​تمكَّنت الجهودُ العالمية المبذولة في الحرب على الإرهاب من تقويض دعائم كثير من الجماعات الإرهابية، وكسر شوكتها، وتجفيف بعض منابعها. وعلى الرغم من ذلك، استمرَّت التنظيماتُ الأكثر شهرة، والعابرةُ للحدود والقارَّات، مثل تنظيمَي (القاعدة) و(داعش)، في مزاولة أنشطتها الإجرامية في أكثرَ من بقعة ملتهبة في العالم.

وتُدرك هذه التنظيمات أهميةَ سلاح الإعلام في معاركها المتطرفة، وترويج أفكارها العنيفة؛ لذا أولَت الإعلامَ ووسائله الجديدة، ولا سيَّما شبكة الإنترنت، ومواقع التواصُل الاجتماعي، أهميةً قصوى، وباتت تُديرها بدرجة عالية من التقنيَّة والشمول والاحتراف، مستعينةً بجيلٍ من الإعلاميين، والمؤيِّدين أصحاب الخبرات المتميِّزة؛ فأغلبُ مقاتليها من جيل الشباب الذين وُلدوا في عصر الحاسوب والإنترنت وشبكات التواصُل الاجتماعي، ويجيدون التعاملَ باحتراف عالٍ مع هذه الأدوات.

إعلام داعش
ونجحت تلك التنظيماتُ في ترويج أفكارها؛ وإيصال رسائلها، عبر وسائلها الإعلامية الضخمة؛ التي تُنتج كثيرًا من الإصدارات المقروءة والمسموعة والمرئية، وتقدِّم معالجاتٍ كاملةً ومفصَّلة لجميع أعمالها العنيفة والقتالية، مع ترجمتها من العربية إلى لغاتٍ عدَّة؛ أبرزها: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والهولندية، والروسية، والأوردية، والإندونيسية.

ويُعَدُّ تنظيم داعش الإرهابي أشهرَ هذه التنظيمات التي تمتلك وسائلَ إعلامية ضخمة، تتنوَّع بين صُحف ومجلَّات وإذاعات، وعشَرات الحسابات على مواقع التواصُل الاجتماعي، مثل: يوتيوب، وفيسبوك، وتويتر، وإنستجرام، وتطبيقات الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية. وعلى الرغم من الخسارة الكبيرة التي تلقَّاها التنظيمُ في الموارد البشرية والتقنية، ولا سيَّما في العراق وسوريا، لا يزال إعلامُه مؤثِّرًا ونشيطًا.

وتتناول هذه الدراسةُ صحيفة (النبأ)، وهي أحد إصدارات تنظيم داعش المعبِّرة عن هُويَّته؛ لإبراز حروبه الفكرية التي يخوضها؛ وتحقيق الانتشار والتأثير، وكسب التعاطف والتأييد، إضافةً إلى فهم حالته الراهنة، وما يطرأ عليه من تغيُّرات في مراكز القوة والضعف، ومن ثَمَّ الوقوفُ على رؤيته المستقبلية.

وتتنوَّع عملياتُ التحليل بتنوُّع الموضوعات والمجالات التي يمكن تناولها؛ كمستويات الخطاب، ودرجة العنف التي تحتويها، ومقارنتها بالمحتويات غير العنيفة التي تشمل المظاهرَ المدنية التي تقوم بها الدولُ بأجهزتها المختلفة، مثل: أنماط الحوكمة، وتقديم الرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحِّية، وتيسير الأعمال الزراعية والتجارية والصناعية.

صحيفة النبأ
صحيفةُ النبأ الأسبوعية من أبرز إصدارات تنظيم داعش الإرهابي المقروءة، ولا تزال تصدُر بانتظام منذ ظهور عددها الأول عام 2014م، وقد صدر منها أكثر (300) عدد حتى الآن. يُصدرها ديوان الإعلام المركزي للتنظيم، وتُنشر بالعربية، إضافةً إلى ترجمة بعض محتوياتها ونشرها في إصدارات مستقلَّة. وتتكوَّن الصحيفة من 12 صفحة، وجميعُ أعدادها تحتوي على صور، وتصاميم «إنفوجراف»، ورسوم بيانية، وخرائط، ويرافق صدورَ كلِّ عددٍ مُلحقان: الأول مُصَوَّر، والآخر مسموع. 

وقد منحت الأمورُ المذكورة آنفًا (صحيفةَ النبأ) كثيرًا من المزايا، فهي سهلة التداول والقراءة، وموادُّها صيغت بأسلوب واضح مفهوم، وتتمتَّع بنظام تخزين وحفظ فائق الجودة؛ فهي تُرفَع بملفِّ PDF، في حين تُرفَع تصاميمُ «الإنفوجراف» مستقلَّة بروابطَ لا تقلُّ عن (15) رابطًا؛ مما حقَّق لها انتشارًا واسعًا على وسائل التواصُل الاجتماعي.

ويأتي اهتمامُ الجماعات الإرهابية عمومًا، وتنظيمُ داعش خصوصًا، بعمليَّات الحفظ (الأرشفة)؛ لأنها تضمن استمرارها في الفضاء الإلكتروني، والمجتمعات الشبكية؛ وبقاء إرثها الدموي، وتاريخها وأفكارها المتطرفة، بما يشبه «بنك البذور العالمي» في الجزيرة النرويجية «سبتسبرجن» في القُطب الشَّمالي، الذي أُنشئ لضمان بقاء أهمِّ الأنواع النباتية التي تضمن بقاء البشر، إذا ما وقعَت كارثةٌ عالمية كبرى.

وتحافظ التنظيماتُ الإرهابية على وجودها بهذه الطريقة، أيًّا كان الواقعُ على الأرض، ولا سيما في أوقات الانكماش والضرَبات القاسية، وهو ما يسمحُ لها بتقديم منهجها المسموم إلى الأجيال الجديدة، وبقاء تأثير منظِّريها حتى بعد مقتلهم، كما حدث مع «أنور العولقي» الملقَّب بالأب الروحي لتنظيم القاعدة، المسؤول عن عشَرات الحوادث الإرهابية، فعلى الرغم من اغتياله في سبتمبر 2011م، بقي تأثيرُه حيًّا، وتسجيلاته ما زالت تُتابع، وأفكاره تنتشر إلى اليوم، بحسَب صحيفة نيويورك تايمز. 

بصمة التنظيم
حلَّلت الدراسةُ أعداد (صحيفة النبأ) الصادرة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020م، وعددها (14) عددًا، تبدأ من العدد 254 حتى العدد 267، شَمِلَت مضامينُها الداخلية كثيرًا من الرسائل الفكرية، وبيَّنت (البصمة) الخاصَّة بالتنظيم في تلك المرحلة. ومن المهمِّ إدراكُ أن (البصمة) تتجاوز في أحيانٍ كثيرة الرسالة الفكرية المباشرة، إلى أمور أكثرَ عمقًا وتركيبًا، وتتطَّلب دراسة مستفيضة. على سبيل المثال: إن الموادَّ ذاتَ المحتوى المدني تزداد كثافةً في أوقات رخاء التنظيمات الإرهابية؛ كونها تبسُط سيطرتها على مناطقَ واسعة؛ ولديها مجالاتٌ جديدة للعمل والنشاط ضمن مهامِّ إدارة المناطق؛ ويُعَدُّ ارتفاع نسبة الموادِّ ذات المحتوى المدني مؤشِّرًا خطِرًا يجب الانتباه له. 

وقد توصَّلت الدراسةُ إلى عدد من النتائج يمكن إبرازُها على النحو الآتي:

1. المحتويات المدنية  
نظرًا للتراجُع الكبير الذي تعرَّض له تنظيمُ داعش الإرهابي بعد عام 2015م، وضعف نفوذه، وخسارته معظمَ المناطق الواقعة تحت سيطرته؛ شهدت المحتوياتُ المدنية غير العنيفة تراجعًا كبيرًا في مختلِف الإصدارات، ومنها صحيفة النبأ، وخلَت من أيِّ محتويات للمهامِّ المدنية الآتية: فرض النظام والقانون، الحياة الاجتماعية اليومية التقليدية أو الزيارات التفقُّدية، الجوانب التجارية، الجوانب الزراعية، الجوانب الصناعية، الخِدْمات البلدية، الرعاية الصحية.
في حين ظهرت بعضُ مشاهد الدمار والضحايا المدنيين في العدد رقم (265) فقط، وكانت الجوانبُ المدنية ذات الطبيعة الدينية التقليدية، مثل: قراءة القرآن، والصلاة، والمواعظ، منتشرةً في جميع الأعداد محلِّ الدراسة.

2. لغة الخطاب 
تنوَّعت لغةُ الخطاب في الأعداد محلِّ الدراسة على ثلاثة مستويات هي:  

لغة الانسحاب: جاءت في أربعة أعداد من الصحيفة، ومنها التعلُّق بالتاريخ (النوستالجيا) الذي شَمِلَ خطاب الدفاع عن الأفكار، والأفعال، ومحاولة تسويغها، أو احتساب الأجر والتعلُّق بالآخرة، مع أوضاع التراجُع والخسارة، والدفاع عن أفكار التنظيم، وذمِّ الخروج عليه. ومن اللافت للنظر تناولُ شخصية أسامة بن لادن، وتاريخه القتالي في أحد هذه الإصدارات، ويسعى تنظيمُ داعش الإرهابي من وراء ذلك إلى تصوير نفسه على أنه الوريثُ الشرعي لحركة الجهاد العالمية. 
لغة الكراهية: وهي اللغة السائدة في كلِّ إصدارات صحيفة النبأ، وتهتمُّ هذه اللغة بصناعة العدوِّ، والعنف الموجَّه، والرغبة في تغيير العالم، وتدمير الأوضاع الحالية، ويُعنى هذا الخطابُ بتعزيز الكراهية والحقد، واستثمار المظالم ونداءات الانتقام، والحثِّ على العنف الفردي. وهو خطابٌ للتجنيد في المقام الأول، يحاول إشباعَ الحاجات النفسية لدى المتعاطفين، وشَمِلَ هذا الخطابُ العدوَّ القريب والعدوَّ البعيد، إضافة إلى الآتي:
أ‌. الدعاة والعلماء من مختلِف التوجهات: ممن يطعُن التنظيم فيهم، ويلومهم على الفساد، وأطلق عليهم اسم علماء السَّلاطين. وأُفرد مقالٌ مطوَّل في هذا الموضوع في العدد رقم (259). 
ب‌. تنظيم القاعدة: وُجِّهَت انتقاداتٌ كثيرة لتنظيم القاعدة بألفاظ قوية في أغلب الأعداد التي تناولها التحليل، أبرزها وصفُه بالمرتدِّ، ووصف أتباعه بالقطيع، وإظهار قتلى التنظيم.
لغة الفخر: ظهرت في ثلاثة أعداد، وارتبطت في الغالب بتنفيذ عمليات إرهابية قامت بها عناصرُ داعش، وأبدت الفخر بها والاعتزاز.

3. الزمان والمكان
الزمان: ترتبط غالبيةُ الموضوعات الداخلية بأحداث الأسبوع، ما عدا القليلَ منها، كالتي تتحدَّث عن أمجاد قتلى التنظيم وبطولاتهم، ممَّا يؤكِّد قوة الإعلام المباشرة، والقدرة على مواكبة الأحداث.  
المكان: ظهرت أسماءُ المناطق في نطاق جغرافي محدَّد في الغالب. والمنطقة الأكثر ظهورًا في إعلامهم هي العراق، ومناطق أذرُع التنظيم وأبرزها ما يسمَّى ولاية غرب إفريقيا.
وتبرز قدرةُ التنظيم على تحديد المدَّة الزمنية للعمليات التي يقوم بها، والأماكن المستهدَفة؛ كون معظم الأخبار التي تنقلها صحيفة النبأ مرتبطٌ بالعمليات القتالية التي يشنُّها التنظيم.

4. المحتويات العنيفة والقتالية
وتشمل الأعمالَ العسكرية والقتالية للتنظيم، مثل: الاستعدادات في الثُّكْنات، والتدريبات العسكرية بمختلِف أنواعها، ومشاهد الأسلحة والمعدَّات، و(التشكيلات) القتالية والجنود، ثم الاشتباكات والعمليات القتالية المباشِرة وغير المباشرة، وما تخلِّفه تلك الاشتباكات من الغنائم والقتلى والأسرى.

المقاتلون: ظهر مقاتلون رجالٌ في جميع الإصدارات الأربعة عشر محلِّ الدراسة، في حين لم يكن هناك أيُّ ظهور للمقاتلات النساء، أو الأطفال المجنَّدين، كما هو مُتَّبع في إصدارات سابقة، ولا سيَّما قبل عام 2017م. 
تمجيد القتلى: ظهرت مقالاتٌ وقصصٌ تمجِّد قتلى التنظيم في أربعة أعداد، وتصفهم بالشهداء، ومعظمهم ممن انضمُّوا إلى التنظيم من دول بعيدة.
العمليات القتالية: ظهرت العملياتُ القتالية المباشِرة مثل: الاقتحامات، والاشتباكات، وغير المباشِرة مثل: تجهيز الكمائن، والألغام، وتفجير الآلات والمدرَّعات، في جميع الإصدارات (14) عددًا.
الأسلحة والعتاد: معظمُ العتاد المستخدم في العمليات القتالية التي رُصدت في جميع الإصدارات الأربعة عشر، كان أسلحةً خفيفة تُستخدَم في تنفيذ الهجَمات المباشِرة، إضافة إلى العبوات الناسفة.
الإثخان والقتلى: حرَصَت جميعُ الإصدارات (14) عددًا، على إظهار جُثَث القتلى، ومشاهد الآلات المعطوبة والمدمَّرة.
عمليات الاغتيال: أظهرت معظمُ الأعداد محلِّ الدراسة، (12) عددًا، رسومَ «إنفوجراف» لعمليات الاغتيال وتصفية المتعاونين من المدنيين، وعناصر الأجهزة الأمنية والعسكرية من مختلِف الرُّتَب، وأظهرت ثلاثةُ أعداد صورًا للأشخاص الذين اغتيلوا في تلك العمليات.
عمليات التخريب: ظهرت في جميع أعداد التحليل إشاراتٌ لعمليات التخريب التي نفَّذها التنظيم، وأبرزُها تخريب المرافق أو المنشآت، ومن ذلك تفجيرُ محطَّات الكهرباء، وأنابيب النفط، وخطوط الغاز، واستهداف مطارات كابل. ووصفت الصحيفةُ هذه العمليات بأنها حربٌ اقتصادية، وظهرت أيضًا عملياتُ تخريب منازل مدنيِّين ومزارعهم.
التحريض على العنف الفردي: تضمَّنت الموادُّ المنشورة إشاراتٍ مباشرةً للتحريض على العنف وتنفيذ عمليات فردية، وذلك في (3) أعداد، ونصائحَ في كيفية تنفيذ العمليات بالموارد والإمكانات المتاحة.

ختامًا
أظهرت نتائجُ الدراسة التي أُجريت على صحيفة «النبأ» التابعة لتنظيم داعش، في الربع الأخير من عام 2020م، وتضمَّنت 14 عددًا، أنها اشتملت على عدد كبير من المضامين العنيفة، الممزوجة بالجوانب العقيدية والفكرية؛ التي تُضفي الشرعية على عملياتها الإجرامية، مُستخدمةً خطاب الكراهية تجاه كلِّ الأطراف التي تُعاديها، ومنها الحركاتُ الإرهابية المنافسة. في حين غاب المحتوى المدني بسبب تراجُع التنظيم إلى المربَّع الأول في حرب العصابات، دون أن تكونَ له مناطقُ سيطرة كما في الأعوام التي سبقت عام 2017م.​