​​​​تقع بحيرةُ تشاد في المنطقة الشَّمالية الوسطى من قارَّة إفريقيا، وتلتفُّ حولها أربع دول، هي: الكاميرون، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا. وقبل بضعة عقود كانت بحيرةُ تشاد سادسَ أكبر البحيرات في العالم؛ إذ قُدِّرت مساحتها بنحو 25 ألف كيلومتر مربع، غير أن هذه المساحة تقلَّصت جدًّا منذ ستينيات القرن الماضي؛ لتصلَ إلى ألفي كيلومتر فقط مع بداية القرن الحالي؛ بسبب التغيُّرات المناخية والجفاف المستمر.

مشكلات متراكمة
للبحيرة أهميةٌ اقتصادية كبيرة، فهي مصدر رئيسٌ للمياه لنحو 30 مليون نسَمة، من ساكني المناطق المحيطة بها، لكن مع الانحسار المستمر لمياه البحيرة، وارتفاع أعداد السكَّان الذين يعتمدون عليها في حياتهم اليومية؛ أصبح هناك تهديدٌ لمستقبل ملايين البشر الذين يعيشون في مِنطَقة البحيرة، وبحسَب تقديرات الأمم المتحدة فإن عددهم سيصل إلى 50 مليون نسمة في غُضون سنوات قليلة.


وتعاني بُلدان المنطقة مشكلاتٍ مُعقدةً ومتراكمة؛ تقف عائقًا أمام تحقيق التنمية، مثل: هشاشة البنية الاجتماعية، وغياب فرص التعليم، وانتشار الفقر، وعدم الاستقرار السياسي، فضلًا عن العوامل الطبيعية، مثل: التصحُّر، والجفاف، والتغيُّرات المناخية، التي سبَّبت في العقود الماضية هجرةَ ملايين السكَّان نحو المناطق الداخلية، أو البلدان المجاورة، أو الإقامة في معسكرات اللاجئين.

غير أن أعظم المشكلات خطرًا، وباتت تهدِّد أمن المنطقة في السنوات الأخيرة؛ أنها أصبحت قِبلةً للجماعات الإرهابية، ومسرحًا لمعسكراتها التدريبية، ومِنصَّة لإطلاق عملياتها الإجرامية. فمع تراجُع تنظيم داعش الإرهابي في العراق والشام، وهزيمته أمام قوات التحالف الدَّولي، باتت المخاوفُ عاليةً من المخاطر المحدقة بالقارَّة الإفريقية، ولا سيَّما منطقة بحيرة تشاد التي وجد التنظيمُ فيها مِنطقةً هشَّة لإعادة تنظيم قوَّاته، وتعزيز مواقفه؛ مما جعلها مصدرَ قلق للعالم كلِّه؛ نظرًا إلى المخاطر الإرهابية المحيطة بها، مع الأخذ في الحُسبان أن منطقة الساحل والقرن الإفريقي التي تنشط فيها جماعاتٌ أخرى، مثل بوكو حرام، أدَّت إلى كوارثَ إنسانيةٍ شديدة لسكَّان المنطقة.

بوكو حرام
ظهر تنظيمُ بوكو حرام الإرهابي عام 2002م في منطقة بورنو النيجيرية، وهو أكثرُ التنظيمات الإرهابية سفكًا للدماء في المنطقة؛ إذ انتقلَ من تنظيم محلِّي ذي نزعة طائفية، يسعى إلى تطبيق الشريعة في جميع الولايات النيجيرية، ومحاربة المدارس العَلمانية التي تعتمد المناهجَ الغربية، إلى تنظيم ذي طابع إقليمي لديه أنصارٌ في عدد من البلدان المجاورة، ولا سيَّما الدول التي تكوِّن حِزامًا محيطًا ببحيرة تشاد. 

ومع أن التنظيم تعرَّض للانقسام عام 2015م، بعد بيعة مجموعة منه لتنظيم داعش، وإنشاء ما أُطلق عليه «ولاية غرب إفريقيا للدولة الإسلامية» بزعامة موسى البرناوي، بقي التنظيمُ محافظًا على وجوده، وقادرًا على المواجهة، ولا يزال خطرًا حقيقيًّا يهدِّد أمن المنطقة، ولا سيما الجناح الأساسي بقيادة أبي بكر شيكاو، الذي قتلته القواتُ النيجيرية في يوليو 2021م.

وبداية من عام 2009م، وهي مرحلةُ الانتقال من النشاط المحلِّي إلى الانتشار الإقليمي، وسَّع التنظيم عملياته الإرهابية؛ لتشملَ مختلِفَ مناطق نيجيريا والبلدان المجاورة، بهدف إنشاء الخلافة، بحسَب زعمه. وفي عام 2013م أعلنت نيجيريا حالةَ الطوارئ، وشنَّ الجيش هجومًا شرسًا على مقاتلي التنظيم، ومع ذلك تمكَّن من إحكام قبضته على بعض المناطق، ومنها منطقة بورنو، حيثُ نفَّذ التنظيم ما يزيد على %60 من عملياته. ومنذ عام 2014م بات التنظيمُ يستهدف منطقة بحيرة تشاد والبلدان المحيطة بعملياته الإرهابية.

لماذا بحيرة تشاد؟
تنظر الجماعاتُ الإرهابية إلى بحيرة تشاد على أنها منطقةٌ آمنة؛ كونها واقعةً على خاصرة أربعة بلدان، وقريبةً من غابة سامبيسا الممتدَّة على مساحة شاسعة من الأراضي، وتُصنَّف على أنها أكبرُ غابات المنطقة، مما يجعلها بعيدةً عن سيطرة الدولة الوطنية. ومنذ وصول التنظيم إلى المنطقة ارتفعت العملياتُ الإرهابية بنسبة %20، وتضاعفت أعدادُ ضحاياه بنسبة %30، بحسَب تقاريرَ أممية. ومع سيطرة التنظيم على المنطقة، تمكَّن من الحصول على مواردَ إضافيةٍ لتمويل عملياته الإرهابية، بفرض إتاوات وضرائبَ على السكَّان، وعمليات التهريب، سواءٌ بواسطة المعابر التجارية البرِّية، أو التي تمرُّ عبر البحيرة، أو عبر الحدود. ومع أن جنود البلدان المحيطة بالبحيرة يظلُّون الهدفَ الأساسي للعمليات الإرهابية؛ بوصفهم يقاتلون إلى جانب أنظمة كافرة، بحسب أدبيات الجماعات الإرهابية، نجد أن غالبية الضحايا هم من المدنيين، ولا سيَّما تلاميذ المدارس، التي يَعُدُّها التنظيم مؤسساتٍ غربيةً محرَّمة تروِّج القيمَ العَلمانية في بلاد إسلامية. ففي المدَّة ما بين 2009 و2021م تعرَّضت 92 مؤسسة تعليمية لهجَمات إرهابية، صاحبَها خطفٌ واغتصاب وقتل، وتشريد لعشرات الآلاف من الأسر.

بيد أن التنظيم تلقَّى ضربةً قاصمة بمقتل زعيمه أبي بكر شيكاو، أفقدَته القدرة على جمع صفوفه حول زعيم جديد يحظى بالقَبول من مختلِف الأطراف؛ فإن اختيار زعيم في الجماعات الإرهابية يخضع لحسابات كثيرة معقَّدة. غير أن هذا الأمر لا يدعو إلى تفاؤل كبير؛ لأن ضعفَ تنظيم بوكو حرام لا يعني عدمَ قدرته على الإيذاء، أو انتهاء عملياته الإجرامية؛ فمع صراعه الدائر مع التنظيم المنشقِّ عنه، الذي بايع تنظيم داعش قبل ذلك لإنشاء ما سُمِّي «ولاية غرب إفريقيا للدولة الإسلامية» بزعامة موسى البرناوي، فإن فرصةَ زيادة العمليات الإرهابية للسيطرة على المناطق المتنازَع عليها، أو لجذب المزيد من المقاتلين، تبقى قائمة، وربما تكون أكثرَ شراسة.

التنسيق الأمني
أنشأت كلٌّ من: موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد، عام 2017م، قوةً مشتركة؛ للتعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، غير أن هذه القوةَ لم تُحقِّق النتائج المرجوَّة؛ إذ بدت حالةٌ من الارتباك بين الحكومات، وعدم وجود سياسات منسجمة في مواجهة العمليات الإرهابية، إضافة إلى عدم القدرة على التوفيق بين استحقاقات الأمن الداخلي من جهة، ومهامِّ التنسيق مع الدول المجاورة من جهة أخرى. 

ولعل مما يُظهر هذا الارتباكَ قرارُ الحكومة التشادية، في أغسطس الماضي، سحبَ نصف قواتها العاملة في مجموعة الدول الخمس عقب عملية إرهابية نفَّذها تنظيمُ بوكو حرام في بحيرة تشاد؛ أدَّت إلى مقتل 26 جنديًّا تشاديًّا، وهو أعنفُ هجوم بعد الهجوم الذي تعرَّضت له القواتُ التشادية في شهر مارس عام 2020م، وأودى بحياة 98 جنديًّا على يد مقاتلي بوكو حرام. 

خاتمة القول
إنَّ مخاطر تمدُّد الجماعات الإرهابية في بحيرة تشاد والمناطق المجاورة تزداد بقوة، ولا سيَّما مع تراجُع تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، وتمدُّد جماعة بوكو حرام خارج نيجيريا، وصراعهم مع المنشقِّين عنهم، ومع تنظيم القاعدة؛ من أجل كسب مزيدٍ من الأرض والأنصار، فضلًا عن واقع مَعيشي صعب يعانيه شبابُ المنطقة؛ مما يجعلهم فريسةً سهلة للانضمام إلى هذه الجماعات.

كلُّ هذه العوامل تُلحُّ على إنشاء تحالف قوي يستطيع مواجهةَ هذا الإرهاب المتوغِّل، مع مراعاة ألا يقتصرَ التحالف على الدول المتجاورة في إفريقيا فقط؛ بل يجب أن يضمَّ دولًا كبرى، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والمملكة المتحدة؛ إذ إن مخاطر تلك التنظيمات لن تقتصرَ على قارَّة إفريقيا وحدَها؛ بل ستحرق الأخضرَ واليابس في الدول المحيطة، مما سينعكس سلبًا على دول الجوار والقارة السمراء والعالم أجمع.