​عند الحديث عن المنظَّمات والمؤسسات الدَّولية، يتبادر إلى الأذهان أسئلةٌ عن نشأتها، ومحدِّدات سياساتها، ووسائل التأثير واتخاذ القرارات لديها، والصورة الذهنية المنتشرة عنها، وغير ذلك من الأسئلة الحاضرة والملحَّة.


النشأة والمحدِّدات

تنشأ المنظمةُ الدَّولية لأسباب شتَّى، منها أن تقعَ أزمةٌ سياسية أو اقتصادية أو صحية في العالم، أو في أحد الأقاليم، فتبادرُ دولة أو حكومة أو مجموعة دول باقتراح إنشاء مؤسسة أو منظمة لمواجهة هذه الأزمة. وغالبًا ما يكون الهدفَ منها تحقيقُ مصلحة عالمية، وفي بعض الأحيان تحقيقُ مصالحَ خاصة للدولة أو الحكومات التي تبنَّت فكرة إنشاء المنظمة. وتسعى كثيرٌ من المنظمات أو المؤسسات الدَّولية أو الإقليمية القائمة في وقتنا ‏الحالي إلى تحقيق مصالحِ دول محدَّدة، وتكون وسيلةً لفرض هيمَنتها وسيطرتها أو رؤيتها وتوجُّهها على بقية الدول المشاركة في تأسيس المنظمة. 

أما محدِّداتُ السياسة العامَّة للمنظمات، ووسائلُ التأثير واتخاذ القرارات فيها، فتضَعُها الدولُ المؤثِّرة ذات السَّبق في تأسيس المنظمة، ولذلك تحقِّق المنظمة مصالحَ هذه الدول قبل غيرها، وتتجنَّب الإضرار بها وَفق خطَّة العمل، وطريقة اتخاذ القرارات التي تخضع لقوة التأثير. 

المنظمة الأم
من أهمِّ أهداف إنشاء أي منظمة تكوينُ صورة ذهنية إيجابية عن الدول المؤسِّسة لها والمشاركة في عضويتها، والأممُ المتحدة خير مثال لحديثنا عن المنظمات، فهي المنظمةُ الأم لكلِّ المنظمات والمؤسسات الدَّولية والإقليمية، وهي أهمُّ المنظمات وأكبرها ‏في العالم، سواءٌ بعدد الدول الأعضاء وعدد موظفيها، أو بحجم ميزانيتها السنوية، أو بأهمية القضايا والشؤون التي تعالجها.

وقد وُلدت فكرةُ إنشاء منظمة أممية ‏بعد الحرب العالمية الأولى، فأُنشئت عُصبة الأمم، وبعد الحرب العالمية الثانية تطوَّرت الفكرة وتوسَّعَت إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة؛ لتحقيق السلام العالمي والحفاظ عليه، وتجنُّب نشوب حرب عالمية ثالثة. فقام المنتصرون في الحرب العالمية الثانية بإنشاء مجالس الأمم المتحدة وهيئاتها، ووضعوا خُطَط عملها وسياساته، وعلى رأسها مجلسُ الأمن، وسمُّوا أنفسهم أعضاءً دائمين فيه، ولهم حقوقٌ مختلفة عن سائر الأعضاء؛ بامتلاكهم حقَّ النقض «الفيتو» لقرارات المجلس ومن أهمها القرارات التي تطرح تحت الفصل أو البند السابع (القرارات الصادرة تحت الفصل السابع تكون ملزمة لجميع دول العالم)، وعادة تقوم الدول الخمس بالاتفاق السابق قبل طرح أي قرار. 

ولإضفاء الشرعية على هذا المجلس قامت هذه الدولُ وعددها خمس، بزيادة مقاعد الدول الأعضاء في المجلس إلى خمسة عشر مقعدًا، أي بتوزيع العشرة مقاعد الإضافية على بقية دول العالم، فيكون الأعضاءُ الخمسة دائمينَ في عضوية المجلس، والعشَرة الآخرون عضويتهم مؤقَّتة تتغيَّر كل سنتين. وعادةً تُتاح العضوية غير الدائمة لبقية دول العالم في مجلس الأمن مرَّة كل 15 سنة أو 20 سنة أو 30 سنة، وَفقَ آلية التصويت. 

ولا شكَّ أن منهجية العضوية غير الدائمة ليست عادلة، فالدولُ الخمس دائمة العضوية تحقِّق مصالحها كما تحبُّ، على حساب 188 دولة أخرى كلها أعضاءٌ في الأمم المتحدة.

‏وتستند خطة العضوية غير الدائمة إلى فلسفة ذكية تُشعر بقية الدول الأعضاء بأن لها قيمةً لوجودها في هذا المجلس، ولكنَّ الواقع غيرُ ذلك؛ فالعضوية المؤقَّتة القصيرة لا تحقِّق مصالحَ تستحقُّ الذِّكر، ‏فالدولة تقضي السنةَ الأولى في معرفة طبيعة عمل المجلس ووسائله، وفي السنة الثانية لا تستطيع تحقيق نتائجَ مُرضية.

وعادةً ما تسعى هذه الدولُ لكسب تأييد الدول الخمس الأعضاء الدائمين التي تستطيع فرضَ رغبتها ومصالحها على الدول مؤقَّتة العضوية، ‏والحال هنا أشبهُ بمولود جديد ما إن يقفُ على قدميه حتى يُنفى.  والجدير بالذِّكر أن الدول العربية لها مقعدٌ دائم في مجلس الأمن، ينقصه حقُّ النقض، بعد أن اتفقت الدولُ العربية منذ أكثر من 40 سنةً على ألا تتنافسَ على عضوية المجلس، وأقرَّت طريقةً تضمن أن تكونَ كلُّ دورة من دورات العضوية غير الدائمة في المجلس موزَّعةً بين الدول العربية في آسيا وإفريقيا. ويجب على الدول العربية أن تقدِّر أهميةَ هذا المقعد، ولو أنها على قلب رجل واحد لاستطاعت المحافظةَ على كثير من مصالحها في مجلس الأمن. أما الجهازُ التالي في الأهمية في الأمم المتحدة فهو جمعيَّتها العامة، وهي الهيئةُ الوحيدة التي تتمتَّع فيها جميعُ الدول الأعضاء (193 دولة) بتمثيلٍ متساوٍ، ‏ولكنَّ قراراتِ الجمعية لا تعدو أن تكون مجرَّد توصياتٍ واقتراحات ليست ملزمة.

الأمم المتحدة والإرهاب
لو أردنا مثالًا لأداء الأمم المتحدة في التصدِّي للمشكلات والقضايا المثارة في العالم، لربما يكون مناسبًا التطرُّق إلى أثرها في محاربة الإرهاب. والحديثُ عن هذا الأثر متشعِّب ذو شجون، ولا يمكن اختزاله في مقال واحد، وإنما سنكتفي بتناول أهمِّ الإدارات المعنية بمكافحة ‏الإرهاب في المنظمة الأممية، وهي: - المديرية التنفيذية للجنة مكافحة الإرهاب التابعة لإحدى لجان مجلس الأمن، وتُعنى بمتابعة تطبيق الدول لقرارات مكافحة الإرهاب الصادرة عن الأمم المتحدة، بواسطة الزيارات الميدانية، وتقديم المشورة اللازمة. - فريقٌ الدعم التحليلي ورصد الجزاءات (فريق الرصد)، يقدِّم المساعدةَ إلى لجنتين تابعتين لمجلس الأمن، هما: لجنة الجزاءات المفروضة على تنظيم داعش في العراق وسوريا وتنظيم القاعدة. - مكتب مكافحة الإرهاب الذي يقومُ بالتنسيق في مراجعة إستراتيجية مكافحة الإرهاب التي أصدرتها الجمعية العمومية، وتراجعها الدول الأعضاء، وتحدِّثها كلَّ سنتين.

ولا يمكن الحديثُ عن أثر المنظمة الأممية في مكافحة الإرهاب دون التطرق لمركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب الذي يُعَدُّ من أهمِّ مبادراتها، وهو الكِيانُ الوحيد الذي يقوم بمساعدة الدول الأعضاء على بناء قدُرات مكافحة الإرهاب. ‏وتُعَدُّ فكرة إنشاء المركز مثالًا حيًّا لظروف إنشاء المنظمات وأسبابها التي تناولناها في السطور السابقة، فقد أُنشئ المركز بسبب أزمة دَولية عانتها دول العالم جميعًا، وهي التطرف والإرهاب. 

وكانت تقدَّمت المملكة العربية السعودية في عام 2005م بمبادرة لإنشاء تجمُّع أو مركز دَولي يُعنى بمكافحة الإرهاب، ويهدِفُ إلى مساعدة كل دول العالم. ولم تسعَ المملكة لتحقيق مصالحَ خاصة لها، ‏وتركت المجالَ للأمم المتحدة، وللدول الأعضاء، وللمجلس الاستشاري للمركز؛ ليضعوا سياسات المركز العامة ووسائل عمله، مع أنها المموِّلُ الوحيد لتأسيس المركز بمبلغ زاد على 110 ملايين دولار أمريكي. 

وقد حقَّق المركز نجاحًا متميِّزًا، وقامت الدولُ الأعضاء الأخرى بدعمه بمبالغَ مالية ليست بالكبيرة، ولكنها أعطت مؤشِّرًا ‏عن دعمهم الفكرة، وحقَّقَت المملكة به تغييرًا للصورة الذهنية لدى دول العالم عن أثرها في مكافحة الإرهاب، وبرهنت أنها في مقدَّمة الدول التي تضرَّرت من الإرهاب، وسعت إلى مكافحته.