تحرِصُ ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانقضاء الحِقْبة النازيَّة، على عدم التسامح مطلقًا مع الجرائم العنصرية والعِرقية. ووصل الأمرُ إلى التعريف بهذه الجرائم والتنفير منها في مقرَّرات المدارس والجامعات؛ حتى لا تنسى الأجيالُ الجديدة تلك الحِقبةَ المؤلمة من تاريخ البلاد! فضلًا عن فرض قُيودٍ على استخدام الشِّعارات أو الرموز النازية، وإصدار تشريعات قوانينَ قوية؛ لمنع الجرائم العنصرية، وصَون المجتمع الألماني من آثار تلك الجرائم الخطِرة على السِّلم المجتمعي.

عودة الحركات النازية
ومع ذلك كلِّه، شهدت ألمانيا عودةَ الحركات النازية العنصرية والمعادية للأجانب، بعد إعادة توحيد ألمانيا في أوائل تسعينيَّات القرن الماضي، ومن أبرزها الخليةُ النازية الإرهابية المتطرفة NSU (الحركة القومية الاشتراكية السرِّية The National Socialist Underground) التي باتت لُغزًا كبيرًا في العِقد الأول من الألفيَّة الجديدة، حتى سُقوطها في عام 2011م، وما صاحبَ ذلك من تطوُّرات قد تكون تهديدًا للسِّلم الاجتماعي في البلاد على المدى البعيد. 

والخلية النازية المتطرفة هي جماعةٌ ألمانية نازية يمينية إرهابية جديدة، وهي من سُلالة النازيين القُدامى، بدأت نشاطها سرًّا في عام 1998م، ولم تستطع السُّلطاتُ الأمنية في ألمانيا الكشفَ عنها إلا في نوفمبر 2011م. وهي تستهدفُ الأجانب والمهاجرين والمواطنين الألمان من أصل أجنبي. 

وترتبط نشأةُ هذه الخلية بثلاثة مؤسِّسين رئيسين، هم: بيته تسشيبه، وأوفي بونهاردت، وأوفي موندلوس، الذين عاشوا سنواتٍ متخفِّين بهُويَّات مزيَّفة؛ للتحايل على الأجهزة الأمنية، إضافةً إلى عددٍ كبير من المؤيِّدين. وقد أظهرت التحقيقاتُ في مارس 2013م، أن هذه الخليةَ لديها شبكةٌ كبيرة نسبيًّا تقدِّم لها الدعمَ والمساندة؛ إذ أشارت بعضُ وثائق سُلطة الأمن الألمانية السرِّية إلى أن 129 عضوًا من التيَّار اليميني المتطرِّف ساعدوا الحركةَ على مدار السنوات التي نشِطَت فيها؛ بتزويدها بالمال والسلاح والهُويَّات المزيَّفة. 

واستمرَّت الخليةُ تمارس نشاطها في سرِّية تامَّة قرابة 13 عامًا، في ظلِّ نجاح أعضائها في التهرُّب من السُّلطات طَوالَ تلك السنوات، وعدم إعلان مسؤوليتها عن العمليات الإرهابية التي تورَّطَت فيها، والتي لم تُكتشَف إلا بعد انتحار اثنين من المؤسِّسين، هما: بونهاردت وموندلوس في 4 نوفمبر 2011م عقِبَ عملية سَطوٍ مسلَّح على أحد المصارف الألمانية باءت بالإخفاق، وقيام المتَّهمة الثالثة الرئيسة تسشيبه بتسليم نفسها إلى السُّلطات الأمنية الألمانية، بعد أن أشعلت النيرانَ في مسكنهم المشترك؛ لإتلاف جميع الأدلَّة التي تُدين أعضاء الخلية. وبثَّت الخلية مقطعًا مرئيًّا انتشر على نطاق واسع تعترفُ فيه بمشاركتها في هذه الجرائم.

بدايات التطرُّف
اتجه المؤسِّسون الثلاثةُ إلى التطرُّف منذ أوائل تسعينيَّات القرن الماضي، في مِنطَقة جينا - وهي جزءٌ من ألمانيا الشرقيَّة سابقًا - وسَرعان ما انضمُّوا إلى "منظمة حماية التراث التورينجي Thuringer Heimatschutz " المتطرفة التي أُسِّست في عام 1994م بولاية تورينجيا، وكانوا على اتصال مع مجموعات من النازيين الجدُد المتطرفين قبل أن يؤسِّسوا الخليةَ النازية الجديدة. 

وتلقَّت الخليةُ في بداية تأسيسها دعمًا قويًّا من قِبَل عددٍ كبير من النازيين الجدُد على ما تقدَّم، ومن شبكة النازيين الجدُد "الدم والشرف Blood and Honour"، التي هيَّأت الإقاماتِ وجوازات السَّفر والمساعدات الطبِّية، وربما السلاح أيضًا. واللافتُ أن بعض أعضاء هذه الشبكة من المنتمين إلى الشُّرطة ووَكالات الاستخبارات المحلِّية (العُملاء السرِّيين)، ومن أبرزهم: تينو براندت، ومارسيل ديجنر، اللذان عملا في الخدمة السرِّية المحلِّية في ولاية تورينجيا، ممَّا أثار أسئلةً كثيرة عن طبيعة العَلاقة بين الأجهزة الأمنية وهذه الحركات الإرهابية الجديدة. وقامت "فرقة الروك النازية الجديدة Gigi und die braunen stadtmusikanten" بتمجيد عمليات القتل التي نفَّذتها الخليةُ النازية الإرهابية، في أغنيَّتهم دونر القاتل Doner Killer عام 2010م. 

الفكر والأهداف
انطلقت أفكارُ هذه الخلية منذ التقاء مؤسسيها في مِنطقة جينا الشرقية، وارتبطت بطبيعة الأوضاع التي كانت تمرُّ بها ألمانيا في تسعينيَّات القرن الماضي؛ إذ باتَ التحوُّل إلى النازية الجديدة في ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين أحدَ مظاهر التمرُّد الشبابي على الدولة. وبعد سقوط جدار برلين في عام 1989م أضحت النازيةُ الجديدة إحدى قنوات التعبير عن الغضب من جمهورية ألمانيا الاتحادية، ومن هنا رفضَ الأعضاءُ المؤسسون للخلية النازية الإرهابية الهُويَّة الألمانية الغربية الجديدة، وهم يعُدُّون أنفسَهم جنودًا يشاركون في النضال السياسي؛ لتغيير النظام وإزالة الجمهورية الاتحادية. وأنشؤوا شبكةً من الرفاق مُلتزمين بالأفعال وليس بالأقوال، ويرَون أن أنشطتهم مستمرَّة ما لم يتغيَّر النظامُ السياسي، وما لم ينالوا الحرية في التعبير.

ونضِجَت هذه الأفكارُ وأسهمت في نموِّ مشاعر الكراهية والعَداء للأجانب، ولا سيَّما المهاجرين الأتراك، الذين أطلقت عليهم لقبَ "أعداء الأمَّة الألمانية". ويسعى أعضاءُ الخلية إلى نشر الخوف، واضطراب الأمن في مجتمعات المهاجرين، وزعزعة الشعور بالأمان لدى الأشخاص المنحدِرين من أصل تركي في ألمانيا. ويدلُّ نشاط الخلية الإرهابية على موقف فكري يميني متطرِّف، يناصبُ العَداءَ والكراهية للأجانب عمومًا، ويكشف عن إخفاق الدولة الألمانية في مقاومة هذه الأفكار المتطرفة، والتصدِّي لسلسلة الهجَمات الإرهابية التي تورَّطَ فيها عناصرُ أسَّست في نهاية المطاف حركةً نازية جديدة متطرِّفة. 

النشاط الإرهابي 
تورَّطت الخليةُ النازية الإرهابية في قتل المهاجرين، وفي التفجير، وسرقة المصارف. وفيما بين 1998م و2011م ارتكب أعضاؤها عشرَ جرائم قتل؛ فقد أطلقت النارَ على ثمانية أشخاص من أصل تركي، وشخص آخرَ من أصل يوناني. وتورَّطت في ارتكاب ثلاث هجَمات بالقنابل، وخمسَ عشرةَ عملية سطوٍ مسلَّح على المصارف، دون أن تعلنَ مسؤوليَّتها عن أيٍّ من هذه الحوادث حتى سقوطها في نوفمبر 2011م. وقد وقعَت هذه الجرائمُ في سبع مدن ألمانية مختلفة، وفي أوقات متباعدة تصل إلى شهور أو سنوات؛ مما صعَّب الربطَ بينها وكشفَها.

ففي يناير 2001م انفجرت قنبلةٌ في محلِّ بقالة لعائلة إيرانية بمدينة كولونيا الغربية؛ وأدَّى الانفجارُ إلى إصابة شخص. وفي يونيو من العام نفسه قُتل مواطنٌ تركي بالرصاص في مَتجَره بمدينة نورمبرغ، وبعد أيام قليلة قُتل آخرُ في هامبورغ. وفي أغسطس قُتل تركيٌّ ثالث في ميونيخ. وفي فبراير 2004م لقيَ شخصٌ تركي رابعٌ مصرعه بعد إطلاق الرصاص عليه في مدينة روستوك الشَّمالية. وفي يونيو من ذاك العام أُصيب أكثرُ من 20 شخصًا في هجوم على شارع مُزدحم بالمتسوِّقين المهاجرين في كولونيا. 

وفي يونيو 2005م لقيَ مواطنٌ تركي مصرعه بعد إطلاق النار عليه في نورمبرغ. وفي أبريل 2006م قُتل شخصٌ آخرُ في مدينة دورتموند الغربية. وقُتلت شُرَطية ألمانية في أبريل 2007م. وفي نوفمبر 2011م أخفقت محاولةٌ للسَّطو المسلَّح على مصرِف في مدينة آيزناخ المركزية قبل العثور على العضوين المؤسِّسَين للخلية موندلوس وبونهاردت جثَّتين محترقتين داخل حافلة كانا يختبئان فيها، بعدما أطلق الأولُ الرصاص على الآخَر قبل أن يحوِّلَ السلاح إلى نفسه؛ خشيةَ السقوط في أيدي السُّلطات الأمنية. واستسلمت المتَّهَمة الثالثة للشرطة الألمانية، بعد أن تخلَّصت من الأدلَّة التي يمكن أن تُدينَها في التحقيقات.

انتقاد السُّلطات
تلقَّت أجهزةُ الشرطة والاستخبارات الألمانية موجةً من الانتقادات؛ بسبب خيبة أملها في الكشف عن الخلية النازية الإرهابية، التي تورَّطت في كثير من العمليات الإرهابية. ووُصِفت القضية بأنها إحدى أكبر إخفاقاتِ جهات إنفاذ القانون الألماني والأجهزة السرِّية، مما أثارَ التوقُّعات بشأن صلةٍ وثيقة بين الأجهزة السرِّية والحركة النازية الجديدة، وألقى الضوءَ على العُنصرية الهيكلية البغيضة داخل وكالات إنفاذ القانون في البلاد، فضلًا عن إلهاءِ المجتمعات المحلِّية عن المتورِّطين الحقيقيين في هذه العمليات. 

وعدَّ كثيرون تحقيقاتِ الشرطة الألمانية في هذه الجرائم هزليةً، وأن هناك تباطؤًا أو تواطؤًا من قِبَل السُّلطات في سُرعة الوصول إلى الإرهابيين؛ إذ لم ترَ السُّلطات الأمنية أيَّ صلة بين عمليات القتل العشر وهجَمات السَّطو المسلَّح؛ وأرجعَ المحقِّقون في البداية جرائمَ القتل إلى مافيا تركية محلِّية، وادِّعاء تورُّط الضحايا في أنشطةٍ إجرامية، مثل: الجريمة المنظَّمة، وتجارة المخدِّرات، والاتِّجار بالبشر؛ ممَّا جعلهم أهدافًا للجماعات الإجرامية. وألقت السُّلطاتُ باللَّوم على أهالي الضحايا؛ لعدم تعاونهم مع الأجهزة الأمنية، قبل أن تحوِّلَ شُكوكها نحو المتطرفين اليمينيين. ففي أغسطس 2013م انتقدَ تقريرٌ برلماني نهائي في ألف صفحة أجهزةَ الأمن؛ لغياب التنسيق بين السُّلطات الأمنية المختلفة، وعدم ربط جرائم القتل بالجماعات العنصرية، مما سمحَ للخلية النازية بمواصلة سلسلة أعمالها الإرهابية أكثر من سبع سنوات.

ولا يزال الغموضُ قائمًا في قضيَّة أندرياس ضابطِ المخابرات في ولاية هيس، الذي كان جالسًا في مقهى للإنترنت في كاسل، يوم 6 أبريل عام 2006م، عندما لقيَ هاليت يوزغات مصرعهُ بالرصاص، وادَّعى أندرياس جهلَه بوقوع الجريمة، وقد أثار هذا مخاوفَ المسؤولين من تواطُؤ وكالة الاستخبارات المحلِّية مع الخلية النازية الإرهابية، ويدلُّ على ذلك، الدعم الماليُّ المشبوه لعُملاء الخدمة السرِّيين لمساندة النازيين الجدُد. 

ويُضاف إلى ذلك تورُّط بعض الأجهزة الأمنية في التخلُّص من المِلفَّات والوثائق التي يتجاوز عددُها 400 وثيقة ذات صلة بالقضية؛ بحُجَّة حماية العُملاء السرِّيين، ومنع أسرار الدولة من التداول والانتشار عَلانية. مما أدَّى إلى استقالة رئيس وكالة الاستخبارات المحلِّية الألمانية هاينز فروم، في يونيو 2012م، بعد احتجاج دامَ عامًا كاملًا؛ بسبب إتلاف وكالته للوثائق المتعلِّقة بقضية الخلية النازية الإرهابية.

في المقابل أجرت الحكومةُ الألمانية حُزمةَ إصلاحات مؤسَّسية عقِبَ ظهور العمليات الدموية التي تورَّطَت فيها الخليةُ الإرهابية، وإخفاقِ الأجهزة الأمنية في الكشف عنها طَوالَ هذه المدة؛ بهدف تعزيز نهج السُّلطات الألمانية في مواجهة التطرف اليميني. 

وأبرزُ الإجراءات الرئيسة للإصلاح: تحديدُ جوانب هذا النوع من التطرُّف ومخاطره، وإنشاءُ قواعد بيانات مشتركة تضمن تبادلَ المعلومات. وأنشأ البرلمانُ الألماني (البوندستاغ) وعددٌ من برلمانات الولايات الألمانية، لجانَ تحقيقٍ؛ لإلقاء الضوء على إخفاقات السُّلطات الأمنية في هذه القضية، واتَّهَم أعضاءُ البرلمان الألماني المدَّعيَ العامَّ المسؤول هربرت ديمر، بأنه لم يكن جادًّا في التحقيق في الأدلَّة المتعلِّقة بالقضية، وبتورُّط عدد من عملاء الخدمة السرِّية المحلِّيين في مساعدة الخلية النازية الإرهابية.

ومع ذلك يظلُّ المشهد اليميني المتطرف يتَّسعُ اتساعًا ملحوظًا في المجتمع الألماني، حتى أضحى يضمُّ نحو 24 ألف شخص، وَفقًا لوكالة الأمن الداخلي التابعة للحكومة الفيدرالية الألمانية.

أطول المحاكمات 
تُعدُّ محاكمةُ الخلية النازية الإرهابية من أطول المحاكمات في تاريخ ألمانيا؛ فقد استمرَّت نحو خمس سنوات، بدأت في شهر مايو عام 2013م حتى شهر يوليو عام 2018م، واستمعت فيها المحكمةُ لنحو 815 شاهدًا، وأجرت مقابلاتٍ مع 42 خبيرًا، قبل أن يصدُرَ الحكمُ على المتَّهمة الرئيسة بالسَّجن مدى الحياة؛ لإسهامها في عشر جرائم قتل وسرقة، وتشكيل منظمة إرهابية، والنشاط فيها. إضافةً إلى أربعة متَّهمينَ بتقديم الدَّعم إلى الخلية الإرهابية، تلقَّوا أحكامًا تتراوح بين عامين ونصف وعشَرة أعوام؛ بتُهَم مساعدة منظمة إرهابية، وتوفير السِّلاح، والهُويَّات المزيَّفة لأعضائها. 

وظهرت بيته تسشيبه أول مرَّة في قاعة المحكمة في ميونيخ في 6 مايو 2013م، ولم تتحدَّث طَوالَ مدَّة محاكمتها سوى مرَّتين فقط. نفت في البداية المشاركةَ في جرائم القتل، مدَّعيةً أنها كانت مجرَّد مُشاهد، وأكَّدت لعائلات الضحايا أنها كانت رحيمة، لكنَّها اعترفت بالذنب الأخلاقي، وبعدم بذل الجهد الكافي لوقف عمليات القتل. وزعمت أن أفكار النازيين الجدُد لم تعُد تعني لها شيئًا. ورفضت محكمةُ العدل الاتحادية الألمانية الطعنَ بقرارات المحكمة في الحكم على تسشيبه في أغسطس 2021م. 

في الختام 
إن صعود هذه الحركات الإرهابية وما تتبنَّاهُ من أفكار متطرفة، قادتها إلى التورُّط في عمليات إرهابية أسفرَت عن قتل عددٍ من الأشخاص، هو تحدٍّ كبيرٌ للسِّلم الاجتماعي في ألمانيا؛ إذ تختبرُ هذه التهديدات نُضجَ الديمقراطية الألمانية، ومدى تماسُك المجتمع الألماني في مواجهة تلك الأفكار المتطرفة. وهو ما يستدعي إعادةَ التقويم الجادِّ لمخاطر الإرهاب، الذي يستهدفُ المهاجرين والأقلِّيات في مجتمعات من المفترض أن تكونَ حرَّة وآمنة للجميع، من أجل تعزيز سُبل مواجهة التطرف اليميني، الذي يُبرز الكراهيةَ في أجزاءٍ من النسيج الاجتماعي الألماني، ومنها إعادةُ هيكل السُّلطات الأمنية في المرحلة المقبلة.