توظِّف الحكوماتُ إستراتيجياتٍ مختلفةً لمكافحة الإرهاب ومعالجة دوافعه وأسبابه؛ كالتدخُّل العسكري، وإجراءات إنفاذ القانون، أو المعالجات الوقائية كمُحاربة الهشاشة الاقتصادية وإصلاح النُّظُم التعليمية، وتعزيز الحوار والتسامح. وتُعَدُّ برامجُ مكافحة التطرف وإعادة تأهيل السُّجناء إحدى الإستراتيجيات الأكثر جَدوى في هذا المجال؛ إذ تتوافر في السجون مقوِّماتُ التحكُّم الأمني في التعامل مع التهديدات المحتمَلة من السجناء الإرهابيين، وفك ارتباطهم بالتطرف، وتأهيلهم ليكونوا مواطنين صالحين في المجتمع، وذلك بالقوَّة الناعمة التي تؤثِّر في الآخرين بالإقناع والتعاون، بدلًا من الإكراه والعنف.

استغلال السجون

استغلَّت كثيرٌ من التنظيمات الإرهابية السجون لاستمالة السُّجناء واستقطابهم، وكسب التعاطف الخارجي. وقد تنبَّهت الدوائرُ الأمنية إلى أثر السجون في معالجة ظاهرة المقاتلين الأجانب العائدين إلى أوطانهم، ولا سيَّما بعد هزيمة تنظيم داعش في سوريا والعراق؛ إذ أصدر مجلسُ الأمن قرارين يتعلَّقان بالمقاتلين الإرهابيين الأجانب وإعادة تأهيلهم، وهما القرارُ 2178 الصادر سنة 2014م، والقرار 2396 الصادر سنة 2017م، إضافةً إلى ما توفِّره مذكِّرةُ روما الخاصَّة بالممارسات الجيدة لإعادة تأهيل المجرمين المتطرفين ودمجهم، الصادرة عن المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب (GCTF).

وقد دفعت التهديداتُ المحتمَلة لسجناء الإرهاب (مثل: التجنيد، والتكتُّل، والتمرُّد، وإحداث الشغب، والتخطيط لهجَمات إرهابية)، الدولَ إلى وضع خُطط ونُظم مؤطَّرة في الأنظمة الإصلاحية ومرافق الاعتقال؛ للتعامل مع المقاتلين الأجانب العائدين إلى أوطانهم. وأثبتت عدَّةُ حالات سابقة أهميةَ رصد السجناء الإرهابيين، ومراقبة تصرُّفاتهم؛ فهجومُ الجيش الأحمر الياباني في عام 1995م بالغاز على مترو أنفاق طوكيو، الذي أسفر عن مقتل 13 شخصًا وإصابة الآلاف، كشفت التحقيقاتُ أن التخطيط له كان من قِبَل سجناءَ هم جزءٌ من شبكة سجون الجماعة. وكذلك رُصدت حالاتٌ كثيرة انتقل فيها السجناء - ولا سيَّما في أوروبا - من الجرائم العادية (كجرائم السرقة والسَّطو والتهريب والمخدِّرات) إلى التطرف من داخل السجن؛ ليباشروا هجَماتٍ إرهابيةً فور الإفراج عنهم، مثل: تفجيرات مدريد عام 2004م، وهجوم مجلَّة شارلي إيبدو وهجَمات باريس بفرنسا عام 2015م، وهجوم لندن 2017م.

وثمَّة عَلاقةٌ وثيقة بين عصابات الجرائم المنظَّمة والمنظَّمات الإرهابية داخل السجون، وتستثمر هذه الفئاتُ السِّجن لإقامة اتفاقات تخدم المصلحة المشتركة؛ في الاتِّجار بالمخدِّرات أو غسل الأموال، وغير ذلك من الأنشطة غير القانونية للتمويل وتوسيع العمليات. وفي الولايات المتحدة الأمريكية أسَّس «جيمس كيفن» من داخل حُجرته في سجن «فولسوم» بكاليفورنيا جماعةً متطرفة تسمَّى (JIS)، وانبثقَ من هذا السجن عام 2005م ما عُرف بمؤامرة لوس أنجلوس لتفجير أماكنَ مستهدَفة، بعد الانضمام إلى مجموعات من مقاتلي القاعدة الذين فرُّوا من أحد السجون باليمن، ومن معتقَلي غوانتانامو، ممَّا دعا وِزارةَ الأمن الداخلي إلى إنشاء وَحدة خاصَّة لمكافحة الخطر الذي يسبِّبه المتطرفون في السجون الأمريكية. وتداول الكونجرس مشروعَ قانون يدعو إلى إقامة لجنة وطنية لدراسة الوسائل الملائمة، لكنَّه لم يُمرَّر لأسباب حزبية، على الرغم من تحذير رئيس المخابرات «تشارلز ألين» من عواقب ذلك.

ومن الشائع لدى التنظيمات الإرهابية الهجومُ على السجون، وبخاصَّة في ظروف الهشاشة الأمنية والسياسية، فقد نفَّذ تنظيمُ داعش في هجَماته على العراق خُطَّة هدم الأسوار التي رافقتها عدَّة عمليات؛ كعمليات سجن «تسفيرات تكريت» في محافظة صلاح الدين في 27 من سبتمبر 2012م، وسجن «أبو غريب» غربيَّ بغداد، وسجن «التاجي» شماليَّ بغداد في 21 من يوليو عام 2013م، وأسفر الهجومان عن تحرير مئات السجناء ومنهم قادة.

وفي معسكر «بوكا» العراقي أحدِ أماكن الاعتقال الأمريكية المزدحمة، نشأ الجيلُ الثاني من المتطرفين، منهم: أبو بكر البغدادي وتسعة من كبار قادة داعش. وبعد فضائح «أبو غريب» عام 2003م أصبحت القواعدُ الضابطة للسجناء في «بوكا» أكثر تساهلًا، ممَّا أفضى إلى ظهور العنف والشغب بين المعتقَلين، وأدَّت الطائفيةُ المَقيتة في السجن إلى تجنيد مزيد من الأسرى العراقيين، ونشأ عن ذلك مزيدٌ من الاضطرابات والأخطار.

تقويم المخاطر

المقصودُ بتقويم المخاطر: جمعُ المعلومات المتعلِّقة بالفرد (المتطرف) وتحليلُها وتفسيرها؛ بهدف التنبُّؤ باحتمالات مشاركته في سلوك مُريب يثير القلق في المستقبل. وقد تطوَّرت تِقنيَّاتُ التقويم لدى علماء النفس السَّريري (الإكلينيكي)، وسَرعان ما شَمِلَت بالدراسة أنماطًا جديدة من العنف، وطُبِّقت هذه التقنياتُ لتصنيف المتطرفين، والحفاظ على النظام، وضمان سلامة السجناء والموظفين وسَير العمل في مؤسسة السجن.

ويعتمد تقويمُ المخاطر على عدد من التقنيات والأساليب، وهو يتأثَّر بالسياسة والظروف المحلِّية، لذلك ليس هناك نظامٌ واحد فاعل، بل أنظمةٌ متعدِّدة. وقد تبنَّت المملكة المتحدة منهجًا يُسمَّى «إرشادات مخاطر التطرف» (ERG 22+)؛ لتقويم مخاطر المجرمين المتطرفين وإدارتها، وتشمل إشراكَ موظَّفي السجون وضبَّاط المراقبة والشرطة في تبادل المعلومات وتنسيق التدخُّلات. وهناك أيضًا نظام (VERA 2)؛ ويعتمد معاييرَ تتلخَّص في الفئات الآتية: المعتقَدات والمواقف، والسياق والنيَّة، والتاريخ والقدرة، والالتزام والحافز، وعوامل الحماية.

وغالبًا ما يُحتجَز الإرهابيون في سجون شديدة الحراسة، أو في وَحَدات متخصِّصة للحدِّ من اتصالهم بالسجناء الآخرين، وقد افتَتَحت الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية «كولورادو» عام 1994م سجن «فلورانس»، وهو سجن فيدرالي شديدُ الحراسة، ويُسمَّى «سجن وَحدة التحكُّم» (ADX Florence)، ويُعَدُّ من أكثر سجون العالم تحصُّنًا ومقاومةً للهرب، ووُضعَ فيه المدانون بعقوبات طويلة الأجل، والجناةُ العنيفون كالإرهابيين، مثل: «أحمد رمزي» أحد منفِّذي هجوم مركز التجارة العالمي عام 1993م. ويعمل هذا السجنُ بطريقة الحِرمان الحسِّي والعُزلة التامَّة، ومثل هذه المنشآت غالبًا ما تتعرَّض للنقد في إطار حقوق الإنسان؛ إذ تُعَدُّ غيرَ مناسبة للمتطرفين الأقلِّ خطرًا، والذين سيُفرَج عنهم بعد قضاء عقوبتهم، ويحتاجون إلى تأهيل وإصلاح؛ استعدادًا لعودتهم إلى المجتمع من جديد.

ويكوِّن سُجناء الإرهاب مجموعاتٍ واسعةً وغيرَ متجانسة، في طبيعة جرائمها، وفي اختلاف دوافعها؛ فمنهم المموِّلون والداعمون، ومنهم المحضِّرون للعمليات، ومنهم المنفِّذون لها، ومنهم المشيدون بها والمحرِّضون عليها. ففي سجون أوروبا الغربية على سبيل المثال، أُدين 1500 سجين بارتكاب جرائمَ إرهابية، ووُضعَ تحت الرقابة ما بين 1500 و2500 سجين يُشتبَه أنهم عُرضة للتطرف داخل السجن، وقد يُفرَج عنهم قريبًا، ممَّا يجعلهم مصدرَ خطر قادم.

لذلك فإن التدابيرَ الأمنية التي تؤخَذُ تجاههم ينبغي أن تُراعيَ هذا التفاوت، فلا يُكتفى بفصلهم عن باقي السجناء، بل يُعزَل بعضُهم عن بعض تبَعًا لتقويم المخاطر والاحتياجات النفسية والصحِّية والتأهيلية. وكان أصدرَ مكتب الأمم المتحدة المعنيُّ بالمخدِّرات والجريمة في عام 2021م، دليلًا للمساعدة التقنية والفنية؛ للاستخدام المناسب للإجراءات (غير الحبس) المتعلِّقة بجرائم الإرهاب، في إطار العقوبات البديلة لهذه الفئة، تبعًا للأنظمة والإجراءات القانونية.

التأهيل والدمج

عَرفَت البرامجُ الناعمة المصمَّمة لسجناء قضايا الإرهاب عدَّة أجيال، وطُوِّرت في مِنطَقة الشرق الأوسط وآسيا في سياق تجارِبَ مختلفة؛ مثل: تجرِبة المراجعات بمصر في التسعينيات، وتجرِبة مركز المناصحة والرعاية التابع لحكومة المملكة العربية السعودية، والتجرِبة السنغافورية والماليزية.

وتُجسِّد تجرِبةُ «برنامج مصالحة» بالمغرب الجيلَ الأحدث من هذه الجهود، فقد انطلقت عام 2017م في سياق الأسُس الدَّولية والأُطُر العالمية الموحَّدة لأفضل الممارسات والدروس المستفادة في التعامل مع ظاهرة العائدين؛ ليصلَ عددُ السجناء المشاركين في هذا البرنامج إلى 259 سجينةً وسجينًا، وبعد انتهاء الدورة الحادية عشرة في شهر فبراير 2023م، بلغت نسبةُ المستفيدين منهم من العفو الملكي %61.72، ولم تُسجَّل لديهم أيُّ حالة عودةٍ إلى ممارسة النشاط الإجرامي.

وحظيت ليبيا بنموذج آخر؛ بافتتاح مركز جديد بدعم فرنسي وشراكة مع وِزارة العمل وإعادة التأهيل الليبية بتاريخ 4 مايو 2023م؛ لمساعدة المقاتلين السابقين على الاندماج في سوق العمل، وتأهيلهم في الحياة المدنية. وهذا المركز هو المرحلةُ الثانية من تطوير برنامج سابقٍ أُعِدَّ في عام 2021م؛ لمساعدة السُّلطات الليبية على تصميم وتنفيذ مشروع شامل ومُستدام لما قبل برامج نزع السلاح، أي التسريح وإعادة الإدماج (DDR).

وتهدِفُ هذه البرامجُ إلى الحدِّ من مخاطر النُّكوص والعودة إلى الإجرام، علمًا أنها أكثرُ انخفاضًا لدى المدانين بموجب تشريع الإرهاب على الصَّعيد العالمي مقارنةً بسُجناء الحقِّ العام. ووَفقًا لتقرير مدير المخابرات الوطنية الأمريكية عام 2010م، فإن %25 من معتقَلي غوانتانامو المفرَج عنهم يُشتبَه بضلوعهم في أنشطة إرهابية أو متمرِّدة بعد الإفراج عنهم؛ لأن الحبس في غوانتانامو وسامُ شرفٍ في مجتمعات المقاتلين المتطرفين، وغالبًا ما يُرقَّى المعتقَلون المفرَج عنهم إلى مناصبَ قيادية.

لذلك فإن البرامجَ التأهيلية التي تتضمَّن عادةً الإرشاد الديني، والتعليم، والتدريب المهني، والمعالجة النفسية، وغير ذلك، لها أثرٌ جليٌّ في الحدِّ من مخاطر عودتهم إلى الإجرام عند إطلاق سَراحهم؛ بتحفيز عوامل الشدِّ والجذب، وهي العواملُ الذاتية والخارجية المساعدة على التطرف، مثل: خيبة الأمل من التنظيم أو الشعور بالظلم، وكذلك تعزيز العوامل الإيجابية؛ كالدعم الاجتماعي وتقوية العَلاقات الأسرية، مع الأخذ بالحسبان الظروف والاحتياجات المختلفة للنساء والرجال.

وتجدُر الإشارة إلى أن الظروف المحلِّية تتحكَّم في تقنيات البرامج، وتقويم النجاح والإخفاق، فالبرامجُ التي تُعنى بفكِّ الارتباط؛ لإحداث التحوُّلات السلوكية، قد حقَّقَت معدَّلات نجاح أفضل من تلك التي هدفت إلى تغيير المعتقَدات والمواقف الفكرية بإزالة الأصولية الفكرية، التي اتَّسَمَت بكونها غيرَ واقعية ومكلفة اقتصاديًّا.

تدريب الموظفين

تساعد المراقبةُ الدقيقة لاتصالات الإرهابيين السُّجناء، في المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني والزيارات، على اكتشاف التطرف ومنعه في إطار النُّظُم القانونية وأُطُر حقوق الإنسان المتعارَفة، ويجب تدريبُ موظَّفي السجون على تحديد علامات التطرف وإدارة السُّجناء الإرهابيين؛ ففي وقائعَ كثيرةٍ اكتُشِفَت حالاتُ استقطاب للموظفين، للمساعدة على الهرب أو لحيازة الممنوعات غير القانونية، أو الاتصال بالشبكات الإرهابية الخارجية، وهو ما حدث في العراق عام 2009م.

ويُعَدُّ هيكل الجماعات الإرهابية في السجن ومناهجها الفكرية تحدِّيًا لوكالات المخابرات، ففي كثير من الأحيان يكون للسجناء الإرهابيين تسلسلٌ هرمي خاصٌّ بهم، ومدوَّنات سلوك، وينقسمون إلى فصائلَ داخل السجن بما يُهدِّد أمنَ السجن.

وتعتمد كثيرٌ من الدول على أنظمة استعلاماتية لتوفير المعلومات من داخل السجن، والتنسيق بين المسؤولين الأمنيين، واعتماد المخبِرين من السجناء، وذلك يُسمَّى: الأمن العملي (الديناميكي). ومن أمثلته: ما يُسمَّى بخبرة استخبارات المحتجَزين (GRIP) في هولندا التي أُسِّسَت عام 1994م، وقسم الشؤون العامَّة والمراقبة التابع للمندوب العام لإدارة السجون الذي أُسِّسَ في المغرب سنة 2015م.

وختام القول: إن مؤسساتِ السجون بما تعتمده من تقنيات أمنية وأُخرى تأهيلية؛ لتجسيد سياسات مكافحة التطرف والإرهاب والوقاية منهما، تستطيع أن تكونَ وسيلةً نافعة لمنع تجنيد أعضاءٍ جدُد، وتسهيل إعادة تأهيلهم، وإعادة دمجهم في المجتمع. وتُعَدُّ المناهجُ وتدابير التقويم الفاعلة أمرًا مهمًّا جدًّا؛ لضمان إدارة السجون بطريقة تزيد من فوائدها، وتقلِّل السَّلبيات المحتمَلة. وقد تطوَّرت بسرعة كبيرة منذ أن طُرحت على الصَّعيد الدَّولي قضيةُ إعادة دمج المقاتلين الأجانب العائدين من مناطق الصراع ولا سيَّما سوريا والعراق، وكان هذا السياقُ حافزًا رئيسًا لاعتماد تقنيات جديدة فاعلة، على أن هناك شكوكًا تتعلَّق بالتقويمات الرسمية التي تُعلنها الدول، كما أن هُناك حاجةً إلى مزيد من البحث والتحليل وَفقَ نهج شامل وقائم على الأدلَّة؛ لتحديد أفضل الممارسات، وتقويم تأثير المناهج المختلفة، وخاصَّة حين يرتبط الأمر بالنساء والآثار المحتمَلة طويلة الأجل.