أظهر الإعلامُ اللبناني في تناوله للجرائم الإرهابية، تنوُّعًا في الأساليب والمضامين والمصطلحات، غيرَ أن معظم وسائله التقليدية والإلكترونية اكتفت بدور الوسيط الناقل لما يجري، دون ممارسة مهمَّتها الأساسية في التبصير والإرشاد، وصناعة الرأي العام، وتحصين الشباب من الفكر المتطرف. فضلًا عن حالة التنافس الشَّرسة لتحقيق السَّبق الصَّحَفي في إبراز هذه الأحداث، دون التقيُّد بالقواعد والأصول المهنية المطلوبة، أو إدراك لما يمكنُ أن يجرَّه ذلك من مخاطرَ على الجمهور والمصالح الوطنية للبلاد؛ مما أوقعَها في كثير من المحظورات.

ونعرض فيما يأتي واقعَ السياسة الإعلامية اللبنانية، في معالجتها لجرائم الإرهاب، وأهمِّ الثُّغرات التي تعتري هذه المعالجات، والدور المـَنوط بالإعلام في المرحلة المقبلة؛ بوصفه شريكًا مهمًّا في الحرب على الإرهاب.

غياب سياسة موحَّدة
نؤكِّد ابتداءً أن وسائل الإعلام اللبنانية تُجمع على استنكار الأعمال الإرهابية، وتدعم بحزم الجيشَ والأجهزةَ الأمنية في التصدِّي للجماعات المتطرفة والإرهابية؛ إلا أنها لم تَلتَقِ حتى الآن على سياسة واحدة متكاملة في التعامل مع هذه المشكلة، وبقيت سياساتُها تفتقر إلى الخطط والبرامج المطلوبة في التعامل مع قضايا التطرف والإرهاب.  

وتتعدَّد أسبابُ غياب سياسة توافُقية في الإعلام اللبناني، في تعامله مع مشكلة التطرف العنيف والإرهاب، منها طبيعةُ الوسيلة الإعلامية، سواءٌ كانت رسميةً حكومية، أو أهليةً خاصَّة، وانتماؤها السياسي، وتبعيتها الطائفية، وتنوُّع وسائل الإعلام ما بين مرئية ومسموعة ومكتوبة وإلكترونية، مما يجعل لكلٍّ منها أسلوبها الخاصُّ في تناولها للقضايا الإرهابية. لذا بقي تناول هذه الوسائل لقضايا الإرهاب تناولًا جزئيًّا، وأحيانًا يأخذ بعضُها منحى التوظيف السياسي؛ فتميل الوسيلةُ إلى تهويل الحدث أو تهوينه، مما يؤثِّر في الثقة فيها، ويحدُّ من قدرتها على التأثير؛ بسبب طُغيان الجانب الدعائي على الجانب الإعلامي الموضوعي. ولعلَّ المشكلة الكبرى في هذه القضية، أن هذه السياسةَ بعيدة عن أيِّ تقويم فصليٍّ أو سنويٍّ لمستوى أدائها، ومدى نجاحها في معالجة التطرف والإرهاب.

معالجات سطحيَّة
ينحصِر تناولُ أغلب وسائل الإعلام اللبنانية للحوادث الإرهابية في الإطارين السياسي والأمني، ويقتصر على مظاهر الأزمة، دون الخوض بعُمق وموضوعية في أسباب الظاهرة، وطُرق مواجهتها، ومعالجة آثارها السلبية في المجتمع. ومع أن المؤسساتِ التربويةَ الأكاديمية والمِهَنية، ومؤسساتِ المجتمع المتخصِّصة في التنشئة الاجتماعية؛ تُعنى بتعزيز أداء الإعلام في مواجهة التطرف والإرهاب، لا تزال معالجةُ الأحداث سطحيَّةً، وتفتقر إلى العُمق والتفسير والشرح والتحليل.

ومن المحزن حقًّا أن تُؤدِّيَ بعضُ وسائل الإعلام وظيفةَ المحرِّض على الإرهاب، وخدمة أهدافه، بوعي أو بغير وعي؛ بمسارعتها إلى تحقيق السَّبق الإعلامي، دون البحث أو تحرِّي الموضوعية والدقَّة، واعتمادها في إبرازها لكثير من الجرائم الإرهابية على ما يتناقله غيرُ المختصِّين في وسائل التواصُل الاجتماعي؛ مما أوقعها في محظورات كثيرة، ومن ثَمَّ أصبحت الجماعاتُ الإرهابية تحصل على دعاية مجَّانية لأعمالها الإجرامية.

مَن المسؤول؟
أحدثَ التناولُ المتسرِّع للجرائم الإرهابية في وسائل الإعلام اللبنانية، مشكلةً إعلامية أمنية، تحمل في طيَّاتها علاماتِ استفهام كثيرة، منها على سبيل المثال: مَن المسؤولُ عن التحقُّق من المعلومات بشِقَّيها الأخلاقي والمِهَني؟ ومَن يتحمَّل التَّبِعات الخطِرة المترتِّبة على بثِّ أخبار التنظيمات الإرهابية ونقلها بين مكوِّنات المجتمع اللبناني؟ وماذا عن الأخطاء التي يقعُ فيها المراسلون في أثناء سعيهم إلى السَّبق الصَّحَفي، الذي يُظهر في الغالب إعلامًا يفتقر إلى القواعد والأصول المهنية في التعامل مع قضايا مُعقَّدة وحسَّاسة، مثل قضايا التطرف والإرهاب؟

تقع كلُّ هذه المسؤوليات، بلا شكٍّ، على عاتق الوسيلة الإعلامية والعاملين فيها؛ فالوسائلُ الإعلامية التي تريد أن تحافظَ على الثقة بها، واحترام الجمهور لها، لا بدَّ أن تتحرَّى معلوماتِها من مصادرها الأصلية، وتعرف الوسيلةَ المـُثلى لنقل وقائع العمل الإرهابي، وأثره في الأمن الوطني، وأهميَّته في تكوين الاستجابات الوِجدانية والمعرفية والسلوكية للجمهور اللبناني تجاه جرائم التطرف والإرهاب، ثم تتخذ أخيرًا القرار المناسب بالنشر أو الرفض. 

ولعلَّ هذا ما يُسوِّغ مطالبةَ مدير التوجيه في الجيش اللبناني العميد علي قانصو، وسائلَ الإعلام ببذل المزيد من الجهد لتوفير بيئةٍ تحصِّن الرأيَ العام من محاولات ترهيبه، وتمكِّنه من مواجهة هذا الخطر، وعدم التورُّط في ترويجٍ غير مقصود للمنتجات الإعلامية التي تريد التنظيماتُ الإرهابية تصديرَها للجمهور، مثل: نشر الصور والمقاطع المصوَّرة المروِّعة لعمليات قتل الضحايا، وقطع رؤوسهم، وانتزاع أطرافهم. فهذه الجماعاتُ تسعى إلى نشر هذه المقاطع على أوسع نطاق؛ لبثِّ الرُّعب، ونشر الخوف بين المواطنين، فهي لديهم وسيلةٌ لكسب المعركة. 

وهذا ما دفع بعضَ المتخصِّصين للمطالبة بحرمان الإرهابي الوصولَ إلى منافذ الوسائل الإعلامية، بمثل هذا التناول الإعلامي؛ لأن التعجُّلَ في بثِّ هذه المقاطع المرعبة مكافأةٌ للإرهابيين على أعمالهم الإجرامية؛ فهي تُتيح لهم الوصولَ إلى الجمهور، والحديثَ عن الدوافع والأسباب لارتكاب هذه الأفعال، وربما تستهوي بعضَ ضِعاف النفوس ومحدودي الثقافة هذه الأسبابُ فيميلون إليهم، ويتعاطفون معهم. وقد ذكر كثيرٌ من الأشخاص الذين انخرطوا في العمل الإرهابي، وأُلقيَ القبض عليهم، أنهم تأثَّروا بما كانت تعرضه بعضُ محطَّات التلفزة والمواقع الإلكترونية في أثناء إبرازها هذه الحوادث.

نحو مشروع متكامل 
تغيَّرت طريقةُ استهداف المجنَّدين وزرع ثقافة التطرف فيهم؛ فازداد الاهتمامُ بوسائل التواصُل الاجتماعي، والقنوات الرَّقْمية الأخرى، وتشهد العملياتُ الإرهابية أيضًا تطوُّرًا في أساليبها وطرق تنفيذها. وإذا كانت اليقظةُ الأمنية مطلوبةً في مواجهة هذا الإرهاب المتطوِّر، فإن للإعلام إسهامًا لا يقلُّ أهميةً عن إسهام الجهات الأمنية في صيانة مكوِّنات الشعب اللبناني، ومواجهة خطاب الكراهية والعنف، وكشف زَيف خطاب التنظيمات الإرهابية، واستغلالها الدِّينَ للتغرير بالمواطنين، ولا سيَّما فئة الشباب؛ لضمان عدم تدفُّق دماءٍ جديدة في شرايين الإرهاب، وتسهيل محاصرته، للوصول أخيرًا إلى تصفيته والقضاء عليه. لذا تشتدُّ الحاجة إلى برامجَ وخططٍ تشترك فيها كلُّ الوِزارات المعنيَّة، والمنظمات الرسمية وغير الرسمية، في مواجهة هذا الخطر. 

وفي هذا الإطار، يُبدي العميد البروفيسور فضل ضاهر، الأمينُ العام المساعد الأسبق لمجلس وزراء الداخلية العرب، أسفَه لعدم اندماج الإعلام اللبناني حتى الآن في القِطاعات المهمَّة، مثل الأمن والقضاء، في مشروع مُتكامل يواجه هذا الخطر فكريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا من جهة، ويدحَضُ الافتراءات التي تربط الإرهابَ بالعرب والمسلمين من جهة أخرى. فأغلبُ الدول العربية والإسلامية اكتوت بنار الإرهاب، ودفعت أثمانًا باهظة في محاربته، ومع ذلك فإن أصابع الاتِّهام غالبًا ما تُوجَّه إليهم عقبَ كلِّ حادث إرهابي.

وبصورة أشمل، ينبغي التوفيقُ بين حرِّية الإعلام بجميع أنواعه وصُنوفه، في نقل أحداث الإرهاب للجمهور، وعدم المساس بالأمن القومي؛ فإن الحرِّية المطلقة قد تُعرِّض المصالح الوطنية للخطر، وبعضُ وسائل الإعلام غير المنضبطة قد تدفع نحو فتنةٍ في الداخل اللبناني. ومن هنا تأتي أهميةُ المسؤولية الوطنية والاجتماعية للإعلام، التي تعني توخِّيَ الدقَّة والموضوعية، والحفاظَ على وَحدة المجتمع اللبناني وأمنه وسلامته.

الإعلام السعودي نموذجًا 
 يؤكِّد رئيسُ تحرير صحيفة «اللواء» اللبنانية صلاح سلام، أن نجاح السياسة الإعلامية أو إخفاقها في مواجهة الإرهاب، مسألةٌ نسبية، لا تعتمد على أُسس ومعاييرَ ثابتة وحاسمة؛ فكلُّ طرف يراها وَفقَ نظرته الخاصَّة، ويُقوِّمها على أساس الإنجازات التي تحقَّقت في محيطه أو في بلده.

وطِبقًا لنظرة سلام؛ فإن ثمَّةَ ثُغراتٍ كثيرةً تعتري السياسة الإعلامية اللبنانية في مواجهة التطرف والإرهاب، سواءٌ أكانت في نشرات الأخبار، أم في البرامج المباشرة، أم في البثِّ الحي. ومع ذلك لم يستطع الإعلامُ اللبناني الاستفادةَ من التجارِب الناجحة في بعض الدول العربية، مثل تجرِبة المملكة العربية السعودية التي باتت نموذجًا يُحتَذى في مواجهة التطرف والإرهاب؛ فهي تعتمد في المقام الأول على التحصين الفكري، والتثقيف والتوعية والإرشاد، التي تشترك فيها المؤسساتُ الإعلامية والتعليمية والدينية.   

ويوضِّح سلام أن برامج التوعية والحوار التي وضعَتها المملكةُ العربية السعودية، نجحت في تحصين الشباب من الفكر المتطرف، وأعادت كثيرًا منهم إلى صوابه، مما يؤكِّد أن السياساتِ التي اتُّبعَت في المدَّة الأخيرة، والتي تعتمد على الحوار، ومخاطبة العقل، ومحاولة الإقناع، قد حقَّقَت أهدافها المنشودة. 

وتفاديًا للسَّلبيات، يطالب العميد فضل ضاهر بضرورة تحوُّل الإعلام من ردود أفعال انفعالية ومرتجَلة في معظم الأحيان، إلى إعلام تبصيري، مُمنهَج ومنتظم ومحترف؛ لكي يكون مؤهَّلًا لتحمُّل مسؤولياته، وينتظم بجدِّية في التصدِّي لهذا الإجرام العابر للحدود، مع الالتزام بميثاق شرفٍ يضمن تجنُّبَ نشر كلِّ ما يثير الفتنةَ الطائفية بين مكوِّنات المجتمع اللبناني.

كلمة الختام 
الإعلامُ اللبناني قادرٌ على مواجهة التطرف والإرهاب؛ لأنه يمتلك الكوادرَ البشرية، والإمكاناتِ التقنية، والوسائلَ الإعلامية؛ المسموعة والمقروءة والمرئية؛ التي تؤهِّله لإنتاج أفضل الصناعات الإعلامية في الشرق الأوسط. وإذا ما توافرت له الإرادةُ الجادَّة، والظروف المناسبة، واستطاع التنسيقَ مع أجهزة الدولة ومؤسَّساتها في مواجهة هذه الآفة الخطِرة؛ لرأينا تحوُّلًا نوعيًّا لمصلحته في هذه المعركة في سنوات قليلة، وسيصير بلا ريب نموذجًا يُحتذى في مواجهة التطرف والإرهاب، مثلما هو حاصلٌ في إعلام كثير من الدول الخليجية والعربية.