​صبيحة يوم الأحد 16 مارس 1978، كانت تمرُّ سيارةٌ من طراز فيات يجلس في مقعدها الخلفي رجلٌ ستيني، يحميه حارس يجلس في الكرسي الأمامي، وخلفها سيارة الحرس، وفجأة اعترضت الطريق سيارةٌ أخرى تحمل لوحةً دبلوماسية، وأجبرت السيارتين على التوقف، تبعها سيارتان قفز منهما خمسة رجال وامرأة فتحوا نيران أسلحتهم، وقتلوا على الفور سائق السيارة والحارس وثلاثة رجال أمن آخرين كانوا يستقلون السيارة الأخرى.

سارع المهاجمون إلى إخراج الرجل المهم من السيارة، ودفعوه إلى سيارة كانت بحوزتهم، ولاذوا بالفرار في غضون ثلاث دقائق.

لم يكن ذلك مشهدًا من مشاهد أفلام العصابات التي تنتجها هوليود؛ بل كان عملية خطف رئيس وزراء إيطاليا «ألدو مورو»، على يد جماعةِ الألوية الحمراء الإرهابية في ذروة نشاطها الإرهابي.

بعد الخطف قايضت الألوية الحمراء إطلاق سراح مورو بـ 13 من أعضائها المسجونين، لكن الحكومة الإيطالية رفضت المساومة مع الجماعة الإرهابية. وفي 9 مايو 1978 عثرت الشرطة على جثة مورو ملقاة في سيارة.

 

التأسيس والنشاط الإرهابي

في عام 1967 أنشأ «ريناتو كوريسيو» جماعة طلابية يسارية في جامعة ترينتو، وجنَّد طلابًا لهم نزعة يسارية متطرفة، وكانت هذه الجماعة نواة للألوية الحمراء. وفي عام 1969 تزوج ريناتو من زميلته المتطرفة «مارغريتا كاجول»، وانتقلا معًا إلى ميلانو، حيث جذبا زمرةً من الأتباع. بعدها بعام أعلنا تأسيس الألوية الحمراء في نوفمبر 1970، وكان الإعلان صاخبًا مصحوبًا بإلقاء القنابل الحارقة على كثيرٍ من المصانع والمستودعات في ميلانو. بدأت الجماعة عمليات الخطف في العام التالي، وفي عام 1974 ارتكبت أول عملية اغتيال لها؛ حيث قتلت كبير المفتشين في فرقة تورين لمكافحة الإرهاب.

منذ عام 1974، توسعت الألوية الحمراء في روما وجنوة والبندقية، ونمت أعدادها نموًا كبيرًا وبدأت تنوّع في مشاريعها الإجرامية، مثل عمليات الاختطاف السياسية البارزة، فخطفت في 18 أبريل 1974 مساعد المدعي العام في جنوة «ماريو سوسي» الذي كان أول موظف حكومي تخطفه، والسادس في سلسلة جرائم الخطف التي تنفذها الجماعة، وقد أطلقت سراحه في 23 مايو مقابل أمر من المحكمة، حُظر لاحقًا، بالإفراج عن ثمانية سجناء منتسبين إلى الألوية الحمراء.

وقد خطفت الجماعة أيضًا رجل الصناعة «فالارينو غانسيا»؛ للحصول على أموال الفدية التي كانت مصدر دخلها الرئيس عبر اختطاف الصناعيين، وأصحاب المصانع، ورجال المال، والسياسيين، جنبًا إلى جنب مع عمليات السطو على البنوك.

وفي 16 نوفمبر 1977 أطلق عناصر من الألوية الحمراء النارَ على «كارلو كاساليجنو»، نائب رئيس تحرير صحيفة لا ستامبا، في أحد شوارع تورين في وضح النهار، فمات متأثرًا بجراحه في 29 نوفمبر من العام نفسه، وفي 17 ديسمبر 1981، اقتحم أربعة أعضاء من الألوية الحمراء، متنكرين في زي سباكين؛ شقةً في فيرونا يسكنها العميد في الجيش الأمريكي «جيمس ل دوزير»، نائب رئيس أركان الناتو في القوات البرية لأوروبا الجنوبية، فخطفوه وتركوا زوجته مقيَّدةً بالسلاسل. وقد احتجزوه 42 يومًا حتى 28 يناير 1982، عندما نجح فريقٌ من وحدة العمليات الخاصة التابعة للشرطة الإيطالية في إنقاذ دوزير من شقةٍ في مدينة بادوفا، دون إطلاق رصاصة واحدة، وقبضت على الخلية الإرهابية التي كانت تحتجزه. كان دوزير أول جنرال أمريكي أجنبي تختطفه الألوية الحمراء وإرهابيوها.

وبين عامي 1974 و1988، نفذَّت الألوية الحمراء قرابة 50 هجومًا، قُتل فيها نحو 50 شخصًا، ووفقًا لإحصاءات وزارة الداخلية الإيطالية، يُعتقد أن أكثر من 75 شخصًا قد قتلوا على يد الألوية الحمراء. كان لجرائم القتل هذه دوافعُ سياسية، ويقدِّر الباحث كلارنس مارتن أن أعمال العنف التي ارتكبتها الألوية الحمراء في السنوات العشر الأولى من عمرها تقدر بـ 14,000 عمل إرهابي.

ظروف النشأة

مع أن إيطاليا لم تكن الدولة الأوروبية الوحيدة التي عانت من الإرهاب في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، فإن الألوية الحمراء كانت أقوى مجموعة إرهابية يسارية في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية مقارنةً بالجماعات الأخرى، مثل: الجيش الأحمر في ألمانيا، والجيش الجمهوري في أيرلندا، ومنظمة إيتا في إقليم الباسك في إسبانيا.

وقد ارتبط تاريخ إيطاليا في بداية السبعينيات من القرن الماضي ارتباطًا رئيسًا بالعنف السياسي، وبما سُمي وقتها بسنوات الرصاص، التي استمرت من ستينيات القرن العشرين حتى أواخر الثمانينيات، واتسمت بموجةٍ من الإرهاب السياسي اليميني واليساري المتطرفين، وبدأت مع إضرابات خريف إيطاليا الساخن عام 1969 الذي يشير إلى سلسلة من الإضرابات الكبيرة في المصانع والمراكز الصناعية في شمال إيطاليا، وتزامن مع انهيار التحالفات السياسية، مما جعل الأحزاب الكبرى في البرلمان تواجه صعوبةً في تشكيل الحكومات. وأدَّى عدم الاستقرار السياسي إلى أزمة اقتصادية خانقة، استفحلت بعد حقبة نمو اقتصادي قوي عرفتها إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأدَّت الأزمة إلى احتجاجات عنيفة. وتزامن ذلك مع الوضع الاقتصادي الدولي الصعب الناجم عن تداعيات الصدمة النفطية والاضطراب النقدي. وفي هذا السياق ظهرت جماعات مسلحة من اليمين المتطرف، وأخرى من الجماعات اليسارية المسلحة والمتطرفة كان أشهرها الألوية الحمراء.

 

الأفكار

قام عالم الاجتماع الإيطالي «أليساندرو أورسيني» في كتابه (تشريح الألوية الحمراء: العقلية الدينية للإرهابيين المعاصرين) الذي حاز جوائز كبرى في إيطاليا، وتُرجم إلى أكثر من لغة، بتحليل جميعَ الوثائق التي أنتجتها الألوية الحمراء والدراسات التي تناولت التنظيم، فأكَّد أن المنطق السائد للألوية الحمراء كان في الأساس منطقًا أخرويًّا، يركِّز على تطهير العالم الفاسد عبر العنف. وقد ابتكر أورسيني نظريةَ اجتماعية صغيرة تسمح له بإعادة بناء ديناميات الجماعات الإرهابية اليسارية المتطرفة والنازية الجديدة التي تقودها إلى القتل أسماها «نظرية ردود الفعل الثورية التخريبية» تؤكِّد أن الاستعداد للموت والمعاناة يعتمد على مدى اندماج الإرهابي في الطائفة الثورية. وأطلق على هؤلاء الإرهابيين مصطلح «مطهري العالم» (purifiers of the world).

 وأكَّد أن جميع «المطهرين» العنيفين في العالم على اختلاف عقائدهم لديهم هدفٌ واضح هو بناءُ مجتمع مثالي، يخلو من أيِّ خطيئة أو تعاسة، ولا يمكن فيه السماح بأيِّ معارضة تخلُّ بالانسجام العالمي.

يقول أورسيني: «إن أعضاء تنظيم «الألوية الحمراء» ليسوا من الفقراء الذين جرى استغلالهم ماديًّا أو اجتماعيًّا». ويرى أن «العضو المثالي الذي ينتمي إلى الألوية الحمراء يحمل صفة الإيثار على نحو أساسي، ولا يسعى لتحقيق مكاسب شخصية، وهو صغير السنِّ نسبيًّا، كما أنه لا ينتمي إلى الفئات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر حرمانًا في المجتمع، لكنه عبر أيديولوجيته مصدومٌ بشدة من الفقر واستغلال الآخرين».

 

المطاردة 

تصدَّت الحكومةُ الإيطالية بكلِّ السُّبل لنشاطات الألوية الحمراء، ورفضت المساومة معها، حتى نجحت في القضاء عليها ووقف كلِّ نشاطاتها، واستمرت في مطاردة الأعضاء السابقين في الجماعة خارج إيطاليا طوال العقود الماضية، بمن فيهم أولئك الذين أعلنوا إدانتهم للعنف؛ لأنهم ما يزالون متهمين بالمشاركة في أعمال العنف التي ارتكبها التنظيم الإرهابي.

وقد نفذَّت الشرطةُ الإيطالية حملةً واسعة من الاعتقالات لأعضاء التنظيم والمتعاطفين اليساريين معه في عام 1980، شملت إلقاء القبض على 12,000 منهم، بينما فرَّ 300 عضو إلى فرنسا، و200 إلى أمريكا الجنوبية؛ و100 إلى بلدان أخرى. ومعظم قادة التنظيم الذين طالتهم الاعتقالات إما أنهم تراجعوا عن أفكارهم المتطرفة، وإما أنهم تعاونوا مع المحققين في القبض على أعضاء الألوية الحمراء الآخرين، وحصلوا على تخفيفات مهمة في أحكام السجن.

وفي عام 1981، انقسمت الألوية الحمراء إلى فصيلين: فصيل الأغلبية للحزب الشيوعي المقاتل (الألوية الحمراء بقيادة باربرا بالزراني)، وفصيل الأقلية من اتحاد الشيوعيين المقاتلين (الألوية الحمراء بقيادة جيوفاني سينزاني). وفي عام 1984، أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن مقتل «ليمون هانت»، قائد قوات سيناء المتعددة الجنسيات ومجموعة المراقبين؛ لإثبات وجودها، لكن قادة من الفصيلين مثل كورسيو وموريتي، وإيانيللي وبيرتولازي؛ رفضوا في العام نفسه العنف، وأكدوا أنه لا طائل منه.

هذا، وإن اضمحلال التنظيم وتلاشيه لم يوقف مساعي الحكومة الإيطالية في استرجاع الأعضاء السابقين في التنظيم الذين فروا من إيطاليا، ففي 14 يناير 2004 أعلنت الشرطة الإيطالية أنها اعتقلت بالتعاون مع الشرطة المصرية عنصرين بارزين من منظمة الألوية الحمراء الغراناتي وموريتسيو فاليسي، ونقلتهما إلى روما. أما «الغراناتي» فهي مدانة بحكم قضائي غيابي بالسجن المؤبد للتحريض والمساعدة في قتل ألدو مورو، فضلًا عن تورطها في ثلاث عمليات اغتيال سياسية أخرى، ومشاركتها في الاعتداء على مقرِّ للحزب الديمقراطي المسيحي في مايو 1979 الذي قُتل فيه شرطيان. والغراناتي هي زوجة الإيطالي أليسيو كاسيميري الملاحق كذلك بتهمة الإرهاب، والمتورط في قضية مورو، واللاجئ في نيكاراغوا.

وأما «موريتسيو فاليسي» فقد صدرت بحقه عقوبتان صارمتان بالسجن - الأولى 11 عامًا والثانية 23 عامًا- بتهمة انضمامه إلى إحدى الفصائل القيادية للألوية الحمراء (الوحدة الشيوعية المقاتلة) التي كانت ناشطة في السبعينيات والثمانينيات.

وفي يناير 2019، أوقفت بوليفيا عضو الألوية الحمراء «شيزاري باتيستي»، وسلَّمته إلى إيطاليا بعد أربعين عامًا من هروبه من فرنسا إلى البرازيل ثم بوليفيا.

وفي 28 أبريل 2021، أعلنت الرئاسة الفرنسية أن سبعة أعضاء سابقين في منظمة الألوية الحمراء الإيطالية محكومين في إيطاليا لأعمال إرهاب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ اعتقلوا في فرنسا بطلب من إيطاليا.

وفي يونيو 2022 واجه أعضاء سابقون في الألوية الحمراء يقيمون في فرنسا إجراءاتٍ في محكمة في باريس؛ لتقرير ما إذا كانت المحكمة ستسلم لإيطاليا كثيرًا من أعضائها السابقين الذين فروا إلى فرنسا.

وجددت هذه الخطوة الفرنسية الجدل في مصير نحو 300 عضو من الألوية الحمراء فروا إلى فرنسا قبل عقود، وحصلوا على حقِّ اللجوء فيها في عهد الرئيس فرانسوا ميتران بعد أن نبذوا العنف، لكن المطالبات الإيطالية بتسليمهم لم تعبأ بما يُسمى المبدأ الفرنسي الذي يحمل اسم ميتران، ويمنح اللجوء للأعضاء السابقين للمنظمة؛ على ألا يكونوا قد ارتكبوا جرائم دم.