​يُقصَدُ بمصطلح الوصاية الفكرية، الحجرُ الفكري الديني الإسلامي (تحديدًا) من قِبَل قادة التطرف العنيف، وهيمنتهم على عقول الآخرين وفكرهم، وفق ما يرونه نصًّا مقدَّسًا تاريخيًّا وتراثيًّا، أو تأويلًا لنصوصٍ ودلائلَ من المصادر المعتبرة. والوصاية الفكرية كما يعرِّفها نزار يوسف في كتابه (الوصاية الفكرية) هي: «تحديد أفكار وآراء وعقائد وأيديولوجيات معينة، تُفرَضُ من قِبَل جهة ما على شريحةٍ معينة من الأشخاص للتعامل معها وبها حصرًا».

وهذا هو الواقع الفكري الذي تقوم به جماعاتُ التطرف العنيف تجاه كل مَن يتم استقطابه وتجنيده، حتى المتعاطفون معهم يستلبون فكرهم، ويفرضون عليهم فكرهم التطرفي، فيصبحون على قناعة بتلك الأفكار المستجَدَّة، وبما يمارسونه فكرًا وسلوكًا، ويقولون بقولهم، ويؤيدون أفعالهم العنيفة، أو يلتمسون لهم العذر. وسلاحهم في هذا الصَّدَد اللعب على وتر العواطف الدينية بمعطياتها المشوقة لنفوس المسلمين، بالعبارات العاطفية: تطبيق الشريعة، إعادة الخلافة الإسلامية، وقف نهب الكفار ثروات الديار الإسلامية، ... وهكذا، لإدراكهم بالقوة التأثيرية لها في إثارة المشاعر، وإلهاب الحماسة، ولا سيَّما إذا ما وُجِدَتْ المواقف الانفعالية التي تثير ما يُسمَّى بـ (الغضب العاطفي والأخلاقي).

ولهذا؛ فإن العَلاقة بين التأثير العاطفي والوصاية الفكرية هي عَلاقةٌ ارتباطية؛ بل العاطفة هي أهم الوسائل في الوصاية الفكرية. ذلك لأن العاطفة هي التي تسمح للوصاية بالهيمنة على عقل الإنسان والتحكم به وتعطيله لمصلحتها، والمنطق العاطفي في غالب الأحوال هو الذي يطرح منطق التسليم دون تفكير أو نقاش أو اعتراض، (الجانب العاطفي يستبعد في حيثياته أي حضور للمنطق والعقل)، وهو منهج خطِر جدًّا، ومبلغ خطره يتمثَّل في إلغاء العقل والمنطق الفكري، والنظر إليهما على أساس أن لا حاجةَ إليهما أبدًا. وهذا يؤكِّد أن الوصاية الفكرية تحجُر على العقل وتضع عليه أقفالًا، لكنها أقفال يمكن فتحها إذا وُجِدَ المحترفُ الذي يعرف المداخل إلى الموصى عليه وطرقها، فيحطِّمَها.

وبالنظر إلى القاعدة الفكرية لدى أغلب هؤلاء الشباب المتطرفين فكرًا وسلوكًا، أو فكرًا فقط، فإنه يُلاحظ أنها ضعيفة وهشة، والغالبية العظمى منهم يعانون فراغًا فكريًّا، وضعفًا في التأهيل العلمي، أو على الأقل لديهم ضبابية في المنهج، وقلق معرفي، وارتباك فكري. لكنها الوصاية الفكرية التي يُمارسها عليهم قادة فكر التطرف والتكفير ومنظِّروه، والتي يجري بها إضلالهم، والحدُّ من طلاقتهم الفكرية، والسعيُ إلى إذابة معالم شخصياتهم أمام الوصي الذي قد يكون شخصًا أو جماعةً أو تنظيمًا أو مجموعةَ أشخاصٍ تجمعهم عَلاقة تنظيمية فكرية تطرفية، أو غرفة في السجن، أو في مركز إعادة التأهيل والإدماج، أو مناطق الصراع، أو حتى في أحد مكوِّنات البيئة الاجتماعية، أو البيئة الافتراضية. هذه الوصايةُ تفلح في جعل فئة كبيرة من هذا النوع من المستهدَفين أكثر انقيادًا لما تُمليه عليهم الوصاية، والدفع بهم نحو الاتجاه الذي حدَّدته لهم؛ بل التمحور حوله، ومن ثَم يصبح تفكير الوصي وسلوكه من المسلَّمات المقدَّسة عندهم.

لذلك نجد أثر الوصاية في الكثير من هؤلاء الشباب المتطرفين فكرًا وسلوكًا، يتمثَّل في الإيمان الكامل بما يمليه الوصي أو يقوله من معلومات أو أفكار أو توجيهات، ومن ثَم فإن محاولة تفنيد أيٍّ من ذلك أو تصحيحه أو إسقاطه من الاعتبار، أو التشكيك في صحته، يُعدُّ بمنزلة الكفر والإلحاد؛ لأن الوصاية تلغي الحقَّ لأيِّ فرد من هؤلاء في الاختيار، كما تشلُّ القداسة الفكرية عقولهم عن التفكير، مما يجعلهم مجرد آلةٍ مبرمَجةٍ تعتقد وتنفِّذ ما يُراد لها تنفيذه. ويكون ذلك أكثر وضوحًا في حال الاختلاط فيما بين السُّجناء من الاتجاه الفكري نفسه، إذ يصبح بينهم ارتباط عاطفي، يعوِّض ما قد يكون مفقودًا عندهم أو عند أحدهم، ذلك أن الفقر العاطفي كثيرًا ما يتوافر لدى السجناء،  ويتضح خطره النفسي في التخدير العاطفي عند السجين كالتنويم المغناطيسي.

اللافت في هذا الأمر أن فئة الشباب الذين يرتضون الوصاية الفكرية عليهم قد يستشعرون خطر تلك الأفكار التطرفية التي أمْلَتْها الوصاية الفكرية عليهم أنفسهم وعلى مجتمعهم، لكن يرفضون مناقشتها أو تبديلها، بالنظر إلى أنها مقدسة لا يجوز المساس بها، حتى وإن كانت من الموروثات، وليست نصوصًا شرعيةً؛ لأن الوصي المكتسِب للمصداقية والقدسية في اعتقادهم تحدَّث بها، ومن ثَم يعطِّلون إعمال العقل النقدي فيها، وفي سياقها التاريخي، ومدى مصداقيتها، وتوفُّر ما يدعمها تاريخيًّا، ومما قاله عنها العلماء المعتبرَون؛ وهذه الفئة من الشباب يَصُمُّون آذانهم بفعل تأثير الوصي دون الكثير من الحقائق بما فيها الدلائل النصية، وربما ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾. (سورة البقرة، الآية: 170).

وترتكز الوصاية الفكرية على عناصر عدة؛ وهي:

  1. الأوصياء الفكريون: نخبةٌ سلطوية، لديها أفكارها ورؤاها الأيديولوجية، يسعون لأن يقنعوا بها كلَّ أفراد المجتمع أو بعضهم، للإيمان بها، والتسليم بصحتها، والخضوع لاتجاهاتهم وتوجهاتهم. وهؤلاء الأوصياء يمنحون أنفسهم سلطة الإكراه المادي والمعنوي، وليس أمام الآخرين سوى قبول هؤلاء الأوصياء وفكرهم، والتمحور حولهم، فبعقول الأوصياء يفكرون، وبعيونهم يبصرون، وبآذانهم يسمعون؛ ليس ذلك فحسب وإنما ينسجون أسوارًا فكريةً يحجُرون عقول الآخرين خلفها، ولا يسمحون لهم بالخروج العقلي منها، فتُمنع قراءة أي كتاب أو سماع أي خطاب بخلاف ما يقرِّره الأوصياء. وهؤلاء الأوصياء الفكريون يُحِلُّون لأنفسهم أي شيءٍ يرونه مناسبًا ويحقِّق مصالحهم، ويدمِّر كلَّ مَن يقف أمام تحقيق ذلك، لذلك لا يتردَّدون في تصفية خصومهم السياسيين والدينيين، حتى مَن كان معهم بالأمس القريب أو يتلاقى معهم فكرًا ومنهجًا، لكن تعارضت مصالحهم (تنظيما القاعدة وداعش نموذج واضح لصراع المصالح فيما بينهما).
  2. الموصى عليهم: فئةٌ من أفراد المجتمع يفوِّضون فئةً من الناس لإدارة شؤونهم الفكرية، أو لا يمانعون في ذلك؛ بل يسمحون بالتحكم فيهم عقلًا وجسدًا. هذه الفئة في الأساس عندها خَواء فكري، أو هشاشة فكرية، من السهل أن تنطليَ عليهم الأفكار التي تُحشى بها عقولهم، ولا سيَّما إذا كانت آتية من شخصيات كرزماتية. هذه الفئة من الناس تتصفُ شخصياتهم بالانقيادية، والتبعية، وعدم المواجهة، وسرعة التأثر العاطفي. كما أن بعضهم يكونون في حاجة إلى الانتماء إلى جماعة معينة أو فئة من الناس، وفي الغالب يرحِّبون بالانضمام لتلك الجماعة القوية التي ينضوون تحتها، ويذوبون فيها، ويتمحورون على عقائدها، وينسجمون مع توجهاتها. ولوجود الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية أثر كبير في صناعة هذه الفئة من الشباب، التي تدفع بها للهروب منها إلى الحِضن الذي يحتمل أن يكون فيه حلُّ تلك المشكلات، أو الشعور بالأمن فيه، أو تسهيل تنفيذ الرغبات النفسية بتعدداتها الانتقامية، والجنسية، وتحقيق الذات، ... إلخ.
  3. محتوى الوصاية: الموضوع الفكري الذي يُفرض وتُحشى به عقول الموصى عليهم، وهو الوعاء المعلوماتي النظري والإطار الفكري الذي تقوم عليه الوصاية الفكرية، وتتمثل في الدعاوي والخطابات الفكرية التي يطلقها الوصي، في سياق عرض الأدلة الإقناعية ظاهريًّا، لكنها تنطلي على ذوي الضحالة الفكرية، ولا سيَّما عندما يجري التسويق لها بما يثير المشاعر لقضايا تهمُّ كلَّ مسلم، أو تهمُّ الشباب أنفسهم، كالدندنة على تهميش دورهم، وعدم الاكتراث بذواتهم، وإشاعة الوعود بتحقيق طموحاتهم، والكثير من أماني التعظيم التي تُشبع لدى هؤلاء شعورهم بذواتهم وأهميتها. مثل هذه الدعاوي تمكِّن الأوصياء من التأثير في الشباب، ولا سيَّما مَن يتصفون بفقد الثقة في النفس، ومن ثَم السيطرة عليهم فكريًّا، وممارسة الوصاية عليهم بكلِّ أشكالها وصورها.

يدرك الأوصياء أهميةَ الرسالة التي يرسلونها للفئات المستهدفة من الشباب، لذلك يجري التخطيط لها جيدًا، من ناحية القوة التأثيرية لمضامينها، ومن حيث وسيلةُ الاتصال الفاعلة، ولهذا أبدع تنظيم داعش في استقطاب الشباب؛ لأنه تحدَّث معهم باللغة التي يفهمونها، وبالوسيلة ذاتها التي يعشقونها ويجيدونها (التقنيات الحديثة)، ولذلك لم تكن ضحاياهم من الفئات المهمَّشة فحسب؛ وإنما استهدفت شبابًا متميزين، ومختصين، وربما عباقرة، وتحديدًا في وسائل التقنية الحديثة. وما ذلك إلا نتيجة مضامين الرسائل التي تعطي الشباب إجاباتٍ وحلولًا سهلة لجميع الأمور، وتوافق كثيرًا ما تهواه الأفئدة حتى وإن كانت فارغة. فكان لتلك الرسائل الوصائية لقادة ومنظري فكر التطرف العنيف وقعًا وأثرًا قويًّا وجاذبًا لهؤلاء الشباب.

ومن هنا، فإن وصول الأوصياء فكريًّا إلى تحقيق أهدافهم، وتجنيد الكثير من الأتباع، ثُمَّ ممارسة الوصاية الفكرية عليهم، لم يكن ليتحقَّق إلا حينما وجدوا أن في المجتمع فئاتٍ هشةَ الفكر والعلم، وهشةَ المشاعر والعواطف، ومصابةً بعمى البصر والبصيرة الفكرية، فكان أن سارت خلف الأوصياء عقلًا وفكرًا، وروحًا وجسدًا، تؤمن بما يقولون. وإن قادة فكر التطرف العنيف، وهم يمارسون الوصاية على أتباعهم، إنما يستهدفون بصورة مباشرة المكوِّن العقلي لهم، أي: القوى الإدراكية التي تتضمَّن الوعي، والمعرفة، والتفكير، في تناغم مع تعطيل فكرة الجدال والنقاش والحوار مع هؤلاء الموصى عليهم؛ لذلك هم يحتكرون هذه المعارف والمهارات؛ لإدراكهم أن استمرارهم في ممارسة الوصاية الفكرية إنما يكون باستهداف حقلَي العقل والنقاش؛ فلا وصاية فكرية من دون تحجُّرٍ عقليٍّ وقفل باب النقاش والجدال.

وفي هذا السياق الكارثي يعرض «نزار يوسف» في كتابه «الوصاية الفكرية» عددًا من الحقائق على النحو الآتي:

  1. الوصاية الفكرية تلغي في مضمونها مبدأ التعددية الفكرية والثقافية في المجتمعات التي توجد أو تنمو فيها، حيث يُصبغ المجتمع أو الجماعة أو الفئة الرازحة تحت نيرانها أو الراضية بها، بصبغة وسمة عقلية وفكرية واحدة متجانسة، تشمل جميع الخاضعين للوصاية.
  2. الوصاية الفكرية تُعطِّل العقل ضمن معاييرَ تتراوح بين الجزئية والكلية. ففي المعيار الأول يتم إعمال العقل وتحريكه والخروج منه بمقررات فكرية معينة، ولكن ذلك بمجمله ضمن مجال أو نطاق محدد (التمحور حول الوصي). والمعيار الثاني يُعطل فيه العقلُ تعطيلًا كليًّا، باعتماد الأباطيل والضلالات على نطاق واسع وضمن قوالب فارغة أو مزيفة.
  3. الوصاية الفكرية تَعُوق العقلَ والفكر عن كشف مواطن الخلل والخطأ، وإدراك ضعف المنهجية العقلانية، وقابلية التنفيذ العلمي لأية أفكار وآراء منطقية.
  4. الوصاية الفكرية تتَّخذ منحًى عاطفيًّا غريزيًّا في العقل البشري، يحيل الإنسان إلى حالة من النكوص عن حلِّ أي قضية أو معضلة مادية يصطدم بها، وتقتل كل إرادة فيها لتلافيها وتجاوزها.
  5. الوصاية الفكرية تحمل في طيَّاتها بذورَ نفي الآخر الذي يفكر تفكيرًا مختلفًا. وهي بذور تجد لها مَنبتًا خِصبًا كلما اشتدت شمولية الوصاية الفكرية وازدادت سيطرتها على أتباعها، في عَلاقة تبادلية تتناسب طردًا مع ازدياد جهل أولئك الأفراد، ونقص وعيهم، وقلَّة مدركاتهم العقلية بالتحليل والمحاكاة.
  6. الوصاية الفكرية تأخذ في ذاتها بواطن الضعف والخوف من الآخر. والضعف لناحية المنطق والمعقولية، كالخوف من كشف ذلك الضعف ثم الطعن به، مما يؤدِّي إلى إلغاء المنفعة المتحصِّلة لأصحابه والقائمين عليه.

ولذا، نؤكِّد أن الوصاية الفكرية تستند إلى أسس معيَّنة من الهيمنة والتسلُّط وفرض الرأي واعتبار الطرف الآخر غير مهيَّأٍ للتصرف من تلقاء نفسه في أموره، ويجب قيادتُه وتسييره. وهو هنا غير مخيَّرٍ في قَبول أو رفض مبادرة الوصاية؛ بل يقبلها حصرًا ولا خِيار له غير ذلك. ومن ثَم فإن هذه الهيمنة الفكرية التي يمارسها قادة تنظيمات فكر التطرف العنيف تنطلق من تلك الأسس؛ بل إنها تصل إلى مرحلة، يمكن تسميتها بالعبودية الفكرية، التي تُعدُّ أعلى أشكال الوصاية الفكرية، ومرحلة متقدِّمة من مراحلها؛ لأن الوصاية الفكرية مصطلحٌ متدِّرج يبدأ من أدنى درجات الودية والحرج الفكري ذي الدافع العاطفي في اتباع فكرة معينة مفروضة، وينتهي بأقصى درجات الفرض الفكري الذي يتمثل في القتل والإبادة وسفك الدماء لمجرَّد القول برأي أو بقول مستقل منفصل. ذلك أن العبودية الفكرية تطرح في آثارها ونتائجها أسسًا واضحةً للجمود الفكري الذي قد يتجلَّى في الأفعال والتصرفات الإنسانية في المجتمع والحياة العامة.

وبهذا، يتأكد أنه إذا ما تم إدراك كارثية الوصاية وتأثيرها السلبي في تعطيل كلِّ برنامج إصلاحي، كان ذلك الخطوةَ الأولى لعلاج المشكلة من جذورها. وهذا يتطلَّب تحديد هؤلاء الأوصياء، للوصول إلى مركز التحكم في عالم هؤلاء الشباب، وقطع الطريق أمام ضلالات هذا الوصي الذي تلبَّس بلبوس الخير والصلاح، والقدرة على انتشال ضحايا الوصاية الذين جرى استقطابهم نفسيًّا وعاطفيًّا. وكذلك القدرة على زرع روح التحرير أو التحرُّر الدائم في قلوب هؤلاء الشباب، والدفع بهم باتجاه رفض كل تلك الأفكار الصمَّاء، التي تُملى عليهم دون مناقشة، تحت تأثير الطاعة العمياء.

على أنه من المهم لفتُ النظر إلى أنه ليس بالضرورة دائمًا توقفُ علاج مشكلة الوصاية على وجود الأوصياء تحت أيدي جهات إعادة التأهيل أو المختصين بتعديل فكر التطرف العنيف، فمنهم من قد يكون كذلك، ومنهم من ليس كذلك، كجماعات ومنظمات التطرف العنيف الخارجية، أو تلك التي توجد في مناطق الصراع، أو تلك التي تمارس وصاياها من بعد. إنما الأهم، هو الإحاطة المعرفية والعلمية الكاملة عن هؤلاء الأوصياء، وعن اتجاهاتهم وميولهم وأهدافهم، للتمكن من رسم خطط الفصل الفكري علميًّا بين الأوصياء والأتباع من هؤلاء الشباب المتطرفين، بممارسة العديد من الأساليب المنهجية المتنوعة التي يقوم عليها العلماء الدينيون والمختصون في العلوم المختلفة ذات العَلاقة بالفنيات التعديلية؛ بل يجب عدم التوقف عند الفصل الفكري فحسب، وإنما هدم وتدمير أفكار ومنطلقات الأوصياء ذاتها.

وهؤلاء العلماء المختصون هم الأقدر على هدم وتدمير فكر الأوصياء، وتحرير الموصى عليهم من فكر التطرف العنيف، وذلك باختراق فكرهم والنفاذ إلى جذوره وإبطاله، وصولًا إلى تحرير عقول الشباب من تلك الأفكار، وإطلاق سراحها من الأسر والوصاية الفكرية للقيادة التطرفية. ولكي يُحدِث المختصون بتعديل فكر التطرف العنيف اختراقًا في عقلية الفكر التطرفي عليهم أن يتبعوا -إلى حدٍّ ما- نفس وسائل قادة فكر التطرف في اختراق الأفكار التطرفية العنيفة، دون ممارسة دور الوصي عليهم، إنما لتحرير عقل الشباب وفكرهم، ليصبحوا ذوي فكر نيِّر وسطي، وغيرَ خاضعين لأيِّ سيطرة وتحكم توردهم المهالك. 

وهذا الأسلوب الاختراقي، يمثِّل أحد أهم تقنيات التعديل الفكري، بالنظر إلى أن تعديل فكر التطرف هو محور عملية إعادة التأهيل والإدماج. ولهذا السبب تبنَّت الكثير من الدول إستراتيجية المعالجات الفكرية، التي حققت نجاحًا مهمًّا ومشجعًا في مجال تعديل فكر الشباب الذين انضمُّوا إلى قافلة التطرف العنيف، باعتبار أن هذه المعالجات هي في حقيقتها مشروعات استصلاحية، يُعاد بها تأهيلُ المتطرفين فكريًّا إلى أن يكونوا أكثر إدراكًا ووعيًا بتلك الأفكار التي اعتنقوها أو دُفع بهم إلى اعتقادها وتبنِّيها من قِبَل قادة جماعات الفكر المتطرف العنيف ومنظِّريهم، ولكي يكونوا أكثر قدرةً استبصاريةً على الاختيار الصحيح، ونبذ كلِّ الأفكار المنحرفة.​