يهدِفُ هذا المقالُ إلى صياغة تحذيرات من المخاطر المحدقة بمنطقة كوت ديفوار/ساحل العاج، ودعم عمليات تطوير السياسة العامَّة من وجهة نظر الوقاية والاستجابة الأمنية، ويستلهم نظريةَ الهيمنة الثقافية، مستندًا إلى أدبيات الواقع المحلِّي، فضلًا عن مجموعة من المقابلات مع جهات أمنية عدة. إذ تمثِّل كوت ديفوار سلسلة من الأراضي المتصلة، وهذا يُعدُّ عنصر ضعف، ولا سيَّما أن البلاد عانت غير مرَّة اعتداءاتِ مهاجمين جاؤوا من مناطقَ أخرى.

الاضطرابات الأمنية
شهدت المنطقة منذ ربع قرن تقريبًا اضطرابات أمنيَّة بقيادة جهات من خارج الإقليم تتستر بالدِّين من أجل الهيمنة، ولها تفسيراتها الخاصة التي تصب في النهاية في بوتقة الإرهاب، رسَخَت عبر هذه الظاهرة إقليميًّا وذهنيًّا، وانحرف مؤشر التطرف شيئًا فشيئًا نحو خليج غينيا بعد تجذُّره في شمالي القارة في ظلِّ ضعف ردود فعل الدولة، وذلك في أعقاب تمرد الطوارق عام 2013م، والانهيار العسكري لتنظيم داعش الإرهابي في الشرق الأوسط. ولمـَّا كانت كوت ديفوار جغرافيًّا دولة تحدها غانا من الشرق، وغينيا وليبيريا من الغرب،  ومالي وبوركينا فاسو من الشمال، وتشرف من الجنوب على خليج غينيا وجب السؤال: هل تواجه كوت ديفوار تطرفًا عنيفًا؟ وما التحدياتُ وردود الدولة على الإرهاب؟

واقع كوت ديفوار 
لم تصل كوت ديفوار بعدُ إلى درجة العنفِ الذي تشهده المِنطقة أو شدَّتِه، إذ تكشف الهجمات التي حدثت في 11 مارس 2016م على منتجع «غراند بَسَّام» في كوت ديفوار، وعلى نقطة المراقبة المتقدِّمة للجيش في بلدة «كافولو» في 11 يونيو 2020م؛ طبيعةَ التهديد الإرهابي في البلاد وتركيبته الخارجية. إذ تؤدِّي الاضطرباتُ التي حدثت بسبب الانتخابات الرئاسية في العام نفسه إلى التغاضي عن مَيل بعض الأئمة والشباب من الفتيان والفتيات إلى إظهار التعاطف الطائفي، والعديد من علامات الصراع مع الدولة العَلمانية.

وقد كانت الأدبيات المتعلِّقة بالإسلام الإيفواري ذات النظرة المتسامحة حتى وقت قريب لا تكاد تأخذ بالحُسبان تطورَ أفعال التعصُّب الديني وخطاباته؛ بسبب تصاعد الإرهاب في جميع أنحاء العالم. ومنذ عام 2005م تقريبًا كانت البلاد تتجه شيئًا فشيئًا نحو نوع من التشرذم والانعزالية المجتمعية والممارسات الدينية البدعية، تحت تأثير الرغبة في إعادة تقويم البلاد. وعلى الرغم من عدم ارتكاب المتعصبين الإيفواريين حاليًّا أي نوع من أنواع العنف، لا ينبغي أن يحجب الزيادة الملحوظة في نشاط الكراهية الذي يُعبَّر عنه في نطاق أعمال التبشير المتشدِّد والواسع، ويبدو مفيدًا من الآن فصاعدًا تقويمُ آثار هذا الوضع على المدى القريب والبعيد، فيما يتعلَّق بظهور كثيرٍ من الشبكات المتطرفة، من الصحراء الكبرى إلى خليج غينيا.

أما في مدن كوت ديفوار فتتلاشى روح التعايش والضيافة الموروثتان من الهوفويتية «نسبة للرئيس السابق فيليكس هوفويت بوانيي»؛ بسبب عواملَ عدة، منها: خطاب التكفير، المستند إلى الاتهام بالابتداع للفرق الدينية الأخرى، الذي لا يهاجم الأقلية ذات النزعة المنحرفة فحسب؛ بل المشيخة التقليدية وثقافتها وقيمها أيضًا. 

وفي بلدة وانغولودوغو الواقعة شمالي كوت ديفوار، وعلى الحدود مع بوركينا فاسو، تزامنت عملية تفنيد «الضلال» مع ظهور مجموعة صغيرة من سائقي الدراجات النارية المسلَّحين سنة 2019م، وهدَّد مبعوثوهم بالهجوم على المدينة إذا لم يُلغِ الزعماء العرفيون الاحتفال المعروف بمهرجان الكروبي الذي يُنظم في ليلة 27 من شهر رمضان، وترقص فيه فتياتٌ صغيرات في الشوارع. وقد أظهرت رواياتُ كثير من الأشخاص الذين حاورناهم لمعرفة أسباب التطرُّف العنيف في سان بيدرو سنة 2017م حقيقةَ الانقسام الذي يعانيه السكان من حيٍّ لآخر، ويُعبَّر عن الاختلاف الفكري والمنهجي بالمصطلحات الجديدة المميِّزة بين الكفر والإسلام. 

وفي مِنطقة مان سنة 2017م، ونيابة عن الجماعات الإرهابية المتنافسة، قام شباب متعصِّبون بسرقة المساجد أو السيطرة عليها. وكشف الضرب بالعصا، وإسالة الدماء، والتحرُّش بالأئمة المتهمين بالرِّدة، لدى الرأي العام المصدوم، مدى تغوُّل الإرهابيين في مدينة لابي في غينيا المجاورة، على كوت ديفوار بسبب نشاط أقلِّية محدودة.

ليس هناك شخصيةٌ مسلمة تدعو إلى العنف تحت ستار التعبُّد، في حين يقوم آخرون بتطوير خطابات تتناقض مع قيم الدولة التي تدعو إلى العيش المشترك، ويطالبون بالحق في التعصُّب الديني، ويدافعون عنه، ويمارسونه بحُجَّة حرية التعبير والضمير، ومن هنا يؤدِّي استغلالُ بعض المفاهيم الغيبية إلى الحضِّ على إعادة صياغة المعايير، ثم يقوم بعض الفاعلين بحقن الجسد الاجتماعي بمشاعر الاستياء والتمرُّد، عندما يستخدمون أوجه القصور الهيكلية للحكومة. وفي هذه الحالة يكون الهدف هو الإعداد النفسي، ووضع الأساس للتمرُّد القادم. 

تحديات الواقع والاستجابة
في الحقيقة لا شيءَ يميِّز كوت ديفورا من دول المنطقة في سجلِّ الأمراض الاجتماعية، والتشابك بين السياسة والدِّين والتعصب الطائفي، وكلها مؤشِّرات على الحَراك القادم، فمنذ نحو عقدين من الزمن أعاد الفاعلون السياسيون صياغة بعض العناصر التي ما فتئت الدولةُ والعولمة الاستهلاكية تجاهد لدفعها إلى الانقراض، وهي القبيلة والعِرق والمحسوبية التي دفعت بالبلاد إلى مرحلة غير مسبوقة من الوحشية، ومن ناحية أخرى يكشف إفلاسُ السياسة عن ضعف البيئة والتشرذم والانحلال؛ إذ لا يصمد العقد الاجتماعي الآن إلا من عمليات التفاوض أو المواجهة المتكررة. وعلى الرغم من الجهود السياسية والأمنية والاقتصادية منذ عام 2011م فإن البلاد تعاني الصراعات التي تجاهد من أجل التغلُّب عليها. وقد أدَّى إخفاق بناء دولة «ماكس فيبر» على مبادئ القوة والقانون والعقلانية لدى بعض مكوِّنات المجتمع إلى ولادة نوع من التطلُّع إلى تجديد الهُوية على أساس استبعاد الآخر بالقضاء عليه. 

وباتت مجموعةُ أمانكامان في منطقة بواكي في وسط كوت ديفوار، فرصةَ تجنيد مثالية لصالح الإرهابيين الدَّوليين؛ لأنها جمعية يلجأ أعضاؤها إلى نوع من الأسلوب القهري والاستعراضي، ويجيد الكثير منهم التعامل مع أسلحة الحرب بالنظر إلى ماضيهم على أنهم من المتمرِّدين السابقين؛ فهي مجموعة تمثل نتاجَ البطالة والظلم وخيبة الأمل، ويمثِّل هؤلاء الأفراد المعدِمون جمعيةً غير رسمية.

تتناول كوت ديفوار عقيدة الإرهاب من وجهة نظر الجريمة، ويسودها النهج المتجه إلى التصعيد العسكري، باستثناء طرائقَ قليلةٍ للوقاية، ومنها «الحقيبة التربوية والتعليمية». وتشهد الاستثماراتُ الكبيرة في المـُعِدَّات الحربية والتدريب، والموارد الاستخباراتية، وإنشاء مناطق عمليات في الشَّمال، على قدرة أفضل على الردِّ على أيِّ عدوان. فالعمل للتأثير في المصدر والسبب الأصلي لا يزال أمرًا مفقودًا.

خلاصة القول
إن أمر الإرهاب في غرب إفريقيا آخذٌ في التعاظُم، وتتحدَّى هذه الظاهرة -بتكتيكاتها التمويهية، وتنوُّع أنماط التشغيل، وتهجين العوامل، والجهات الفاعلة- الأمنَ التقليدي. ولا شك أن كوت ديفوار لا يعاني بعدُ في مواجهة الحركات الإرهابية خطرًا يمَسُّ سلامة أراضيه، لكنَّ هناك مؤشرات ضعف وقوة تمثِّل مسوِّغًا للخوف. ويعتمد الفاعلون الإرهابيون على عامل الزمن لاختبار الخصم بالاستفزازات المتكرِّرة، وبناء الشبكات، والانتشار في بيئات التعليم المتدنِّي، والفقر، والاستئصال الثقافي. ويتبيَّن هنا أن التزام دعاة التطرف العنيف، بعيدًا عن المصالح المادية، ناتجٌ عن قناعة، وإيمان قوي لا يتزعزع، فقَدَ كلَّ صلة وأمل بالحياة.

وتتطلَّب طبيعةُ الخطر الحالي في البلاد خبرةً متعدِّدة التخصُّصات، لا تقتصر على النظام الأمني؛ بل يجب أن تأخذ في الحُسبان الجوانب الجيوسياسية، والعَلاقة بالاقتصاد والجغرافيا، ونسبة الولادة الفائقة والاحتكاك السكاني، فضلًا عن خُطط التلقين الفكري الناجعة.