الهُويَّات المتعددة وعَلاقتها بالهُويَّة الوطنية من القضايا المثيرة للجدل والنقاش؛ لِما لهذه العَلاقة من أثر في الاستقرار والوئام الوطني بين مكوِّنات المجتمع، وهي تؤثِّر في بناء دولة القانون والحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان والمواطَنة الشاملة. وفي ظلِّ الآثار السريعة والمعقَّدة للسياسة العالمية الراهنة، باتت الهُويَّات الإثنية والعرِقية والوطنية والدينية والطائفية أدواتٍ ترتكز إليها السياسةُ الدَّولية. وفي المقابل هناك تداخلاتٌ وإشكالات كثيرة في مفاهيم الهُويَّة، وفي مظاهرها الوطنية على اختلاف الظروف الاجتماعية والسياسية، ممَّا يؤكِّد الحاجةَ إلى وسائل نظرية وعملية للانتقال من الهُويَّات الفرعية إلى الهُويَّة الوطنية الجامعة.

وفي خضمِّ الظروف غير المستقرَّة التي تشهدها كثيرٌ من الدول، أصبح من الواجب مراجعةُ موضوع الهُويَّة؛ لأن الهُويَّات أصبحت أداةً للصراع ومنزلقًا نحو التطرف، وهدفًا رئيسًا لبعض الدول والقوى لبسط النفوذ والسيطرة. وكثُرت حالاتُ اختزال الهُويَّة في انتماء واحدٍ مذهبي متعصِّب وتطرف إقصائي عنيف، يهدِّد العَقْد الاجتماعي ويدفع السِّلم المجتمعي إلى الهاوية، ويمهِّد إلى مزيد من التدخُّلات الخارجية.

مدخل إلى المفهوم

حظيَ مصطلح الهُويَّة بتعريفات كثيرة في الحقول المعرفية المختلفة، ومن أبرزها تعريفُ المفكِّر صامويل فيليبس هنتنجتون للهُويَّة بأنها: إحساسُ فردٍ أو جماعةٍ بالذات، ناتجٌ عن وعي بها (بالذات)؛ وإدراك أنني أو نحن نمتلك خصائصَ مميِّزة في كِيان يميِّزني عنـكَ ويميِّزنـا عـنهم.

وتُعرَّف الهوية من الناحية النفسية بأنها: مزيجٌ من الخصائص الاجتماعية والثقافية التي يشترك فيها الأفراد، ويمكنُ على أساسها التمييزُ بين مجموعةٍ وأُخرى. وتُعرَّف أيضًا بأنها: مجموعةُ الانتماءات التي ينتمي إليها الفرد، وتُحدِّد سلوكه، أو إدراكه لنفسه. وتتأثَّر الهوية بعواملَ كثيرةٍ خارجة عن سيطرة أصحابها؛ مثل: الجوانب السكَّانية والجغرافية والخصائص الطبيعية والاجتماعية للإنسان؛ كالعِرق، والطبقة الاجتماعية والاقتصادية، والآراء السياسية، والمواقف الأخلاقية، والمعتقدات الدينية. وللمعرفة الشخصية أهميةٌ في زيادة وعي الفرد بهويته واحترامه لذاته وفهمه لها. وتشهد الهوية تحوُّلات دائمة، فهي تتغيَّر وتتطوَّر مع الزمن.

ويمكن القول: إن الهوية مجموعةُ خصائصَ وأنماط سلوكية تميِّز جماعةً أو شعبًا أو حضارة من غيرها. وبهذا فإن مكوِّنات الهوية هي: المكان، والزمان، والثقافة، والدين.

أمَّا الهُويَّة الوطنية فهي: الخصائصُ والسِّمات التي يتميَّز بها المواطنون داخل كلِّ دولة، وتُبرز تلك الخصائصُ روحَ الانتماء لديهم، وتُوظَّف في رفع معنويَّاتهم لغرض تقدُّم مجتمعاتهم وازدهارها. وتشتمل الهويةُ الوطنية على عناصرَ أساسيةٍ بعضُها مادِّي والآخر معنوي، منها: الموقع الجغرافي، والتاريخ المشترك، والمصالح المشتركة، والحقوق المشتركة. ويتمتَّع أبناءُ الهوية الوطنية الواحدة بالحقوق ذاتها؛ كحقِّ التعليم، وحقِّ الملكية، وحقِّ العمل، ويشتركون في الواجبات الفردية والجماعية التي ينبغي عليهم القيامُ بها، بالصفة الفردية أو الجماعية، في مؤسَّسات تعمل وَفقَ أساليبَ محدَّدة، كمؤسَّسات التربية والتعليم، والصحَّة والبيئة، والاقتصاد والبنى التحتية، والدفاع والأمن، وغيرها من مؤسَّسات وطنية تحمل روحَ العمل الجماعي لخدمة الوطن والمواطن. فهذه كلُّها بعملها والتزامها به على الوجه الأمثل تعبِّر عن الهوية الوطنية. وتتجلَّى أهميةُ الوعي بالهوية الوطنية والالتزام بها في آثارها العظيمة الظاهرة على الفرد والمجتمع والوطن.

وأمَّا الهُويَّة الدينية فهي: الشعورُ بالانتماء إلى المجموعة الإيمانية الواحدة والارتباط بأفرادها. ويتجلَّى هذا الشعورُ بالوَحدة الاندماجية الروحانية، وفي الواقع السُّلوكي للممارسات. وممَّا يمنح الهويةَ الدينية تميُّزًا أكبر: شمولُ آثارها، وتجاوزها لجميع المحدِّدات الفرعية الأُخرى، مثل: العِرق والقومية والجنس واللون، وغيرها من الدوائر المحدِّدة لانتماء الفرد.

وأمَّا الهُويَّة الإثنية فهي: مجموعةُ الصفات المعبِّرة عن ثقافة الأفراد ومعتقداتهم وقيمهم، التي تميِّزهم من الآخَرين سواءٌ أكانوا في بُقعة جغرافية معيَّنة أو منتشرين في أصقاع العالم، مع الحفاظ على هذه الهوية. وأبرزُ هذه الصفات: اللغة والجنس والتراث والدين واللباس والتقاليد، وتُعَدُّ الهوية الإثنية جزءًا أساسيًّا من هوية الفرد، وتؤثِّر في سلوكه وتفكيره وتعاملاته مع الآخرين.

وأمَّا الهُويَّة العِرقية فهي: هوية تقوم محدِّداتُها على الخصائص الجسدية للمجموعات السكَّانية المتميِّزة ضمن جنس بشري أكبر، وأبرزُ هذه الخصائص هي لونُ البشَرة والشعر، وملامح الوجه ولا سيَّما نمط العيون ومَظهَر الأنف، وسَمْت بنية الجسد.

وكثيرًا ما يخلطون بين الهويتين الإثنية والعِرقية، غير أنهما متباينتين؛ فالعِرقُ محدِّد بيولوجي والإثنية محدِّد ثقافي؛ فمن الممكن إخفاءُ الإثنية أو إظهارها، بخلاف الهوية العِرقية التي لا يمكن إخفاؤها أبدًا، فهي ظاهرةٌ في مُحيَّا الفرد وملامحه.

وأمَّا الهُويَّة الطائفية فهي: هوية تحدَّد بالانتماء الديني الضيِّق إلى مجموعة دينية محددة ذات كِيان خاصٍّ يميِّزها في الانتماء العريض للدين ذاته. ويؤثِّر الانتماءُ الطائفي في معتقدات الفرد وتصوُّراته وسلوكه، التي تتجسَّد في العادات والتقاليد والتوجُّهات الثقافية للمجموعة المحدَّدة.

وهذه الهُويَّات كلُّها تمثِّل في مجملها حاجةً إنسانية تنبُع من ذات الفرد واحتياجه إلى مكوِّن اجتماعي يلوذُ به، يكون إطارًا حاميًا له من تكتُّلات المجموعات البشرية الأُخرى، وسعيها في الحفاظ على مصالحها. ولهذا تلجأ المجموعاتُ البشرية إلى البحث عن المشتركات الإنسانية الخاصَّة، وعن المصالح المشتركة التي تنظم عَقدَها الاجتماعي، فتكوَّنت بذلك الهويات على مستويات متعدِّدة؛ تضيقُ أحيانًا إلى مستوى أفراد قليلين، وتتَّسعُ فتشمَلُ دولًا أو أممًا وشعوبًا.

وربما تمثِّل الهوية القومية أو الهوية الدينية أو الهوية العِرقية أو الهوية الطائفية، تعبيرًا عن الإطار الضيِّق للهويات، غير أنها في حالات أُخرى تجسِّد إطارًا واسعًا، ولا سيَّما في حالة الهوية الدينية، أو الهوية الوطنية التي قد تكون جامعةً لأكثرَ من قومية أو دين أو عِرق أو طائفة.

دوائر متعدِّدة مختلفة

يمكن تصوُّر الهوية على أنها دوائرُ متعدِّدة متداخلة ومتوالية، يحيط الأكبرُ منها بالأصغر. فالدائرة الإسلامية هي الوعاءُ الأكبر للمسلمين، وتضمُّ داخلها دوائرَ فرعيةً غير متقاطعة، مثل الدائرة العربية أو الإفريقية، وداخل الدائرة الإفريقية دوائرُ أصغر مُتباينة، مثل الدائرة النيجيرية والدائرة السنغالية وهكذا دوالَيك. فكلَّما تحدَّثنا عن محدِّد للهوية، مثل: العِرق أو الجغرافية أو اللغة أو القبيلة، تظهر دائرةٌ جديدة ضمن الكِيان العامِّ المكوِّن لهوية الفرد. وعند الحديث عن الهوية بمفهومها السياسي لا يُفترَض بحال أن تتعارضَ مع الإسلام؛ لأن الهوية وَفقَ تعريفها الإسلامي ذاتُ نزعة إنسانية وكونية، أي أنها فضاءٌ يتَّسعُ لما دونه من هويات فرعية.

 ومن الجوانب الجديرة بالتنبُّه والتأمُّل أن بناء المجتمعات والأوطان يعتمد على الأمور التي تشترك فيها جميعُ المكوِّنات في المجتمع والوطن، وهذا ينسجمُ مع اعتماد الهوية الوطنية التي تكون أساسًا لثبوت الحقوق والواجبات للأفراد والجماعات تجاه المجتمع والوطن. ولا نرى في الإسلام ما يُعارض اعتماد المواطَنة قاعدةً في نظام الحكم والإدارة، وتوزيع الحقوق والواجبات بمساواة وعدل بين المواطنين على اختلاف هوياتهم الدينية والثقافية. وينطلق هذا العدل من التوجيه الإلهيِّ الوارد في مُحكَم الكتاب، من ذلك قوله تعالى: {وإذا حَكَمتُم بين النَّاس أن تَحكُموا بالعَدل}، وقوله: {ولا يَجرِمَنَّكُم شَنآنُ قومٍ على ألَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتَّقوى}. 

مرجعية وثيقة المدينة

وفي سيرة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم ما يؤكِّد اعتمادَ المواطَنة أساسًا لمعايير العيش المشترك بين مكوِّنات المجتمع المختلفة؛ وذلك بتحقيق المساواة بين المواطنين في اكتساب الهوية الوطنية، التي كانت مصدرًا للحقوق، وهذا ما ظهر في وثيقة المدينة المنوَّرة التي عقدَها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع مكوِّنات المجتمع المختلفة في بداية العهد الجديد، وإقامة الدولة وتنظيم شؤونها.

وقد كانت الهوية الدينية في المدينة مختلفةً ما بين المسلمين وغير المسلمين من يهود ومشركين وغيرهم، ولكنَّ الهوية الوطنية كانت الجامعَ المشترك فيما بينهم، وقد ضمنت هذه الوثيقةُ للجميع؛ من مهاجرين وأنصار وأوس وخزرج ويهود وغيرهم حقوقهم. فالوثيقةُ عَقدٌ اجتماعي أرسى قواعد الأخوَّة بين المهاجرين والأنصار، وحافظ على العيش المشترك مع غير المسلمين من اليهود وغيرهم من العرب الذين لم يؤمنوا بالرسالة بعد. وأعطتهم الوثيقةُ المساواة مع المسلمين في المصالح العامَّة، وكفَلَت لهم حقوقهم على قاعدة التعايش مع الشريك في الوطن، المستفادة من قوله تعالى: {لا يَنهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتِلوكُم في الدِّين ولم يُخرِجُوكُم من دِيارِكُم أن تَبَرُّوهُم وتُقْسِطُوا إليهم إنَّ الله يحبُّ المُقْسِطِين}.

ويؤيِّد هذا المعنى الذي تقدَّم من المساواة، ما ورد في السنَّة النبوية الشريفة عن رسول الله، عليه أزكى الصلاة والسلام: «لا فضلَ لعربيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ، إلا بالتَّقوى، الناسُ من آدمَ، وآدمُ من تُراب». فإن المواطنين قد يختلفون في أعراقهم وانتماءاتهم لكنَّ المشترك بينهم في الوطن الواحد هو المواطَنة التي تضمن للجميع حقوقهم على حدٍّ سَواء.

الهوية الجامعة

في الختام يمكن القولُ: إن الهُويَّة الوطنية طوقُ النجاة للمجتمعات؛ لحفظها من التشرذم والانقسام (الهوياتي)، ممَّا يعني ضرورةَ الحاجة إلى مصالحة (هوياتية) حقيقية تُفضي إلى معادلة توافقية، وهذه المصالحة يجب أن تُبنى على أسُس صُلبة تتضمَّن:

  • الاعتراف بكِيان الدولة والوطن، فهو المفتاحُ لهذه المصالحة؛ فلا مصالحةَ إلا مع المؤمنين بوطن قابل للانتماء إليه.
  • اعتماد المعرفة مدخلًا لهذه المصالحة؛ إذ تُتيح المعرفة الانفتاحَ على الوطن بجميع مكوِّناته دون استثناء.
  • القَبول بالواقع والاعتراف به، على اختلاف أطيافه وتباينها، باعتبارهم جميعًا شركاءَ أساسيين في بناء الوطن.
  • ضمان حرية الاختلاف، والإقرار بمبدأ الحريات العامَّة والشخصية.
  • تحرير مفهوم الوطن تحريرًا واضح الدَّلالة، وتحديد الموقف من محاولات اختزال الوطن في أشخاص.
  • الابتعاد عن خطاب التخوين، وعمليات الإقصاء والترهيب للشركاء المختلفين.