أصبح العالم أكثر قربًا من مرحلة العالم الافتراضي، وذلك باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي Virtual Reality (VR) والواقع المعزّز Augmented Reality (AR)، فظهر عالمٌ جديد، هو خليط بين الواقع الحقيقي وبين البيئات الافتراضية الرَّقْمية، تقوده شركاتُ التقنية العملاقة، مثل: فيسبوك التي تحوَّل اسمها إلى ميتا، وشركة مايكروسوفت، وعدد آخر من مُطوِّري ألعاب الفيديو الرَّقْمية. هذه المساحة الهجينة الجديدة بين العالم الواقعي والرَّقْمي، قد تُمثِّل فرصةً واعدة للتنظيمات الإرهابية لتطوير مخططاتها التخريبية، سواء في عمليات التجنيد، أو المحاكاة، أو التدريب على العمليات الإرهابية.

التنظيمات والتقنية
يسعى الفكرُ المتطرف دائمًا إلى استخدام جميع الأدوات التي تُحقِّق غاياته الخبيثة، ويخلط بين الطرق التقليدية والتقنيات الذكية، في عمليات تجنيد الأفراد، أو جمع التمويل، أو التدريب على الجرائم الإرهابية. ويوظِّف التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، المدني والعسكري، في تنفيذ أهدافه الإرهابية، مثل: استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في الدعاية وجمع التمويل، واستخدام غُرف الدردشة وتطبيقات الهواتف الذكية في عمليات التجنيد، وتوظيف منصات ألعاب الفيديو لمحاكاة تنفيذ العمليات الإرهابية.

ومع زيادة التطور التقني، تطوَّر النشاط الإرهابي، لتصبح عملية تعقُّب المتطرفين أكثر صعوبة، فمثلًا: استخدمت التنظيمات المتطرفة العملات المشفَّرة في جمع التمويل، مما صعَّب مهمة تعقُّبها وقطع إمداداتها، أو معرفة مصدرها، واستخدمت الشبكات الخاصة الافتراضية VPN في إخفاء الهُوية الرَّقْمية والهروب من المراقبة، واستخدمت الطائرات الصغيرة دون طيار «الدرونز» في التجسُّس على المواقع الحسَّاسة وتنفيذ العمليات الإرهابية عن بُعد.

وقد أسهمت التطورات التقنية في ظهور أنماطٍ جديدةٍ من الإرهاب لم تكن موجودةً من قبل، منها نمط الذئاب المنفردة، وهو الإرهابي الذي يعتنق الفِكر المتطرِّف دون أن يرتبط تنظيميًّا بجماعة إرهابية، فيأخذ أفكارها المـُتشدِّدة من مواقع الإنترنت، ويصنع الأسلحة باستخدام المقاطع التعليمية الموجودة على صفحات التواصل الاجتماعي، ثم ينطلق منفردًا لتنفيذ مخطَّطه الإرهابي.

وإلى جوار الخلايا التقليدية، ظهرت خلايا إرهابية «سيبرية»، تنشط فقط على مواقع الإنترنت، ولا تقلُّ أهميتها عن الخلايا التقليدية، وتتعدَّد مهماتها بين الجذب والتجنيد، وجمع التمويل، واختراق المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي للتأثير في الضحايا، وشنِّ هجماتٍ إلكترونية على بنوك ومؤسسات مالية بهدف السرقة والحصول على المال، أو على مؤسسات سياسية وعسكرية لجمع معلومات استخبارية لتنفيذ العمليات الإرهابية، أو تسريب وثائق ومعلومات إستراتيجية، فضلًا عن استهداف خدمات الحكومات الإلكترونية والذكية عبر الإنترنت وتعطيلها، أو استهداف البِنية التحتية للدولة وأنظمتها المالية والمصرفية والاتصالاتية والعسكرية وغيرها.

ومع ظهور تقنيات جديدة وابتكارات مستحدَثة لها تداعيات واسعة تشمل جميع أنماط التفاعلات الإنسانية، مثل مشروع «الميتافيرس»، الذي أطلقته شركة فيسبوك، فمن المتوقَّع أن يكون له تأثيرات في فكر التنظيمات المتطرفة وأدواتها، إذ تسعى إلى توظيفه في تحقيق أهدافها الفكرية والعملياتية.

تقنيات وتداعيات
بات العالم على أبواب مرحلة جديدة من التطور، وهي مرحلة الميتافيرس كما أطلق عليها رئيس شركة ميتا (فيسبوك سابقًا) مارك زوكربرج، أو مرحلة العالم الماورائي، وأول من استخدم مصطلح الميتافيرس Metaverse  هو «نيل ستيفنسون» في رواية الخيال العلمي تحطم الثلج «​Snow Crash» التي نشرها في عام 1992م، وتتكون الكلمة من مقطعين؛ الأول Meta وهو الاسم الجديد الذي تغير إليه اسم شركة فيسبوك، ويعني: ما وراء، والمقطع الثاني Verse ويأتي اختصارًا لكلمة Universe بمعنى: العالم، والكلمتان معًا تأتيان بمعنى: العالم الماورائي. ويقصد به «نيل ستيفنسون» في روايته تلك، العالم الافتراضي المملوك من قِبل الشركات، حيث التعامل مع المـُستخدمين النهائيين كمواطنين يعيشون في ديكتاتورية الشركات.

أما عالم الميتافيرس الذي توجَّهت إليه شركات التقنية في الآونة الأخيرة فهو مجموعة لا متناهية من العوالم الافتراضية، يُمكن إنشاؤها عبر مساحات مختلفة داخل الإنترنت، وبدلًا من الدخول إلى ذلك العالم الجديد عبر شاشات الكمبيوتر وأجهزة الهواتف الذكية، تُستخدم نظارات الواقع الافتراضي المستخدمة حاليًا في ألعاب الفيديو، وبدلًا من التفاعلات البشرية الواقعية والمحسوسة عبر التلاقي المادي، أو التفاعلات الرَّقْمية عبر شاشات الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب، يجري التواصل والتفاعل بتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المـُعزّز، تلك الأجهزة التي ستُصَمَّم لتكون بديلًا عن الهواتف الذكية، وتتصل بالإنترنت، وتحلُّ تدريجيًّا محل شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية.

ويقصد بالواقع الافتراضي، تلك المساحة الافتراضية الرقمية التفاعلية التي يستطيع المستخدم التحكُّم فيها، والتفاعل عبرها، بنظارات ثُلاثية الأبعاد، وأدوات التحكُّم المحمولة، والقفازات الذكية. أما الواقع المـُعزّز فهو تقنية الواقع الافتراضي عند تطبيقها على العالم الحقيقي في الزمن الفعلي بصورة ثلاثية الأبعاد، أو كما عرَّفها قاموس أكسفورد، هي تقنية تقوم بوضع صور تُوَلَّد بواسطة الحاسوب على رؤية المستخدم للعالم الواقعي، فهي رؤية مركَّبة من العالم الواقعي وصور الحاسوب معًا.

إرهاب الميتافيرس
الميتافيرس أو العالم الماورائي هو أحد التقنيات الجديدة التي ستسعى التنظيمات المتطرفة للاستفادة من مميزاتها في تحقيق أهدافها، سواء في عمليات التدريب، والمحاكاة، أو الدعاية والإعلان، أو التواصل. ومع الوعود التي قدمها «مارك زوكربرج» بالتركيز على مفاهيم الخصوصية كبِنية أساسية في نظام الميتافيرس، فإنه قد يفرض مزيدًا من القيود على المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تسعى لتقييد دور التنظيمات المتطرفة، ومن المحتمل أن تستفيد هذه التنظيمات من الميتافيرس وفق عدة أنماط كالآتي:

  • التدريب والمحاكاة: بارتداء نظارات الواقع الافتراضي تستطيع التنظيمات المتطرفة تدريب عناصرها، سواء كانوا تابعين للتنظيم المتطرِّف أو مجرد ذئاب منفردة، على استخدام الأسلحة، وصناعة العبوات الناسفة، والتدريب على فك البنادق وتجميعها، وصناعة طائرات مسيَّرة بدائية، وتدريب العناصر المتطرفة على تنفيذ العمليات الإرهابية، بعمل محاكاة ٍكاملةٍ لمسرح العملية، وتوقيتها، والشخصيات الموجودين فيها.
  • التخفي والتمويه: يوفر الميتافيرس لمستخدميه قدرًا كبيرًا من الخصوصية، ويمكن لأيِّ شخص إنشاء شخصية افتراضية بواسطة الأفاتار avatar، كإعلان عن هذا الشخص، دون الكشف عن هُويته الحقيقية، ويستطيع كلُّ فرد داخل التنظيم إنشاء الأفاتار الخاص به، ويكون معروفًا للجميع داخل التنظيم؛ بل خارجه أيضًا، دون الإفصاح عن هُوية هذا الشخص، تمامًا مثل الأسماء الحركية التي يستخدمها الإرهابيون والمتطرفون؛ ليصعُب ترقُّبهم من قبل الأجهزة الأمنية، فيصبح الأفاتار بمنزلة تطوُّرٍ لهذا الاسم الحركي، مما يحوِّله لشخصية افتراضية يتحكَّم بها الإرهابي من خلف النظارات الذكية.
  • الدعاية والتجنيد: عادةً ما تسعى التنظيمات المتطرفة إلى الاستفادة من كلِّ وسيلة إعلامية لنشر فكرها المتطرف، فمع ظهور أشرطة التسجيل ورواجها لدى قطاعات كبيرة داخل المجتمعات، استغلتها الجماعات الإرهابية في ترويج أفكارها، ومع الانتقال إلى عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كان لهذه التنظيمات سهم فيها للوصول إلى الجمهور، وكذلك الأمر مع عالم الميتافيرس، فمن المؤكَّد أنها ستدخل إليه بقوة لنشر فكرها بين المستخدمين.

وبذلك يصبح الميتافيرس أحد الفضاءات أو المساحات الافتراضية الجديدة، التي تُمثِّل بيئة خِصبة ونشطة للتنظيمات المتطرفة لممارسة خططها في تجنيد المتطرفين، ونشر الفكر الضَّال.

فُرص المواجهة
لا يزال الميتافيرس أحد التقنيات الوليدة، التي تسعى شركة فيسبوك إلى نشرها في السنوات الخمس القادمة. ولأن هذه التقنية ما زالت في مراحلها الأولى؛ فيمكن تصميمُها بما يحدُّ من نشر الفكر المتطرف فيها، ومراعاة خصوصية المـُستخدمين أيضًا، ويتحقَّق ذلك بمشاركة المؤسسات الأمنية والمجتمع المدني معًا في تطوير هذه التقنية، ووضع المعايير والشروط والقوانين التي تضمنُ الحفاظ على سلامة المستخدمين، وتُراعي في الوقت نفسه مواجهةَ أيِّ فكر متطرِّف، وحظر مروِّجيه، ووضعهم في قائمة سوداء داخل الميتافيرس؛ حتى تكون علامة وصمٍ لهم في هذا العالم الافتراضي الجديد. وكما تستخدم الحركات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة التقنية الحديثة في تطوير أدائها تنظيميًّا وفكريًّا، يمكن استخدامها أيضًا في مواجهة مخاطرها وتهديداتها الفكرية والعسكرية. مما يحقِّق الاستفادة من المميزات التي تقدمها هذه التقنيات، مع تلافي التهديدات التي تنجمُ عن استخدام المتطرفين لها.