَه غالبًا ما يؤثِّر سلبًا في قوة الجماعة، وقد يُفقدها تماسكها، ويُضيع بوصلتها الفكرية، أو يؤدِّي إلى انقسامها، أو فكِّ ارتباط الأعضاء بها، ويحوِّل أفكارها لتكون أكثرَ اعتدالًا. وقد يواجه التنظيمُ الذي يفقد قائده مشكلةَ عمل جماعي طارئة، ولا سيَّما حين يكون القائدُ الجديد أقلَّ إلهامًا وحضورًا، فيمكن أن يعانيَ التنظيم من التخبُّط في القرارات، وعدم القدرة على اتخاذ إجراءات حاسمة، وقد يحدث تعثُّر في التجنيد والتمويل.

موت الجماعات

ونُلمُّ فيما يأتي بذكر أبرز الجماعات التي انتهت وماتت بنهاية قادتها وموت زعمائها، ومنها:

جماعة أوم شنريكيو: وهي نموذجٌ واضح لهذا الصِّنف من الجماعات، وكانت قد أُسِّسَت في اليابان عام 1984م على يد «شوكو أساهارا»، وفي عام 1987م بلغ عددُ أعضائها نحو 1500 شخص، وبحلول عام 1994 وصل عددهم إلى نحو 50 ألفًا. امتلك قائدُها شخصية قوية مؤثِّرة، ووصل الأمر بأتباعه إلى حدِّ منحه العِصمةَ من أيِّ خطأ. مزج «أساهارا» مفاهيمَ من الهندوسية والبوذية والمسيحية واليهودية مع نظرته الخاصَّة للعالم، وأخذ مفاهيمَ «هرمجدون» ونهاية العالم وخلطها مع نبوءات «نوستراداموس» للتنبُّؤ باقتراب نهاية العالم المحتومة، وأن أتباعه وحدَهم مَن سيبقَون أحياء.

ومن أشهر الجرائم التي عُرفت بها تلك الجماعةُ «تفجيرات غاز الأعصاب (السَّارين)» في مارس عام 1995م، في مترو أنفاق مدينة طوكيو، الذي أدَّى إلى مقتل 12 شخصًا وإصابة الآلاف، وكان الهجوم يستهدف عددًا من القطارات. وتمكَّنت الشرطة اليابانية من القبض على أفراد الجماعة بمقرِّهم، وعثرت على موادَّ كيمائيةٍ لاستخدامها في تصنيع كميَّات ضخمة من غاز الأعصاب، تكفي لقتل 4 ملايين شخص. وبعد إدانة «أساهارا» في تلك القضية؛ حُكم عليه بالإعدام في 27 من فبراير 2004م، ونُفِّذَ الحكم في يوليو 2018م. وكان لاعتقال مؤسس الطائفة آثارٌ كبيرة أفضَت بالجماعة إلى الانهيار، بعد انفكاك معظم أعضائها، وتحوُّل الباقين منهم إلى منهج (اللاعنف).

حركة سنديرو لومينوسو: نشأت هذه الحركة التي يعني اسمها (الدرب الساطع) Sendero Luminoso في بيرو، وهي جماعةٌ أصولية ماركسية، نشِطَت في ثمانينيات القرن الماضي وأوائل التسعينيات. ضمَّت قرابة 15 ألف مقاتل، فضلًا عن آلاف المتعاطفين. وأحدثت جوًّا من الاضطراب والعنف أسفر عن قتل نحو 70 ألفَ شخص، وبلغت أضرارها الاقتصادية نحو 20 مليار دولار.

امتاز مؤسِّسُ الحركة «أبيمال غوزمان» بشخصية قوية آسِرة، وكانت عقيدته الفكرية ماركسيةً تقليدية. وهو يرى أن عدم المساواة الاجتماعية، ووجود فوارقَ طبقيةٍ بين فئات المجتمع مشكلة كبرى، وأن الطبقة العليا الاستغلالية في دولة بيرو، وشركاؤها الإمبراطوريون هم أعداء الشعب، ولا حلَّ لهذا الواقع الرديء إلا بإقامة الدولة على مبادئ الاشتراكية، وأن العنف هو الوسيلةُ الوحيدة لتحقيق الدولة الاشتراكية المـُثلى. لكن أُلقيَ القبضُ على «غوزمان» وعدد من مساعديه في 12 سبتمبر 1992م، واستسلم المئاتُ من أعضاء جماعته. وأدَّى ذلك فيما بعدُ إلى ضياع هيبته الأسطورية، وانقسام الحركة إلى فصيلين؛ إحداهما أيَّدت السلام، والأُخرى واصلت الكفاح المسلَّح.  مما انتهى بالحركة إلى الضعف فالاندثار.

بقاء الجماعات
وعلى خلاف ما تقدَّم، ثَمَّة حالاتٌ لتنظيمات قُتِل قادتها من ذوي الشخصيات القوية المؤثِّرة، ولم تنتهِ الجماعاتُ بموتهم، ولا تلاشت برحيلهم، ولعلَّ أشهر نموذج حاضر من ذلك:

تنظيم القاعدة: أسَّسه وتولَّى قيادته «أسامة ابن لادن»، واستمرَّ التنظيمُ في ممارسة نشاطه المتطرف والإرهابي بعد مقتل زعيمه، في إثر عملية نفَّذها الجيشُ الأمريكي في مايو عام 2011م. وتولَّى «أيمن الظواهري» قيادةَ التنظيم خلفًا «لابن لادن» حتى مقتله في يوليو عام 2022م، ومع قتل قائدَيه المؤثِّرَين بقي التنظيم قائمًا على سُوقه، وما زال خطرًا يهدِّد أمن العالم حتى الآن؛ لأن القاعدة تجاوزت الإقليمية الجغرافية، وباتت عقيدةً فكرية عابرةً للحدود، ولها فروعٌ منشرة في أصقاع الأرض.

لهذا يمكن القولُ: إن استهدافَ زعماء الجماعات الإرهابية إجراءٌ مهمٌّ في إستراتيجيات مكافحة الإرهاب، وربما هو أقربُها وأولاها لدى المزاج الأمني والعسكري القتالي، الذي يُؤثِرُ المواجهةَ الميدانية في مكافحة الإرهاب، وله أنصارٌ كبار ومؤيِّدون من قادة دول العالم؛ لأنه يقدِّم فرصةً متميِّزة لإعلان نصرٍ مؤقَّت على الجماعات الإرهابية، وكسر شوكتها. لكنَّه ليس وسيلةً فاعلة في جميع الحالات، على ما تقدَّم، فإن التنظيماتِ الإرهابيةَ ذاتَ العقيدة الدينية، والتنظيمَ المؤسَّسي المتماسك، كثيرًا ما تكون قادرةً على البقاء بعد أن تفقدَ زعماءها، وأكثرَ قابليةً للتكيُّف مع التغيُّرات والظروف الطارئة.

الخضوع والإدماج
عند وجود خيارات أكثرَ مرونةً في محاربة التنظيمات الإرهابية، بعيدًا عن الحلِّ العسكري والقبضة الأمنية؛ مثل: المرونة والتفاوض، والخضوع وإلقاء السلاح، والإدماج في المجتمع مرَّة أُخرى، فإن ذلك يكون حلًّا جيدًا في مكافحة الإرهاب، وتحييد خطر الجماعات الإرهابية، والقضاء على أفكارها المتطرفة؛ لتصبحَ عضوًا فاعلًا في المجتمع، ويمكن تحقيقُ ذلك باتِّباع مسارين:

  1. المسار الكلِّي: وهو قائمٌ على اتفاقيات السلام المباشِرة مع التنظيمات الإرهابية الصُّلبة ذات القيادات الحازمة، والأهداف المحدَّدة الواضحة القابلة للتطبيق، مثل الوصول إلى إقرار الحُكم الذاتي، ويلتزم أعضاؤها وأنصارها بالاتفاقيات التي يُبرمها قادتها.  ومن النماذج المعبِّرة عن هذا التوجُّه «الجيش الجمهوري الإيرلندي» الذي أُسِّس عام 1919م، ليكون قوةً عسكرية غير رسمية تهدِفُ إلى تحقيق استقلال إيرلندا. وأدَّت المعاهدةُ الأنجلو إيرلندية في عام 1921م إلى انقسامات داخلَ الجيش الإيرلندي، ما بين مؤيِّدٍ للمعاهدة ومعارضٍ لها؛ لأنها لا تحقِّق الاستقلال التام لإيرلندا عن بريطانيا. وأدَّت هذه التحوُّلاتُ في إستراتيجيات التنظيم، أو القرارات السياسية التي اتخذها، إلى انقسامه إلى مجموعتين. فنشأ الجيشُ الجمهوري الإيرلندي النظامي، الذي انشقَّ عن الجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقَّت في نهاية التسعينيات؛ بسبب استياء أعضاء الجيش المتطرفين من الاتجاهات والقرارات السياسية التي تتَّخذها قيادةُ التنظيم؛ إذ وافقَ الجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقَّت على وقف إطلاق النار؛ للانخراط في عمليات السلام الإقليمية.
  2.  المسار الجزئي: وهو قائمٌ على عمليات فكِّ الارتباط بين الأفراد والتنظيمات المسلَّحة، ولا سيَّما التنظيمات غير المركزية ذات الصِّبغة العقائدية. وهي إستراتيجيةٌ تسعى إلى نزع الأفكار المتطرفة، وإعادة تأهيل الأفراد الذين ارتبطوا بهذه الجماعات، وإقناعهم بالتخلِّي عن العنف، وتفكيك القناعات الفكرية للعقيدة التي آمنوا بها في وقتٍ ما.  ومن النماذج الصريحة في هذا الجانب، تجرِبة «مركز تأهيل سيريندي» في جمهورية الصومال؛ فمنذ تسعينيات القرن الماضي يشهد هذا البلد موجاتٍ من الحرب الأهلية، نشِبَت بين فصائلَ متعددة، وكِيانات مختلفة تطمَحُ إلى السُّلطة، في ظلِّ انهيارٍ عميق لمؤسسات الدولة. وفي العقود الثلاثة الماضية بُذلت جهود دَولية كبيرة؛ لتحقيق الاستقرار، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، بما يجعلها قادرةً على بسط النفوذ والأمن، وتوفير الخِدْمات العامَّة للشعب.

ويقوم مركز «تأهيل سيريندي» بدعم الشباب ذوي المخاطر المنخفضة، الذين انضمُّوا فيما قبلُ إلى صفوف حركة الشباب المجاهدين الصومالية، ثم انسحبوا من الحركة طَوعًا، واستنكروا عقيدتها الفكرية وسياستها وأهدافها؛ من أجل إعادة إدماجهم في المجتمع، ليكون ذلك جزءًا من السياسة العامَّة للحكومة الصومالية الفيدرالية ولشركائها الدَّوليين في مواجهة الحركة.

وعلى الرغم من التحدِّيات التي واجهها، تحوَّل مركز سيريندي بين عامي 2015 و2018م تدريجيًّا إلى مركز إصلاحي، عبر ما يقدِّمه من خِدْمات؛ إذ يعمل على فكِّ الارتباط مع الجماعات الإرهابية؛ بواسطة التعليم الأساسي، والتدريب المهني، وإعادة الاتصال مع الأُسَر والعشائر. ويتلقَّى المستفيدون دعمًا نفسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا؛ لتحصينهم من الفكر المتطرف الضالِّ. ويقدِّم المركز أيضًا مبادراتٍ للارتقاء بالمهارات الحياتية التي تشمل التربيةَ المدنية والسياسية والدينية، ودوراتٍ في التنمية الشخصية البشرية. مع تقديم الدعم النفسي الاجتماعي، والمشورات التي تضع الحلول. ويؤكِّد البرنامجُ أهميةَ الجانب الاقتصادي، والنظر بعين الحُسبان إلى انتشار البطالة المزمنة في الصومال، ويسعى إلى تنويع سُبل العيش الكريم.

ويمكن القول: إن عمليات إلقاء السلاح والإدماج، سواءٌ على المستوى الكلِّي أو الجزئي، لها أثرٌ عميق في القضاء على التنظيمات الإرهابية، أو تحييد خطرها، ولكن بطرق متباينة متفاوتة. غيرَ أن الإدماج على المستوى الكلِّي أبعدُ أثرًا، ولكنَّ الأجنحة الموغلة في التطرف قد لا تقبلُ به، وفي الغالب تنفصل عن الجسد الأساسي، ويبقى أثرها محدودًا. أمَّا عملياتُ فكِّ الارتباط ونزع التطرف فإنها سببٌ لتآكل التنظيمات الإرهابية شيئًا فشيئًا، مع بقاء العمود الفِقَري الأساسي للتنظيم.