لا شك في أن أصعب مظاهر سمات تكوين شخصية الإنسان وتشكيلها وأكثرها تعقيدًا هي في المرحلة الأولى من حياته، ولا سيَّما في السنوات الست الأولى، وقد أثبت ذلك الحديث الشريف الصحيح الذي رواه البخاري: (كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)، وهو دلالةٌ على أهمية دور الوالدين في تربية الأبناء، وتشكيل شخصياتهم. وقد جاءت مدارس علم النفس لتؤكِّد هذا المبدأ، إذ إن السنوات الأولى من حياة الطفل تتأثر كثيرًا بسلوك والديهم وتنشئتهم وقيمهم كذلك؛ بل زيادة على ذلك فإن عامل القدوة المتمثِّل في الوالدين له دورٌ كبير في اكتساب ما يحملونه من أفكار وقيم، ويمتد هذا التأثير ليشمل المعلمين وتأثيرهم في الأطفال بوصفهم قدوة لهم. أما الجانب الفكري من شخصية الأطفال والشباب فهو من أصعب العمليات التي تُحدِّد شخصية الإنسان وتشكلها. فكيف يتشكَّل التفكير (Thinking)، وممَّ يتكوَّن؟ ثم كيف يتكوَّن الفكر (Ideology)؟

يُولد الإنسان وينمو في سنواته الأولى معتمدًا على المحسوسات القريبة والمباشرة منه، فأمُّه وأبوه هما أقرب الناس إليه، وهما أقرب مَن يلبي احتياجاته الأساسية البيولوجية والنفسية، ومن ثَمَّ فمعرفته وإدراكه لمن حوله يحدثان بواسطة مَن يقوم بتلبية احتياجاته على نحوٍ متكرر، ثم ينتقل التأثر بمَن يتفاعل معه ويتيح له ما يشبع دوافعه ويلبي رغباته، مثل إخوانه وأقربائه في المنزل وخارجه، وهم الذين يسهمون في تشكيل شخصيته الجسمية والاجتماعية، ثم ينتقل بعد ذلك النمو من إدراك المحسوسات إلى إدراك شبه المحسوسات، ثم المجردات شيئًا فشيئًا، حتى يصل في بدايات المراهقة إلى إدراك المجردات كما يسمِّيها العالم جون بياجيه (Joan Piaget) في نظريته عن التطور المعرفي والذكاء البشري، إلا أن طبيعة المعرفة تمرُّ بمراحل تدريجية في اكتسابها وبنائها. ومن أهم عمليات النمو عند بياجيه (اللغة)، إذ إنها تتوقف على المعرفة، وأن الفهم يكتسب عن طريق التطور المعرفي. وقد قسَّم بياجيه التنمية المعرفية إلى أربع مراحل:

الأولى: وهي الحسية (Concrete)، وتعتمد أساسًا على إدراك المحسوسات المجردة.
الثانية: وهي التنفيذية الملموسة، إذ يبدأ الطفل بتعلم الكلام حتى سن السابعة مع المفاهيم البسيطة والقريبة وتسمَّى (Pre Operational).
الثالثة: وهي المرحلة التي يتعلم فيها الطفل المهارات اللغوية والتفكير البسيط، وهي أعلى مما سبق (Operational)  من بعد السابعة حتى الثانية عشرة، إذ يصبح الأطفال فضوليين ولديهم حرص على الاستطلاع والأسئلة الغامضة.
الرابعة: وهي المرحلة التي تتعدى سن الثانية عشرة تقريبًا، إذ تتعقد المفاهيم والتفكير لدى الطفل، ويصبح قادرًا على ربط الأشياء والتحليل والتفكير المنطقي والمعرفي، وتُسمَّى العمليات المعرفية التشكيلية (Formal Operation)، وهنا ينتقل الشاب من التفكير المنطقي مع الأمثلة الملموسة إلى الأمثلة التجريبية.

ومع التحفظ الذي ورد عند كثير من العلماء الذين جاؤوا بعد العالم بياجيه في دقة ظهور العمليات المعرفية ومظاهر النمو المعرفي في السنوات التي ذكرها، وفيها ما أثبتته الوقائع والأيام بأن نمو ذكاء الأطفال وإدراكهم المعرفي والمنطقي يسبق المراحل التي ذكرها بياجيه، إلا أن السمات الغالبة تظل تقريبًا في الإطار نفسه الذي رسمه بياجيه. وهكذا نستنتج أن تفكير الإنسان يأتي في مرحلة بعد سن السادسة تقريبًا، وهنا يستمر تأثير الوالدين والأقارب والأقران بما يحملونه من قيم وتوجهات ومعتقدات يورثونها لأبنائهم شعوريًا أو لا شعوريًا. ثم تأتي بعد ذلك المدرسة ونظامها التعليمي وبيئتها التعليمية والمناهج والأنشطة الصفية واللاصفية، وكذلك مَن يقوم بقيادة العملية التعليمية، وهو المعلم حجرُ الزاوية في العملية التعليمية، فكلُّ هذه العناصر والمكونات تُؤثِّر على نحو مباشر وغير مباشر في تشكيل تفكير الطفل، ومن ثَمَّ في فكره ومعتقداته. وبين البيت والمدرسة دخلت كثير من المؤثرات الإعلامية والنفسية، وما يُسمَّى بالعالم الجديد الذي صغَّر العالمَ واختصره إلى عالم الكف المتمثل في الأجهزة الذكية بجميع أنواعها وأشكالها. 

وهكذا نجد أن التنشئة الاجتماعية ونمو شخصية الإنسان الفكرية والشاملة تتجاذبهما الوكالات المختلفة للتطبيع الاجتماعي، وترسم عن طريقها نمط الشخصية للشاب، سواء كان ذلك في دائرة السواء والنمو الطبيعي، أو الانحراف والتطرف في حالة اختطاف شخصية المراهق الشاب من قبل المحيطين والمرضى وأصحاب الفكر المتطرف، إذا وجدوا بيئة صالحة في غياب التربية المنزلية والمدرسية الواعية والصحيحة، والظروف الاجتماعية والاقتصادية المتفكِّكة.

ومهما بُذلت من جهود في محاربة الفكر المتطرف والإرهاب إعلاميًّا أو عسكريًّا أو تجفيف منابع الإرهاب، فسيظل الفكرُ والتفكيرُ هما الأساس الذي يجب أن تكون له الأولوية في الإستراتيجية البعيدة المدى للحدِّ من الفكر المتطرف والإرهاب.

ولذلك فإن من أهم أسباب الحدِّ من الفكر المتطرف والإرهاب معرفة تكوين شخصية الشباب وخلفياتهم الفكرية والاجتماعية، والعمل على إيجاد البيئات المناسبة لنمو الأطفال والشباب منذ الصغر، صحيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وروحيًّا، وبناء البرامج والأنشطة في ضوء ذلك، وهذا هو أنجح الطرق والوسائل لوقاية الشباب والأجيال وتحصينهم من براثن الإرهاب بجميع مستوياته.