​​في التطرف والغلوِّ خروجٌ على التعاليم الدينية، والقواعد الفكرية، والقيم الأخلاقية، والمعايير الاجتماعية، والأساليب السلوكية الشائعة في المجتمعات. وقد عرَّف المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في الأول من مارس 2020م التطرفَ بأنه: تبنِّي الفرد مواقفَ متشددةً في مواجهة بعض القضايا الاجتماعية التي يهتم بها. ولا يمكن إرجاعُ ظاهرة العنف إلى عامل واحد أو سبب فرد؛ بل لا بدَّ من فهمها في سياق تركيبها وترتيبها، ودراسة جميع العوامل المؤثرة فيها، سواء كانت العواملُ سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو ثقافية أو دينية.

التزامن والأثر
إن التأثير الفكري للمحتوى الإلكتروني المحرِّض على العنف والكراهية لا ينبغي تجاهله البتَّة، فمنذ ثمانينيات القرن الميلادي الماضي وشبكة الإنترنت تُؤثِّر تأثيرًا قويًّا في تغيير المجتمعات، وكذلك وسائلُ التواصل وقنوات الإعلام الجديد، ولا سيَّما بعد وصول عدد مستخدميها إلى أكثر من 4,3 مليار مستخدم في شتَّى أنحاء العالم. وقد فرضت مواقع التواصل الاجتماعي نمطًا جديدًا في التواصل له الكثير من الخصائص الجديدة المبتكَرة؛ كتِقنيَّات إخفاء الهُويَّة الحقيقية للمستخدِم، والتواصل السريع العابر للحدود، ونقل الرسالة إلى عدد غير محدود من الجماهير.

ومع بداية العِقد الثاني من الألفية الثالثة، أصبحنا نتحدث عن عولمة التطرف العابر للحدود، الذي يسعى إلى الانتشار والتأثير بقوة. وتُثبت الوقائع تاريخيًّا أنه لا يخلو دينٌ ولا مذهبٌ من أشخاصٍ متطرفين، أو من جماعاتٍ متطرفة، تتشابه في أنماط التفكير والسلوك. وقد صار التطرفُ والإرهاب مكوِّنين متكاملين في صياغة مجتمع الكراهية والصراع والصدام، وأصبح هذا التكامل تهديدًا مستمرًّا للسِّلم والأمن والاستقرار في جميع البلدان، لا يكاد يُستثنى منها بلد. 

والتطرف الإلكتروني وَفقًا لكتاب «مجتمع المعلومات» الصادر عن الاتحاد الدَّولي للاتصالات سنة 2010م يشمل الأنشطةَ التي توظِّف شبكة الإنترنت، والهواتف المتنقلة المحمولة، والخِدْمات الإلكترونية، في نشر الموادِّ المغذية للتطرف الفكري عمومًا، والمحرِّضة على العنف خصوصًا، واستقبالها وإنشاء المواقع والخِدْمات التي تُسهِّل انتقالها وترويجها، سواء كان المتبنِّي لها أو المشجع عليها أو المموِّل لتنفيذها وتوسيع ترويجها تيارٌ أو جماعة أو فرد. وقد امتلأ الفضاء السيبراني، ولا سيَّما وسائلِ التواصل الاجتماعي بالمواد المصوَّرة والمقروءة والمسموعة ذات المحتوى الديني الذي يخلط الأسس الدينية الصحيحة بالمغلوطة، وصولًا إلى الغلوِّ والتطرف والتكفير. ومن أكثر هذه التنظيمات تطرفًا واعتمادًا على هذه التقنيات تنظيمُ داعش الإرهابي الذي اختار إستراتيجية إعلامية لا مركزية. 

ويُؤكِّد الدكتور جاد ملكي رئيس قسم الإعلام في الجامعة اللبنانية الأمريكية (LAU)، في مقاله المنشور في شهر مايو عام 2019م، أن سياسة تنظيم داعش الإعلامية تستند إلى الاستقطاب الجماهيري، وقرصنة الوسوم (الهاشتاغات)، والتطبيقات، وبرامج الحوار (الدردشة)، وما يسمَّى (روبوت الويب bots) المعدَّة محليًّا. ولا يكتمل مشهد التطرف والإرهاب إلا بعامل السرعة، فالسرعة والخُلسة تميِّزان الإنتاجَ الإعلامي لتنظيم داعش ونشرَه بعد ذلك. فإن السلوك الإعلامي لهذا التنظيم الذي رافق التفجيرات الانتحارية في 14 نوفمبر 2015م التي استهدفت العاصمة الفرنسية باريس، وأسفرت عن مقتل 127 شخصًا و8 من المتطرفين، دلَّ على عمل إعلامي منسَّق ومعَدٍّ سابقًا، وهذا يجلِّي التزامنَ بين العمليات المنفَّذة والتواصل الإعلامي في المشهد الإرهابي.

الإعلام أكسجين الإرهاب
يرى مؤلفا كتاب «الإرهاب العالمي ووسائل الإعلام الجديدة، جيل ما بعد تنظيم القاعدة» الصادر عام 2010م أن الإعلام هو أكسجين الإرهاب الذي يتنفَّسه. لذلك فإن السؤال عن حال الرقابة الإلكترونية وسبل مكافحة هذه الظاهرة إقليميًّا ودَوليًّا، ولا سيَّما في الدول المتضررة من التطرف والإرهاب، أصبح ضروريًّا. فما تبثُّه مواقع التواصل الاجتماعي لأخبار هذه المنظمات المتطرفة ونشاطاتها يعطيها الدعايةَ والاعتراف والمشروعية والترويج. 

ومن أخطر التهديدات التي يُروَّج لها في الإعلام الجديد، الجريمة المنظمة في مناطق الصراع، والمقاتلون الإرهابيون الأجانب، والذئاب المنفردة، والاعتداءات الإرهابية باستخدام المتفجرات والموادِّ الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، مما يسفر عن نتائجَ كارثيةٍ في المجتمعات والدول المختلفة. وبهذا يتضح سببُ ترك عشرات بل مئات الشباب مجتمعاتهم في الدول النامية والمتقدِّمة، قاصدين بؤرَ الصراع المحتدم في سوريا والعراق وليبيا وغيرها؛ للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية وتنفيذ الاعتداءات، بعدما نجحت تلك التنظيمات في زرع ثقافة التطرف وأفكار الغلوِّ في نفوسهم.  

إن سلسلة الاعتداءات الإرهابية التي نُفِّذت على مدار العِقدَين الماضيين؛ كأحداث بُرجَي التجارة العالميين في مدينة نيويورك الأمريكية بتاريخ 11 سبتمبر عام 2001م، وتفجيرات 14 نوفمبر في العاصمة باريس، والاعتداءات التي وقعت على جسر لندن في بريطانيا عام 2017م، والهجوم على مجمَّع فنادق في نيروبي في شهر يناير عام 2019م، دفعت جهاز الإنتربول إلى تفتيش شبكات التواصل الاجتماعي بحثًا عن أدلة توصل إلى من شاركوا في هذه الاعتداءات، بالاعتماد على أدوات تحليل وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها تقنيات تحديد سِمات الوجه التي توفر إمكانات جديدة لتعميم البيانات ومقارنتها، من أجل كشف الإرهابيين والأشخاص المجهولي الهُويَّة الخطِرين، والأفراد الذين قد يظهرون في منشورات في شبكات التواصل الاجتماعي.

واستكمالًا لحلَقات العمل أصدر الإنتربول ومركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب سنة 2019م، كُتيِّبًا بعنوان: «استخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في التحقيقات المتصلة بمكافحة الإرهاب»، يزوِّد المحقِّقين بإرشادات عملية مفيدة، عن أفضل السبل لاستخراج الأدلة الإلكترونية المجدية في التحقيقات، وجمعها وحفظها. وغالبًا ما تُحال تلك الأدلة عبر الحدود الدَّولية؛ من أجل الإسهام في نجاح التحقيقات والملاحقات القضائية. وقد كان تمويل المشروع من حكومات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليابان.

وبسبب الحضور الكبير الذي حقَّقه تنظيم داعش الإرهابي في العالم الرَّقْمي، اضطُرَّت الحكومةُ الأمريكية والدول العربية إلى إعادة التفكير في نهج مواجهة التنظيم الإرهابي في العالم الافتراضي، فأطلقوا عددًا من المبادرات العربية، إحداها أطلقها مركز «صواب» الإماراتي في عام 2015م، وشعارها (متَّحدون ضد التطرف)؛ لدعم جهود التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في مواجهة التنظيم، بميزانية تبلغ ستة ملايين دولار، وعزَّز هذا المشروع تبادلَ المعلومات مع منظمات الشرطة الدَّولية عند إبلاغ أحد أفراد الأسر عن قريب متورِّط بالإرهاب، وَفقًا لتقرير مؤسسة CRS البحثية التابعة للكونغرس الأمريكي.

وفي عام 2017م أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبادرةً جديدة مع ملك المملكة العربية السعودية سلمان بن عبد العزيز آل سعود، بإنشاء المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف، ووضع ترامب آنذاك مسؤولية مكافحة التطرف وتعزيز الإسلام المعتدل على كاهل الحلفاء العرب؛ المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر. كذلك توصل البرلمان الأوروبي في 11 ديسمبر 2020م إلى اتفاق مؤقَّت يُعطي الحقَّ للسلطات الوطنية في إصدار أوامرَ للمِنصَّات لإزالة المحتوى أو تعطيل الوصول إليه، في جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 27 دولة، في غضون ساعة واحدة من تلقِّيهم أمرَ الإزالة. وتشمل مضامينُ النشر في الإنترنت التسجيلاتِ الصوتيةَ، والمقاطع المرئية، التي تحرِّض على ارتكاب جرائمَ إرهابية، أو توفِّر تسهيلات لارتكابها.

وفي البيان الختامي للقمَّة الخليجية الحادية والأربعين التي أقيمت في محافظة العُلا في المملكة العربية السعودية بتاريخ 5 يناير عام 2021م، وردت فِقراتٌ تتعلَّق بمكافحة الإرهاب، ومنها: 

  1. تأكيد قرارات مجلس التعاون الثابتة تجاه الإرهاب والتطرف أيًّا كان مصدره، ونبذه لجميع أشكاله وصوره، ورفضه لدوافعه ومسوِّغاته، والعمل على تجفيف مصادر تمويله. 
  2. الإشادة بجهود التحالف الدَّولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في ملاحقة قيادات تنظيم داعش الإرهابي الذي عمل على تشويه الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين، مع تأكيد استمرار دول المجلس في جهودها الحثيثة مع حلفائها في محاربة الإرهاب والتصدِّي للفكر الإرهابي.

المكافحة الإلكترونية 
تعتمد شركات التواصل الاجتماعي الكبرى على استخدام العمليات الآلية لكشف المحتويات على مواقعها، والإبلاغ عنها، وإزالتها عند الحاجة، وتستخدم كلُّ شركة أنواعًا مختلفة من العمليات الآلية، وذلك وَفقَ ما أوردته «مجلة فوربس» في عددها الصادر في 20 من سبتمبر 2018م بعنوان: الحرب على الإرهاب في الإنترنت. ويُستخدَم في (فيسبوك) التعلُّم الآلي؛ لتقييم المنشورات التي قد تتصل بدعم تنظيمي داعش والقاعدة، وتؤدِّي هذه الأداة إلى احتمال خرق أحد المنشورات لسياسات موقع فيسبوك المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وتساعد فريق المراجعين. ووَفقًا لمدير سياسة مكافحة الإرهاب في فيسبوك، فإن الشركة بدأت تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليص المدَّة الزمنية التي تظهر فيها الحسابات الإرهابية. أما موقع (تويتر) فيُعتمَد فيه على التحديد الاستباقي للحسابات والسلوكات التي تنشر تغريدات إشكالية على موقعه.   

وفي عام 2018م أعلن (يوتيوب) في منشور له أن الآليات تسمح له بالإبلاغ عن المحتوى لمراجعته على نطاق واسع، مما يساعدُ على إزالة ملايين مقاطع الفيديو المخلَّة بالشروط قبل أن يشاهدَها أحد. 

وفي الختام نقول: إن التطرف الإلكتروني ظاهرةٌ مدمِّرة، تستهدف الشعوبَ والحضاراتِ والقيمَ والمبادئ والبُنى التحتية في كثير من دول العالم. وتبرز أهمية تعزيز الإستراتيجيات لمكافحته على مستوى الدول والمنظمات الإقليمية والدَّولية، وتفعيل الآليات الخاصَّة بكلِّ إستراتيجية، والتعاون والتنسيق الدائمَين في هذا المجال؛ للوقوف على نتائج المراحل التي حقَّقَتها تلك الإستراتيجيات، وتقييم كلِّ مرحلة، ومعالجة الثُّغرات التي اعترضتها، وإدخال التعديلات الضرورية عليها، وصولًا إلى تحقيق الهدف المنشود. 

مع أهمية الاستفادة من أفضل الخطط التي نجحت في مجال مكافحة التطرف في دول أخرى، وضرورة فهم ظاهرة التطرف والعنف فهمًا دقيقًا وعميقًا، قبل اعتماد صياغة تلك الإستراتيجيات أو تعزيزها، وذلك يسهم في اجتثاث هذه الظاهرة من جذورها.