يُطلق على منطقة الساحل الإفريقي المنطقة شبه الجافة؛ حيث تقع في الصحراء الكبرى شمالًا حتى السافانا جنوبًا، وتمتدُّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وتضمُّ خمس دول أساسية هي: موريتانيا ومالي وبوركينافاسو والنيجر وتشاد، وتُعد طريقًا رئيسًا للقوافل التجارية التي ربطت شمال القارة بجنوبها وغربها عبر التاريخ، وشكَّلت جسرًا بريًّا يربط بين الأمريكيتين والمحيط الأطلسي مرورًا بالقرن الإفريقي والبحر الأحمر والخليج العربي.

هذا الموقع الجغرافي المميز كان دافعًا لكثير من القوى الدولية الفاعلة لإطلاق مبادرات وبرامج مختلفة أحيانًا، وتدخل مباشِر وغير مباشِر أحيانًا أخرى، لحماية مصالحها الإستراتيجية، وهو ما تظهره الأنشطة المتعدِّدة للاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى الدور الفرنسي، المستعمر القديم، ودول الجوار العربي.

بيد أن الموقع الجغرافي وحدَه ليس السبب الرئيس في أن تكون منطقةُ الساحل واحدةً من أهم المناطق الجيوسياسية في العالم، إنما كان للموارد وللثروات الطبيعية المتنوعة والهائلة التي تُكتشف بين حين وآخر، مثل: النفط، والذهب، والنحاس، واليورانيوم، والغاز الطبيعي أثرٌ كبيرٌ في ذلك، وهو الأمر الذي دفع العديد من القوى الدولية المتصارعة والمتنافسة، إضافةً إلى الحركات الانفصالية والجماعات الإرهابية وعناصر الجريمة المنظَّمة إلى أن تتكالب على تلك المنطقة لفرض السيطرة والنفوذ، مستغلين المساحات الشاسعة، والتغيرات السياسية، وقد أدَّى كلُّ ذلك إلى الاضطراب السياسي المتنامي في المنطقة، وانتشار الفصائل والتنظيمات الإرهابية. ويُعدُّ الوضع في دولة «مالي» أنموذجًا للصراع على الموارد.

مالي «منجم الثروات»

ومع مستويات الفقر العالية التي يعيشها سكان مالي؛ تُعدُّ هذه الدولة من أغنى الدول الإفريقية في الثروات المعدنية، إذ تحتلُّ المرتبةَ الثالثة بين منتجي الذهب في إفريقيا، وتُقدر احتياطاتها من الفوسفات بنحو 20 مليون طن، و600,000 طن من فوسفات الكالسيوم، و200,000 طن من الحجر الجيري، و53 مليون طن من الملح، و1.2 مليار طن من مادة البوكسيت معظمها في منطقة «تمبكتو»، و2 مليار طن من معدن الحديد، إضافة إلى اليورانيوم الخام المستخدم في الكهرباء النووية والموجود في منطقة «كيدال» شمال البلاد. وتُعد أيضًا من الدول الإفريقية الغنية بالمحاصيل الزراعية كالقطن والأرز والذرة والفول السوداني نتيجة كثرة الأمطار ووجود نهري النيجر والسنغال. وتشتهر بتربية المواشي من البقر والأغنام والماعز، إذ تسهم بـ 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي الوطني، وتتمركز في الوسط والشمال وتحتل المرتبة الثانية في تربية المواشي بمنطقة غرب أفريقيا.

إنَّ هذه المقدَّرات كانت كفيلةً بنقل دولة «مالي» نقلةً تنموية وحضارية كبيرة إذا أُحسن استغلالها، غير أن تلك الثروات جعلتها محطًا للتجاذبات السياسية الوطنية والأطماع الخارجية، وجعلتها هدفًا لأخطر التنظيمات الإرهابية، التي تستغلُّ تفشي الصراعات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية وانتشار الجريمة المنظمة وعمليات الاتِّجار بالبشر والسلاح والمخدرات، فضلًا عن التحديات التي تواجه النظام لبسط النفوذ والأمن في جميع أركان البلاد.

طبيعة الصراع

إنَّ الطبيعة الجغرافية والتعدُّد الإثني ومهددات الاستقرار في «مالي» حتَّما وجودَ الصراع، فالجزء الشمالي ذو كثافة سكانية قليلة، تعمل بالرعي، وبه قبائل السونغاي والطوارق والعرب والفولاة، والآخر جنوبي يستوطنه الجانب الأكبر من السكان، وغالبيتهم من قبائل الماندينغ البامبارا والساركولي والدوغون والفولاة بالوسط إلخ، ويعملون بالزراعة وتربية المواشي.

كما أن بروز أزمة «مالي» كان من أسبابها تمدُّد قبائل الطوارق في الشمال بفصائلها وأجنحتها العسكرية، حيث أصبحت هذه المناطق مضطربةً وجاذبة للتنظيمات الإرهابية، التي تتعاون مع بعضها وتتصادم مع بعضها الآخر، ولا سيَّما بعد عودة عناصر للطوارق؛ وعناصر أخرى متشدِّدة قاتلت في ليبيا، إضافةً إلى وجود الأسلحة التابعة للجيش الليبي التي هُرِّبت إلى الشمال المالي، إذ كان لها النصيب الأكبر في زيادة القدرة القتالية للفصائل والجبهات. ومن ثَم لم تتمكن السلطة المركزية في مالي من إيقاف تقدم تلك الحركات أو السيطرة على الإقليم.

الجماعات الإرهابية

تبرز الجماعات الإرهابية عناصر فاعلة أيضًا في أزمة «مالي»، وينشط معظمها في منطقتي الشمال والوسط، بوصفهما الأكثر توترًا واحتواءً للموارد والثروات. ومن أهم تلك التنظيمات الإرهابية: جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة جماعة أنصار الدين، تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، بزعامة المالي إياد أغ غالي، وتنظيم داعش في الصحراء الكبرى جماعة التوحيد والجهاد بغرب إفريقيا، والمرابطين بقيادة أبي البار الصحراوي خلفًا لأبي الوليد الصحراوي. وتنتشران في معظم دول الساحل الإفريقي ولا سيَّما في وسط مالي وشمالها، حيث السيطرة على مناطق شاسعة وغنية بالذهب وطرق تجارة المخدرات.

ولا شك أن أهمية معظم الثروات المعدنية المكتشفة في دولة مالي دفعَ تلك الجماعات الإرهابية إلى الصراع على بسط السيطرة والنفوذ، عن طريق الاقتتال فيما بينهم تارةً، والاتفاق في عملياتهم الإرهابية على تنفيذ مخططاتهم الشيطانية تارةً أخرى؛ بهدف ضمان التمويل اللازم للاستمرار في تلك العمليات. وللتجنيد والتمركز، استغلت هذه الجماعات الخلافات الإثنية سواء بين الرعاة أنفسهم كقبيلة دوسهاك الطارقية وفولاة الحدود مع النيجر، أو العلاقة التنافسية بين الرعاة الفولانيين والمزارعين الدوغون والسونغاي بولايات الوسط والشمال من ناحية والفراغ الأمني والفقر والصراع بين بعض المكونات الإثنية والحكومات المركزية من ناحية أخرى.

الذهب والتعدين

يعدُّ الصراعُ على الثروة المعدينة ولا سيَّما «الذهب» أحدَ أبرز أنواع الصراعات المشتدِّ سعيرها في مالي، حيث زاد الإنتاج الصناعي من الذهب بنسبة 4٪ عام 2022 ليصل إلى 66.2 طنًّا، مقابل 63.4 طنًّا عام 2021، وأكدت وزارة المناجم في حكومة مالي، أن المعدن الأصفر يدرُّ 400 مليون يورو سنويًّا، وهو ما يمثِّل 75٪ من صادراتها، و25٪ من ميزانيتها.

وقد أصبحت المنطقة الشمالية سماءً مفتوحةً لاستخراج الذهب في ظل انتشار الجماعات المتطرفة، ويُذكر أن من أشهر المتصارعين على هذه الثروة جماعاتٌ محسوبة على تنظيم القاعدة الإرهابي، مثل «نصرة الإسلام»، وأخرى محسوبة على تنظيم داعش الإرهابي،  مثل «جماعة الصحراوي». ويتصارع هذان التنظيمان مع عناصر السلطة المحلية التي تُؤمِّن مناطق الثروات مع قوات أخرى من جهة، ومجموعة «فاغنر» الروسية التي تنشر عناصرها في دول عدة في الساحل من جهة أخرى، وتُتهم بأنها تمارس أنشطة تعدينية إلى جانب مهمتها الأساسية التي تعاقدت الحكومة معها لأجلها، وهي «مكافحة الإرهاب». كما تتصارع الجماعات الإرهابية على النفوذ والسيطرة على الطرق التجارية والموارد الطبيعية في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

وحديثًا ازداد توجه العناصر الفاعلة في الأزمة بوتيرة عالية إلى استغلال الموارد، وذلك بعد دخول جهات عدة إلى الساحة، على رأسها شركات التعدين التي تعمل على توثيق علاقاتها مع بعض القوى الفاعلة المسيطرة على الأرض في الإقليم الشمالي، وهذا ما أوجد نوعًا من تعدُّد الولاءات والانتماءات داخل كيان الدولة.

صراع المراعي

وفي خضمِّ هذا الكم الكبير من الصراع البيني على الموارد في «مالي» يظهر نوعٌ آخر لا يقلُّ شراسةً ونتائج سلبية على الاقتصاد الكلي للدولة، حيث يضغط المناخ على الموارد المتاحة، فتقلُّ نسبُ الأراضي الزراعية، وتنخفض إنتاجية المحاصيل، وتشتدُّ بسبب ذلك النزاعات بين المزارعين والرعاة من جهة، وبينهما وبين التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى.

إن الصراع المحتدم على موارد المياه المتقلصة التي تُعد شريانًا يكفُل حياةً آمنة وكريمة للرعاة والمزارعين أدَّى إلى تأجيج التوترات بين المجتمعات المختلفة، ففي مارس 2019 قُتل في وسط مالي نحو 160 مدنيًّا، معظمهم من الرعاة شبه الرُّحَّل من عرقية «الفولاني» على أيدي قبائل «دوغون» ومعظمهم من المزارعين. فضلًا عن أن الجماعات الإرهابية، مثل تنظيمي داعش والقاعدة الإرهابيين، تتسابق إلى نهب ما يمكن من المواشي والمحاصيل الزراعية؛ لتأمين الغذاء الكافي لعناصرها أو للاتِّجار بها، وتستغلُّ أيَّ تصادم بين المزارعين والرعاة لإثارة النزاعات العرقية بينهم وتأجيجها؛ بغية الحصول على فرصة للتمدُّد وتنفيذ مخططاتهم ببسط السيطرة والنفوذ على مناطق حيوية أخرى.

وختامًا 

إن البيئةَ الجغرافية، والفراغَ الأمني الكبير بوسط وشمال البلاد، وحالةَ الاضطراب السياسي، وانتشارَ الفقر، والتذمرَ حيال الأوضاع السياسية والاقتصادية؛ كل ذلك عواملُ وفَّرت بيئةً حاضنة مناسبة للحركات الانفصالية وللجماعات الإرهابية للنمو والتجنيد في بعض الأحيان؛ بل والسيطرة على ولايات كاملة ومناطق حدودية كبيرة بتهجير سكانها لتسهيل التنقيب عن الموارد والثروات من ناحية، وتهريب المعادن وارتكاب الكثير من الجرائم غير المشروعة من ناحية أخرى. هذا، وإنَّ بعضَ التدخلات الكبيرة من القوى الإقليمية والدولية التي تبحث عن مصالحها الاقتصادية أوجد نوعًا من تعدُّد الولاءات لدى بعض الفصائل وداخل الحكومات المركزية المتتالية. مما يستلزم الأخذ في الحسبان أن الحفاظَ على أمن دولة «مالي» واستقرارها جزءٌ لا يتجزأ من الحفاظ على استقرار الساحل الإفريقي كاملًا؛ حتى لا تتحول الثروة إلى نقمة، فثمة ضرورةٌ قصوى تدعو إلى تعزيز أواصر التعاون القوي والبنَّاء من المجتمعين الدولي والإقليمي لإنهاء هذه الصراعات، والحفاظ على موارد الدولة، وبحث حلول التنمية المستدامة، والقضاء على التنظيمات الإرهابية لتخرج البلاد من حالة الاضطراب وذهاب المقدَّرات إلى الاستقرار والنماء والازدهار.