تُعَدُّ الأدلَّة والمؤشِّرات بصورة عامة من أهمِّ وسائل دراسة قضايا العالم المعاصر لسبر أغوارها وتبيان محددات المعالجة أو التطوير واستشراف المآلات المستقبلية لها، وتزداد أهمية المؤشرات في حالة الأمن المجتمعي والإنساني لمعرفة التهديدات المحتملة وواقعها وأخطارها، وفهمها واستيعابها؛ للتخطيط لمستقبل وحياة أفضل، خالٍ من العنف والتطرف والإرهاب. ويُبيِّن هذا المقالُ منهج إعداد المؤشِّرات بمراحلها السبع، وما تقدِّمه من قياسات كمِّية ونوعية، ثم يعرض مكوِّنات مؤشر الإرهاب العالمي الذي يقيس أثرَ الحوادث الإرهابية، ويستعرض حالةَ الدول الأكثر تعرضًا للإرهاب وفق بيانات الإصدار الأخير لهذا المؤشر، ويقدِّم توصيات مهمَّة بهذا الشأن.

القياس والمؤشرات

من العصي على الإنسان القياس الكمي لكامل الأشياء والظواهر من حولنا؛ إذ إن التحليل النوعي متطلب أساسي يسد ثغرة لا تنهض بها الحقائق الكمية، ومع ذاك فإن الكمية عنصر لازم للقياس وبناء المؤشرات الكمية التي تحدد نتائج قابلة للتحليل والقياس الزماني والمكاني، ومن ثم تقدم حقائق معرفية تشكل مرتكزًا رئيسًا للتطوير والتحسين في المجالات المحددة.

ولتطبيق القياس تطبيقًا صحيحًا ومُجديًا يجب أن يُقاسَ كلُّ ما يستحقُّ القياس، ولا بدَّ من الإجابة بدقَّة قبل عملية القياس عن سؤالين هما: ماذا نقيس؟ وكيف نقيس؟

وبالإجابة عن السؤال الأوَّل يتبيَّن أن القياس يتضمَّن قسمين رئيسَين متكاملين: أحدُهما يهتمُّ بقضايا الحياة، والآخرُ يختصُّ بموضوعات التقنية. أمَّا كيفيَّةُ القياس فهي على قسمين أيضًا: القياس الكمِّي، والقياس النوعي. وتشمل قضايا الحياة جوانبَ ترتبط بالإحصائيات التي تُعطَى بمؤشِّرات كمِّية، مثل: عدد السكَّان، وحجم الناتج المحلِّي الإجمالي، وحجم الصادرات والواردات، وحجم الخِدْمات المختلفة؛ التعليمية والصحِّية والاجتماعية، وغير ذلك. وجوانبَ تتعلَّق برأي أصحاب العَلاقة بنوعية الأعمال، ونوعية السِّلع، ونوعية الخِدْمات التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، وهي مرتبطة بمؤشِّرات القياس النوعية التي تتطلَّب دراساتٍ مسحيةً لعيِّنات من آراء أصحاب العَلاقة، كي تُقدِّم القياسَ المنشود.

وكذلك الموضوعاتُ التقنية ترتبط بقياس الأشكال الخارجية والإمكانات الفنِّية لمختلِف التقنيات، مثل: الأبعاد، والقوَّة، والسرعة، وغير ذلك، ممَّا يُقاس بمؤشِّرات كمِّية، وتتضمَّن أيضًا جوانبَ تتعلَّق برأي أصحاب العَلاقة في جَودة التقنية، وسهولة استخدامها، وغير ذلك. وتجدُر الإشارة إلى أن دقَّة القياس في المؤشِّرات النوعية في قضايا الحياة وموضوعات التقنية، تعتمد على حجم عيِّنات الدراسات المسحية وحُسن اختيارها.

وتُصدر المنظَّماتُ الدَّولية مؤشِّرات لقضايا الحياة المختلفة، وتضعها في مجموعات تستخلص منها مِقياسًا يُمثِّل مؤشرًا إجماليًّا يُعبِّر عن الحالة العامَّة لمؤشِّرات المجموعة. ويُقدِّم الجدول المثبَت أربعة أمثلة على مؤشرات عالمية في قضايا الحياة، مُستخدَمة على نِطاق واسع، وهي: مؤشر التنمية البشرية، ومؤشر الابتكار العالمي، ومؤشر ملاحظة الفساد، ومؤشر الإرهاب العالمي. ويُبيِّن الجدول عددَ المؤشِّرات الفرعية في كلِّ مؤشر، والجهةَ التي تُصدره سنويًّا.

إعداد المؤشرات

يجري إعدادُ المؤشرات وَفقًا للمراحل المنهجية السبع الآتية:

  • المرحلة الأولى: تحديدُ القضية أو الموضوع في إطار المجال المطلوب قياسُه.
  • المرحلة الثانية: تحديدُ المؤشِّرات التي تُعبِّر عن الجوانب المختلفة المرتبطة بالقضية المطلوبة والمؤشر العام المستهدَف.
  • المرحلة الثالثة: تحديدُ مدى أثر كلِّ مؤشِّر في القضية المدروسة، ويُعبَّر عن هذا الأمر بوزن المؤشِّر الفرعي في نطاق المؤشر العام.
  • المرحلة الرابعة: قياسُ كلِّ مؤشِّر من المؤشِّرات على أرض الواقع، وتشمل هذه المرحلةُ أيضًا وضعَ مؤشر مبدئي يضمُّ جميع المؤشِّرات على أساس أوزانها.
  • المرحلة الخامسة: تحديدُ أثر قياسات السنوات السابقة للمؤشر المبدئي في الواقع، وتحديد أوزان الأثر لقياسات كلٍّ من هذه السنوات.
  • المرحلة السادسة: إجراءُ القياسات على دول العالم المستهدَفة، واستخراجُ مؤشر تحضيري لكلِّ دولة يستند إلى دمج قياسات المؤشرات المبدئية للسنة المستهدَفة الأخيرة والسنوات السابقة ذات العَلاقة.
  • المرحلة السابعة: تحويلُ المؤشرات التحضيرية لدول العالم المختلفة إلى مؤشرات نهائية، لها مجالُ قياس محدَّد، قد يبدأ على سبيل المثال بـ (0) ويصل في قيمته العُظمى إلى (10). 

 

الإرهاب وقياس المخاطر

إن مقاومة الأخطار عمومًا، والهجَمات الإرهابية خصوصًا، يحتاج إلى فهمها بعُمق، واستيعاب مضامينها، ومن سُبل تحقيق ذلك إجراءُ القياس ووضع مؤشِّرات كمِّيَّة ونوعية لها. يقول اللورد كلفن Kelvin: «أن تقيسَ يعني أن تعرف؛ فإن لم تستطع قياسَ أمر ما فلن تستطيعَ تطويره». ويقول أينشتاين: (ليس كلُّ ما يستحقُّ القياس قابلًا للقياس؛ وليس كلُّ ما يُقاس يستحقُّ القياس).

ولا شكَّ أن دراسة ظاهرة الإرهاب والهجَمات الإرهابية تحديدًا تحتاج إلى رؤية شاملة تأخذ في الاعتبار العواملَ المختلفة، وتقيسُها على أساس الأثر والتأثُّر؛ لتستخلصَ النتائج، وتضعَ التوصيات اللازمة لتعزيز الأمن والأمان.

وقد قسَّم المنتدى الاقتصادي الدَّولي (WEF) الأخطار المحتمَلة في العالم، في تقريره الخاصِّ بها عام 2023م، إلى خمسة أخطار: اقتصادية، وبيئية، وجيوسياسية، ومجتمعية، وتقنية، وبيَّن أن الأخطار الجيوسياسية ينبثقُ عنها أربعة أخطار رئيسة، هي:

  1. الصراعُ بين الدول: ويشمل الصراعاتِ الثنائيةَ أو متعدِّدة الأطراف، والهجَمات السيبرانية، والحروب بالوكالة.
  2. إخفاقُ الدول أو عدم الاستقرار: ويُقصَد به احتمالُ سقوط الدول نتيجةَ ضعف المؤسسات، وغياب حُكم القانون، وحدوث القلاقل وربما الانقلابات العسكرية، أو ضعف استقرار المناطق المحيطة، والأثر الدَّولي في ذلك.
  3. استخدامُ أسلحة الدَّمار الشامل: ويتضمَّن استخدامَ الأسلحة البيولوجية، والكيميائية، والإشعاعية، والنووية، والأسلحة المسيَّرة بالذكاء الاصطناعي، والأسلحة السيبرانية.
  4. وقوعُ الحوادث أو الهجَمات الإرهابية: وتكون واسعةَ النطاق أو محدودة النطاق، لكنَّها متكرِّرة وتؤدِّي إلى إصابات وخسائرَ في الأرواح والممتلكات.

ويزداد خطرُ الهجَمات الإرهابية بازدياد الأخطار الاقتصادية والمجتمعية التي تهيِّئ البيئةَ لظهور التناقضات الفكرية والسياسية والدينية والثقافية، ويُتيح التقدُّم المتواصل للوسائل التقنية للجماعات الإرهابية الحصولَ على أسلحة متجدِّدة تزيد من أذى هجَماتها.

 

مؤشر الإرهاب العالمي

بناء على هيكلة بناء المؤشرات العالمية ومراحلها السبع، نستعرض فيما يأتي مؤشر الإرهاب العالمي، من أجل فهم جوانبه المختلفة، مع استعراض حالة الدول الأكثر تعرضًا له، وسنناقش بعد ذلك بعضَ شؤون مستقبل مؤشِّرات الإرهاب.

إذا بدأنا بالمرحلة الأولى لإعداد مؤشر الإرهاب العالمي، وهي مرحلةُ تحديد القضية المطلوب قياسُها، وجدنا أن قضية هذا المؤشر هي قياسُ أثر الحوادث الإرهابية.

وبالانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي الخاصَّة بتحديد مؤشِّرات القياس المطلوبة لهذا الأثر، نجد أن المؤشِّرات المختارة لذلك شَمِلَت الآتي:

  1. عددَ الحوادث أو الهجَمات الإرهابية.
  2. عددَ الوَفَيات الناتجة عن هذه الحوادث.
  3. عددَ الإصابات الناتجة عن هذه الحوادث.
  4. عددَ المحتجَزين رهائنَ في هذه الحوادث.

وفي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة تحديد أثر كلِّ مؤشِّر بما يُعبَّر عنه بوزن مؤشِّر السنة التي يُنفَّذ فيها القياس، نجد أن جميع المؤشِّرات السابقة قد وُضعت لها أوزان، وحظيَ مؤشِّر القتلى بوزن مئوي قدرُه %60 من مُجمَل الأثر.

وفي المرحلة الرابعة، قيست كلُّ المؤشِّرات، مع وضع مؤشرها الإجمالي المبدئي الذي يُمثِّل أثرها العامَّ في أساس أوزانها.

وفي المرحلة الخامسة، وهي مرحلة تحديد أثر السنوات السابقة، شَمِلَ مؤشر الإرهاب العالمي أربع سنوات سابقة؛ وذلك لأن أثرَ الإرهاب الذي يشمَل تنفيذ هجَمات ووقوعَ قتلى وإصابات واحتجاز رهائن يبقى سنوات عدَّة بعد حدوثه. وقد وُضعَت أوزانٌ لأثر الإرهاب في كلِّ سنة بناءً على مبدأ تناقص الوزن كلَّما ابتعدت السنة عن زمن القياس الأخير.

وفي المرحلة السادسة، أُجريت القياساتُ على دول العالم المستهدَفة بالقياس، واستُخرجَ مؤشر تحضيري لكلِّ دولة، يستند إلى دمج قياسات المؤشر المبدئي للسنة المستهدَفة الأخيرة مع مؤشرات السنوات السابقة.

وفي المرحلة السابعة، وُضعَ مؤشر الإرهاب العالمي التحضيري لجميع الدول الناتج عن المرحلة السابقة في إطار مِقياس بين القيمة (0) والقيمة (10)، وبذلك أصبح المؤشر مكتملًا. وفي هذه المرحلة جُعل نطاق المؤشر بين القيمتين العليا والدنيا لوغاريتميًّا لرصد الاختلاف بين حالات الدول.

وعلى أساس قِيَم الدول في المؤشر النهائي، يجري ترتيبها، وتحتلُّ الدول الأكثر تأثُّرًا بحوادث الإرهاب المراكز المتقدِّمة. وتجدُر الإشارة إلى أن تشابه حالات بعض الدول جعل ترتيبَ الدول ينقسم إلى (93) مرتبة، وليس إلى (163) مرتبة، وهو عددُ دول العالم التي استُهدِفت في هذا المؤشر.

ويُظهر الجدول الأعلى قيمةَ المؤشر للدول العشر الأولى في إصدار عام 2023م.

آفاق المستقبل

كلَّما ازدادت الأخطارُ الاقتصادية، والبيئية، والجيوسياسية، والمجتمعية، والتقنية، التي تواجه دول العالم، ولا سيَّما أخطار الصراعات التي تشمل الهجَمات الإرهابية بآثارها المؤلمة، تجلَّت أهميةُ الأدلَّة والمؤشِّرات، فهي وسائلُ أساسية لدراسة القضايا المختلفة وفهمها واستيعاب مضامينها؛ للتخطيط للمستقبل وتحسينه، انطلاقًا من قاعدة معرفية واضحة مُعزَّزة بالأرقام. 

وقد اهتمَّ المؤشر العالمي للإرهاب بأثر الأحداث الإرهابية، دون أن يتناولَ أسباب الإرهاب ومصادره، ومع كثرة الدراسات في هذا المجال تبقى الحاجةُ شديدةً إلى نظرة شاملة للإرهاب تعالج المشكلة بالاستفادة من جميع الدراسات السابقة، والعمل على وضع أدلَّة ومؤشِّرات تُحيط بكلِّ جوانبه، من أجل تطبيقها على أرض الواقع، واستثمار نتائجها في التخطيط لمستقبل خالٍ من الإرهاب، تنعُمُ فيه المجتمعات بالطُّمَأنينة والسلام، وتتمتَّع بالأمن والأمان.