يؤكِّد الخبراءُ دومًا قوةَ العَلاقة بين ألعاب (الفيديو) وجرائم العنف والإرهاب، حيث حظيت هذه الألعابُ في عصرنا بإقبال كبير من الأطفال والفتيان المراهقين. ولعلَّ الهجومَ الإرهابي الذي وقع في مدينة «كرايستشرش» بنيوزلندا عام 2019م، وحصدَ أرواح 49 مسلمًا في أثناء انتظارهم صلاةَ الجمعة في مسجد النور ومركز لينود الإسلامي، يُبرز تلك العَلاقة بوضوح. 

فعلى وقع أنغام موسيقية، و(بكاميرا) مثبَّتة على خُوذة الإرهابي المعتدي؛ بثَّ تفاصيلَ الجريمة المروِّعة الآثمة، وهو ينتقل من ضحِّية إلى أُخرى، مطلقًا النار على الجرحى الذين يحاولون الهرب، في محاكاة رمزيَّة لإحدى ألعاب القتال المعروفة بـ «PUBG».

عواقبُ وَخيمة
هذا الحادثُ وما كان على غِراره من حوادثَ أُخرى، دفع خبراء التربية إلى التحذير من العواقب الوَخيمة لهذه الألعاب؛ فهي تخلِّف في النفس آثارًا داخلية تقود إلى العنف، ولا سيَّما في المجتمعات التي تغيبُ عنها التربية والتوعية. وعُدَّت ألعابُ الفيديو العنيفة من الأسباب الرئيسة لصعود العنف في المجتمع؛ بسبب الاعتماد الزائد على الترفيه الرَّقْمي في السنوات الأخيرة. 

ومع ازدياد شعبية هذا النوع من الألعاب، أصبحت أكثرَ اجتماعيةً؛ إذ يجدُ اللاعبون أنفسَهم في شبكات اجتماعية نامية، ذات آثار لا حصرَ لها في الثقافات والأفكار، وفي سلوك الأفراد والمجتمعات؛ ممَّا دعا الجماعاتِ الإرهابيةَ لاستغلالها أيضًا في نشر الأفكار المتطرفة وعمليات الاستقطاب والتجنيد.

ويعود الجدلُ الدائر المرتبط بألعاب الفيديو العنيفة، إلى لعبة «سباق الموت» Death Race التي طوَّرتها شركةُ «إكسيدي» Exidy الأمريكية عام 1976م. فقد جذبت اللعبةُ انتباه مراسلةِ وكالة «أسوشيتدبرس» ويندي ووكر، التي وصفَت اللعبة بأنها شديدةُ العنف، ووصلت المخاوفُ إلى مجلس السلامة الوطني في الولايات المتحدة، الذي اتهم اللعبةَ بتمجيد دعس الناس وقتلهم بالسيَّارات.

ثم بدأت ألعابُ الفيديو العنيفة مرحلةً جديدة في عام 1992م، بعد إطلاق لعبة «القتال المميت» Mortal Kombat، وهي لعبةُ صراعاتٍ عنيفة تسعى إلى القتل، وكان الوصفَ الرسمي للعبة حينئذٍ هو: «يمكنك تفجيرُ دماغ العدوِّ الذي أمامك باستخدام قواك المميَّزة». وعُدَّ هذا النوعُ من الألعاب مُغذِّيًا للعنف في مستويات شتَّى، ولا سيَّما بعدما تطوَّرت بفضل التقدُّم التِّقني والرَّقْمي الذكي الذي حوَّلها إلى بيئة تفاعلية تصنع واقعًا افتراضيًّا يصبح فيه اللاعب جزءًا من بيئةٍ غامرة؛ ممَّا يزيد من التصاقه واندماجه بها تمامًا. 

وفي السنوات الأخيرة جذبت بعضُ الألعاب الانتباه العامَّ حين تحدَّثت وسائلُ التواصل الاجتماعي والصِّحافة عن ارتباطها بالعنف الذي يصل إلى مرحلة الانتحار. من هذه الألعاب: لعبة «الحوت الأزرق» Blue Whale التي ظهرت في روسيا عام 2016م، ويُشتبَه في كون هذه اللعبة سببًا في عددٍ من حوادث الانتحار في صفوف الفتيان والمراهقين؛ إذ تتكوَّن اللعبةُ من تحدِّيات على مدار 50 يومًا، وفي التحدِّي النهائي يُطلَب من اللاعب الانتحار.

مداخل العنف
في عام 1993م دفع الغضبُ العام عقبَ إطلاق لعبتَي فيديو عنيفتَين هما: «القتال المميت» Mortal Kombat و»ليلة الشَّرَك» Night Trap، الكونغرس الأمريكي إلى عقد جلَسات استماع بشأن تنظيم بيع ألعاب الفيديو. وفي تلك الجلَسات أدلى المدَّعي العام في كاليفورنيا «دان لونغرين» بشهادته: أن ألعاب الفيديو العنيفة لها أثرٌ دقيق و(حسَّاس) في العقول الشابَّة السريعة التأثُّر. وأسفر ذلك عن قيام مؤسسات صناعة ألعاب الفيديو في الأول من سبتمبر 1994م، بإنشاء مجلسٍ لتصنيف برامج الترفيه بناءً على محتوى لعبة الفيديو.

ومنذ أواخر التسعينيات الميلادية، جرت أحاديثُ عن الاعتقاد بأن المشتبَه بهم في بعض الجرائم ربما كان لهم تاريخٌ في ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة. ففي أبريل 1999م نفَّذ طالبان في ثانوية «كولومباين» بكولورادو الأمريكية مذبحةً؛ بقتل عددٍ من زملائهم وأساتذتهم، وتبيَّن أن الطالبَين كانا يلعبان معًا لعبة فيديو تسمَّى «دوم» Doom، وهي لعبةُ حركة وعنف ورعب شديد. وكان أحدُهما يستوحي منها واجباتِه ومشاريعَه المدرسية. وأفضَت هذه الحادثةُ إلى حالة من الذعر الأخلاقي من ألعاب الفيديو العنيفة، وعَلاقتها بالسلوك العُدواني في الحياة. وانتهت بعضُ الأبحاث إلى أن استخدام ألعاب الفيديو العنيفة مرتبطٌ بزيادة العُدوانية.

ولم تكن حادثةُ ثانوية «كولومباين» الوحيدةَ التي رُبطَت بألعاب الفيديو العنيفة، ففي 22 من يوليو 2011م قتل المراهقُ «أندرس بريفيك» ثمانيةَ أشخاص بتفجير قنبلة في العاصمة النرويجية أوسلو، ثم قتل 69 مشاركًا في معسكر صيفي لرابطة شباب العمَّال النرويجي في جزيرة أوتويا بمقاطعة بوسكرود. وتضمَّنت وثائقُ «بريفيك» المضبوطةُ كتاباتٍ إرشاديةً عن بعض ألعاب الفيديو مثل: World of Warcraft، و»نداء الواجب» Call of Duty وقد أبلغ المحكمةَ في أبريل 2012م أنه تدرَّب على إطلاق النار باستخدام مشهد تخيُّلي لسلاح ثلاثي الأبعاد، مارسه في لعبة «نداء الواجب» التي ساعدته على التمكُّن من الهدف، كما صرَّح.

بين التأكيد والنفي 
توصَّلت بعضُ الدراسات المبكِّرة إلى أن استخدام ألعاب الفيديو العنيفة مرتبطٌ بزيادة العُدوانية، وقد يؤدِّي إلى انخفاض في السلوك الاجتماعي الإيجابي، فيما جادلت دراساتٌ أُخرى بأنه لا تأثيرَ لألعاب الفيديو العنيفة. وفي مقابلة مع شبكة «بي بي إس» BBS عام 2005م، رفض رئيسُ جمعية البرامج الرَّقْمية التفاعلية هذا الارتباطَ بين ألعاب الفيديو العنيفة والسلوك غير الاجتماعي، وقال: إن المشكلة مُبالَغ فيها كثيرًا من قِبَل أشخاصٍ لا يفهمون هذه الصناعة. 

وبعد عشر سنوات صدر تقريرٌ عن الجمعية الأمريكية لعلم النفس في أغسطس 2015م، جاء فيه: إن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة مرتبطٌ بزيادة العُدوانية؛ لكنَّها لم تجد دليلًا كافيًا على الصِّلة بين الألعاب والعنف الزائد باطِّراد. وقد أعادت الجمعيةُ تأكيدَ هذا الموقف في عام 2020م، وقالت: «لا أدلَّةَ علمية كافية لدعم العَلاقة السَّببية بين ألعاب الفيديو العنيفة والسلوك العنيف».

في الطرف الآخَر وفي نفس العام، جاء في دراستَين صدرتا عن إحدى الجمعيات، نُشرتا في عدد أبريل من «مجلَّة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي» Journal of Personality and Social Psychology: أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة يمكن أن تزيدَ من أفكار الشخص العُدوانية ومشاعره وسلوكه العُدواني، في البيئات (المخبَرية) وفي الحياة الواقعية. إضافةً إلى أن ألعاب الفيديو العنيفة قد تكون أكثرَ ضررًا من التِّلفاز والأفلام العنيفة؛ لأنها تفاعلية وممتعة ومشوِّقة، وتتطلَّب من اللاعب معرفةَ المعتدي، كما يقول الباحثون المشاركون في الدراستين. 

وثمَّة دراسةٌ نشرها باحثون في عام 2003م بمجلَّة «البثِّ والوسائط الإلكترونية»، حلَّلوا فيها محتوى 60 من أكثر ألعاب الفيديو العنفية شيوعًا؛ لتُظهرَ النتائج أن الألعاب المخصَّصة للكبار من المرجَّح أن تعرِضَ العنفَ أكثر من تلك المصنَّفة للجمهور العام، وهي تعرض مرتكبي جرائم الأطفال، وتسوِّغ أعمالَ العنف المسلَّح المتكرِّر. وفي 2009م كشفت ستُّ دراسات أُجريت في أماكنَ وبيئات مختلفة، عن العَلاقات بين المحتوى العنيف وتحفيز اللاعبين واستمتاعهم بألعاب الفيديو.

وأظهرت نتائجُ جميع الدراسات: أن اللاعبين الذين يتمتَّعون بدرجة عالية من السِّمات العُدوانية كانوا أكثرَ ميلًا إلى تفضيل الألعاب ذات المحتوى العنيف، على الرغم من أن ذلك المحتوى العنيف لم يعزِّز تعزيزًا مؤكَّدًا الاستمتاعَ باللعبة أو الانغماسَ فيها.

مداخل منهجية ونظرية 
وَفقًا لدراسة نُشِرت عام 2011م في مجلَّة دورية بعنوان «العُدوان والسلوك العنيف» (Aggression and Violent Behaviour) فإن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة تُنتج مستوياتٍ أعلى من الإدراك العُدواني، والتأثير العُدواني، والإثارة الجسدية، والسلوك العُدواني (على المدى القصير) مقارنةً بألعاب الفيديو غير العنيفة. وهناك نوعان من القيود الرئيسة على هذه الدراسات:
  • النوع الأول: على الرغم من أن النتيجةَ الشائعة في كثير من الدراسات هي أن ألعاب الفيديو العنيفة تُفضي إلى مستويات أعلى من العُدوانية مقارنةً بألعاب الفيديو غير العنيفة، فإن ثمةَ عواملَ أُخرى تتجاوز المحتوى العنيف الفعلي، قد تكون مسؤولةً عن المستويات المرتفعة من العُدوانية.
  • النوع الثاني: تميل الدراساتُ التجريبية إلى استخدام مقياس محدَّد للعُدوانية، قد يقيس التنافسية أيضًا؛ مما يؤدِّي إلى أسئلة عن حقيقة ارتباط ألعاب الفيديو العنيفة بالعُدوانية أو التنافسية.
وتَلفِتُ النظرياتُ التي تربط الآثارَ السلبية لألعاب الفيديو أو الألعاب الإلكترونية عمومًا، بالعنف السلوكي- الانتباهَ إلى تفاقُم هذه الآثار؛ بسبب الطبيعة التفاعلية للألعاب؛ إذ تصبح ممارسةُ ألعاب الفيديو العنيفة فرصةً للتمرُّن على الأعمال العُدوانية التي تصبح فيما بعد أكثرَ شيوعًا في الحياة الواقعية. وقد يؤثِّر العنفُ المحاكي لألعاب الفيديو في أفكار اللاعبين ومشاعرهم، ويزيد من سلوكهم العُدواني.

الأمراض النفسية
ووجد باحثون آثارًا للسلوك العنيف لدى المراهقين يسبِّبه نوعٌ من ألعاب الفيديو، واجتهد باحثون آخرون في إثبات خلاف ذلك، وبين الفريقين يرى بعضُ الباحثين أن ألعاب الفيديو العنيفة حتى لو لم تُسهِم في زيادة العنف، هي تَزيد من فُرص الإصابة بأمراض نفسية، مثل: القلق والاضطراب والاكتئاب، والشعور بالوَحدة؛ لأنها تسبِّب نوعًا من السلوك الإدماني، مثل قيادة السيارات بسرعات عالية، والمشي في طرق ملتوية كثيرة المنعطَفات، ممَّا يزيد من السلوك المرتبط بطبيعة هذه الألعاب.

وقد يكتسب الأطفالُ سِمات الغضب والتصرُّف غير المسؤول؛ بسبب المحتوى الغنيِّ بالمتعة السريعة التي تقدِّمها هذه الألعاب، وقد يلجأ كلٌّ منهم في نهاية الأمر إلى لعِبها في غرفته على حِدة. ونتيجةً لذلك فإن قدرتهم على التفاعل مع الآخرين تصبح محدودةً جدًّا؛ إذ يفضِّلون العُزلةَ والبقاء بمفردهم والتواصُل مع الآخرين بواسطة الإنترنت فقط.

أمَّا أخطرُ جانب في هذه الألعاب فهو أن بعضها يحتوي على صورٍ وألفاظ غير مناسبة للأطفال، وقد يحاول الأطفالُ تقليد السلوك الذي يظهر في الألعاب؛ لأن أدمغتهم لا تزال غضَّةً في طَوْر النشوء، ولن يكونوا قادرين على التمييز بين الصواب والخطأ بدقَّة. ونظرًا لعجزهم عن التواصُل الاجتماعي الإيجابي، تتغلغل في نفوسهم مشاعرُ الملل والإحراج في المواقف الاجتماعية؛ ليصبحَ هؤلاء الأطفالُ أكثرَ عُرضةً للإصابة بضعف التكيُّف، وغلبة الحزن والقلق والاضطراب، في حياتهم الشخصية والمِهَنية.

كلمة الختام
مهما اختلفت كلمةُ الباحثين والدارسين للآثار الناتجة عن شيوع الألعاب الإلكترونية العنيفة، بين مُقرٍّ بآثارها الضارَّة ومُنكرٍ لها؛ فإن الواقع يؤكِّد تأثُّر بعض الإرهابيين العنيفين الذين نفَّذوا هجَماتٍ دمويةً في بعض البلدان، بتلك الألعاب! وأن اللاعبين الذين يملكون درجةً عالية من الصِّفات العُدوانية كانوا أكثرَ ميلًا إلى تفضيل الألعاب ذات المحتوى العنيف، ممَّا جعل ممارسةَ تلك الألعاب فرصةً للتمرُّن على الأعمال العُدوانية التي تصبح فيما بعدُ أكثرَ شيوعًا في الحياة الواقعية، فضلًا عمَّا تسبِّيه من أمراض نفسية تصيب الأطفال والمراهقين.

ومن هنا كانت أهميةُ تضافُر جهود المؤسسات الحكومية والتربوية والمجتمعية، في التحذير من خطر هذه الألعاب، وحثِّ المربِّين من آباءٍ ومعلِّمين على مراقبة الأبناء والطلَّاب مراقبةً واعية بصيرة؛ ومدِّ يد العون لهم مبكِّرًا، قبل تورُّطهم في الانحراف، واستفحال الضَّرر.